عندما نطق الزلزال


 

بسم الله الرحمن الرحيم

هكذا باح باطن الأرض بما في نفسه، ونفثت أعماق المحيط نَفثتها التي تعبّر عن مكنون صدرها، وهكذا تحدث الزلزال بلسان الدَّمار حديثاً هزَّ العالم كلَّه، وحرَّك مشاعر الخلق أجمعين، حديثاً صاخباً قوياً جارفاً لم يستخدم فيه الزلزال وسيلة إعلامية، ولا مكبِّرات صوت، ولا منصَّات إلقا، ولم يأمر فيه بجمع آلاف الجماهير للإصغاء إلى ما يقول، والتصفيق الزائف وغير الزائف لما يلقي.

 

بل كان حديث الزلزال حديثاً قوياً هائلاً نطق بكلمة ليست من جنس كلماتنا، ونفث آهةً ليست من جنس آهاتنا، فحرَّك الجميع، وهزَّ الجميع، وقضى على مئات الآلاف من الذين استمعوا إلى أولى كلماته، وبدايات صرخاته، الذين صكَّت مسامعهم أولى زفراته.

 

عندما نطلق الزِّلزال سكت العالم كلٌّه، صَغُر العالم كلٌّه، أدرك الواعون من البشر مدى ضآلة وصغر الكرة الأرضية التي يتعبون في التنقٌّل بين أرجائها، أحسٌّ أصحاب العقول أنَّ جميع القُوى البشرية العالمية المتباهية بقوتها تصبح ضعيفةً واهنةً ذليلةً أمام زلزالٍ, واحد، أطلق كلمته في لحظة واحدة.

 

قالوا: إنَّ قوَّة انفجار كلمة زلزال المحيط (الهادي) تعادل قوَّة مليون قنبلةٍ, نووية، وقالوا: لولا أنَّ نَفثَةَ هذا الزلزال كانت في أعماق المحيط لاهتزت لها أرجاء الكرة الأرضية كلها، وقالوا: إنَّ ارتفاع أمواج البحر التي حرَّكتها نَفثَةُ الزلزال ونفختُه، وأجفلتها صرخته بلغت ما يقارب أربعين متراً..وقالوا: إنَّ سرعة الأمواج الجافلة الفارَّة من لهب نفخة الزلزال بلغت ما يقرب من ثمانمائة كيلو متر في الساعة، وقالوا كلاماً كثيراً عن مظاهر برزت للناس من آثار (خطبة الزلزال القصيرة) التي تُعَدٌّ أقصر خطبة مؤثرة شديدة الاختصار عرفتها البشرية منذ مئات السنوات، وأشاروا إلى أنَّ تلك المظاهر فوق مقدرة الاستيعاب البشري، وفوق قدرة الإنسان الوصفية، فهي لا توصف، ولا يمكن أن يجد أبلغ البلغاء عبارة مناسبة لوصفها أبداً، وقالوا: إنه شيء رهيب، شيء مخيف، شيء مرعب، شيء لا يمكن للعقل البشري أن يتخيَّله.

 

قالوا ذلك كلَّه، فماذا نقول؟:

 

نقول: إنَّ غفلة الإنسان المعاصر قد جرفته إلى منحدرات خطيرةٍ, من الغرور، والعصيان، والتمرٌّد، والمكابرة، والتسلٌّط، والطغيان جعلته ينسى أنَّه صغيرٌ صغيرٌ بالنسبة إلى هذا الكون الكبير، وجعلته يجنح إلى التفسير المادي لكلِّ ظاهرة كونية عظيمة، ظانَّاً أنَّه قد أمسك بزمام أسرار الكون كلِّها، وأنه قادرٌ على التصرٌّف فيها، ناسياً أنَّ جميع ما وصل إليه من العلوم والاختراعات المذهلة بالنسبة إليه، لا تساوي إلا شيئاً يسيراً إذا قيست بما أودع الله - سبحانه وتعالى - في هذا الكون من العجائب والأسرار.

 

ونقول: إنَّ مثل هذه الخطبة الزِّلزالية القصيرة جديرةٌ بأن توقظ قلوب الغافليبن، وتحرِّك نفوس اللاَّهين، وتُعيد الطغاة المتجبِّرين إلى صوابهم، وتجعل الإنسان المعاصر- إن كان ذا ضمير حيّ- يعيد النظر في مسيرته الماديَّة المتهوِّرة التي تنأى به عن طريق الله المستقيم.

 

ونذكِّر البشر جميعاً بأن كتاب الله - عز وجل - قد تضمَّن إشارات واضحة إلى مظاهر عظمة الخالق وقدرته وقوته في آيات قرآنية كريمة تُتلى إلى قيام الساعة، وإنما يجب على البشر أن يعودوا إلى منابع العلم الصحيح ومصادره ليدركوا أنهم صغيرون أمام عظمة الذي بيده ملكوت كلّ شيء.

 

يقول ابن القيِّم: قد يأذن الله في بعض الأحيان للأرض أن تتنفَّس فتحدث فيها الزلازل العظام لتذكير بني آدم، وإنذارهم، وتحذيرهم من عواقب انحرافهم وعصيانهم.

 

يا تُرى: هل قرأ النّاس في هذا العصر رسالة الأرض، وهل سمعوا خطبة الزلزال العصماء بهذه الروح الحيَّة التي أشار إليها ابن القيِّم - رحمه الله -.

 

إشارة:

واتصل بالله ما خاب فؤادٌ *** لاذ بالله وما خاب صَبُورُ

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply