أساطير وألفاظ العبث بالمقدسات في الشعر الحديث


 

بسم الله الرحمن الرحيم

مــدخــل:

ما الفارق بين الحداثة والتحديث في الشكل؟..وهل محاكمة الإبداع الأدبي ـ على ضوء الإسلام ـ تكون في مضمونه فقط أم مضمونه وشكله؟

 

إن الإجابة عن هذين السؤالين تعد ضرورية قبل الدخول في النقطة المذكورة في العنوان..

 

إن الحداثة تيار أدبي له ارتباط بمذهب فكري، وقد كثر الخوض فيه وفي مرجعيته الغربية، وثورته على المعتقدات والقيم.. والحديث عنه يطول.. لكن سأقتصر على لفت الأنظار إلى أمرين:

 

 * ليس كل من صُنِّف على أنه \"حداثي\" هو متبنٍ, للحداثـــــة \"فكراً\".

 

 * إن ثمة فارقاً بين \"الحداثة\" و\"التحديث\" في الشكل الأدبي.. وهذا يدعونا لنتساءل: ما المقصود بـ \"الشكل\" في الأدب وما المقصود بـ \"التحديث\"؟

 

 \"الشكل\" هو الوعاء الفني واللغوي الذي يحمل أفكار الكاتب، وأفكار الكاتب هي \"المضمون\" الذي يقابل الشكل.. والشكل مفهوم يندرج فيه شيئان هما: \"بناء النص\": مسرحية، قصيدة.. و\"صياغته\": ألفاظ، جمل، تراكيب، صور بيانية.

 

أما \"التحديث\" فهو التطوير والتجديد..

 

ما العلاقة ـ إذاً ـ بينه وبين الحداثة؟

إن الحداثة ـ لأنها ثورية ـ فقد لازمها التجديد في الأشكال الفنية للنصوص، لكن لا يعني هذا أن تُحارب الأشكال الفنية الجديدة لمجرد أنها واكبت الحداثة.. ! فالشكل الفني ـ في الغالب ـ هو مجرد وعاء، إن ملئ بالحق فهو حق وإن ملئ بالباطل فهو باطل.

لنأخذ مثالاً على ذلك: \"شعر التفعيلة\" وهو شعر موزون، لكنه يقوم على وحدة التفعيلة لا على وحدة البيت، ويُكتب على هيئة أسطر لا أبيات.. مثل: أتعتذر؟ عن القلب الذي مات وحل محله حجر؟

 هذا الشكل لاقى رفضاً من بعض المهتمينº لأنه ارتبط في الأذهان بالحداثة وخروجها عن القيم، لكن الحقيقة أنه مجرد شكل قابل لحمل الفكر السليم وضده، وقد أثبت شعراء الأصالة هذه الخاصية له عن طريق استخدامه في قصائدهم..

في المقابل.. ثمة شكل آخر هو \"قصيدة النثر\" وهي حداثية المنشأ أيضاً، لكنها تقوم على إلغاء خاصية \"الوزن\" التي تفرق الشعر عن النثر، وتكتفي بجماليات التصوير والإيحاء، وهذا الشكل يعد مرفوضاًº لأنه يخلط بين الشعر والنثر بشكل يهدم التراث الأدبي والنقدي، ولأنه يتصل بناحية يجب الحذر منها وهي: أنها قد تكون مدخلاً للتقول على القرآن الكريم بأنه شعر.. وهذا ما يخالف قوله - تعالى -: {وَمَا هُوَ بِقَولِ شَاعِرٍ, قَلِيلاً مَا تُؤمِنُونَ} (الحاقة: 41)

هذه أمثلة تتعلق بالشكل من حيث هو \"بناء\"..

 

نأتي الآن إلى الشيء الآخر الذي يندرج تحت الشكل وهو \"الصياغة\" بما تحتويه من: اختيار لفظ، وبناء جملة، وصور وتراكيب..

هذا النوع هو مدار الجدل في الغالبº لما يقع فيه من تجاوزات..

 

نظرات:

من الملاحظ ولع الشعر الحديث ـ سواء أكان حداثياً أم غير حداثي ـ بالتجاوزات العقدية، والشرعية، والأخلاقية... إذ نجد فيه عبثاً بألفاظ \"الإله، والعبودية، والصلاة... \" ونزعاً للقداسة عنها عن طريق إدراجها في تصاوير ومخاطبات لا تليق، وتعلقاً بالأساطير وإيغالاً في البذاءة والفحش.. تلك التجاوزات التي وصلت إلى حد \"مرضي\" وضاع معها حتى الذوق والأدب..

إن تلك التجاوزات لا تكفل للنص إبداعاً، بل إن بعضها يسهم في إضعافه فنياً، وهم الذين يدعون أنهم يلجؤون إلى ذلك خدمة للفن.. فما الدافع لمثل هذا المنهج.. ؟! لننظر مثلاً إلى هذا النص:

 

أقسمت يا جزائري الحبيبة

 

أن أحمل الصليب

 

أن أطأ اللهيب..

 

هذا النص قاله شاعر مسلم (عبد الوهاب البياتي) وكان يخاطب به ثورة الجزائر.. فأي معيار فني.. عقلي.. يجعله يقول \"أحمل الصليب\"؟!

 

ألا يوحي هذا بأن اللجوء لهذه الأساليب هو محض تقليد للآخرين من ذوي الثقافات الأخرى.. لا غير؟

 

هذا نموذج.. وفي نصوص لآخرين، نجد تعدياً على الذات الإلهية، وعبثاً بألفاظ العبادة، واستخفافاً بالمقدسات، وتعلقاً برموز الأساطير الإغريقية.. !

 

رؤى..

لا يمكن بحال حصر هذه الظواهر أو تحديد قولٍ, فصلٍ, فيها، فمثل هذا يحتاج إلى دراسات، لكني سأسجل نقاطاً هي خلاصة التأمل في هذه المسألة، لعلها تكون مجالاً لنقاش..

 

كثير من شعراء هذا المنهج يفتخر بأنه يسير في هذا الدرب على خطى الشعراء العالميين.

 

ويستشهد بـ \"ت. س. إليوت\" مثلاً ورموزه من آلهة، إلى أساطير.. إلى غير ذلك..

 

الشعراء المسلمون (أصحاب هذا المنهج) نسوا أو تناسوا أن هذا الشاعر الغربي يعاني من \"فراغ روحي\" وأن لجوءه إلى هذه العوالم محاولة منه لتعويض هذا الجدب، وبحثاً عن قرار.. ثم إن تساهله في نسبة أفعال بشرية إلى الإله مردٌّهُ ألا إله حقا يؤمن به.. فكيف يسوغ لشاعر مسلم لديه عقيدة صحيحة أن يتخبط في فضاء العقائد الباطلة ويستدعي آلهتها المزعومة من \"عشتار وكيوبيد... وغيرها\" وكيف يسوغ له إن رأى الشاعر الغربي الكافر يعبث بلفظ الآلهة ـ ولا إله يؤمن به ـ أن يقلده في ذلك وهو يعلم أن إلهه خالق السماوات.. ؟!

 

إن هذه التجاوزات لم تكفل \"إبداعاً\" لقائليها يصح معه ادعاؤهم: أن \"الالتزام يحد من الإبداع\" يتبين هذا حتى في محاكمة النص فنياً لا مضمونياً فقط.. وإلا فأين شاعر من هؤلاء يدعي الإبداع والتجديد، وهو يجتر ثقافات غيره، ويردد في قصائده رمزاً مثل \"عشتار\" أو \"كيوبيد\" تماماً كما يقوله \"الغربي\" بلا فارق، أين هذا من رمز \"الشاهين\" في شعر محمد إقبال - رحمه الله - مثلاً؟ أيهما المبدع؟ الذي \"يقلد\" فيأتي برموز الآخرين أم الذي \"يصنع\" رمزاً مستمداً من بيئته، وثقافته؟!

 

إن الحكم على هذه المخالفات العقدية والتجاوزات الأخلاقية يجب أن ينطلق من عدة أسس منها:

1- أن الإسلام جاء بمنهج حياة، والأدب جزء من هذه الحياةº فهو خاضع لحكم الإسلام.

2- دعوى اختصاص الشاعر بـ \"حرية تعبير\" مردودة، لأنه ما من حصانة تخرج الأدباء والشعراء عن قوله - تعالى -: {مَا يَلفِظُ مِن قَولٍ, إِلَّا لَدَيهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} (قّ: 18) وقوله - صلى الله عليه وسلم -: \"وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم\".

3- فيما يتعلق بتجاوزات الخُلق وخدش الحياء العام، فإن الإسلام جاء بالأمر بستر العورات..

وكشف العورات عن طريق الحديث عنها وتصويرها مخالفة لذلك الأمر وتضييع لحكمة وجوده.. ونستطيع قياساً أن نستند في هذه المسـألة (أن الوصف مثل الرؤية) إلى نهي الرسول - صلى الله عليه وسلم - ـ المرأة أن تصف المرأة لزوجها كأنما ينظر إليها..

4- إن طلب النظر في النص ومحاكمته لا يقتصر على مضمونهº بل يمتد إلى الشكل، فالتوجيه باختيار لفظة على أخرى لأثر إيحائي تعطيه إحداهما دون الأخرى، منهج مستمد من القرآن الكريم: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرنَا... } (البقرة: 104).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply