التربية الإلكترونية ..


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لم تعد مصادر التربية وزرع الأخلاق محصورة على فئة معينة تنحصر في الأب والأم والمعلم، بل -وفي هذا العصر تحديداً- لعبت التكنولوجيا دوراً كبيراً وهاماً في هذا المجال، وأُضيف إلى تلك الفئات مصادر تربوية أخرى تتمثل في الفضائيات والأفلام والمسلسلات، فكان لها الأثر الأكبر في التوجيه التربوي للناشئة، ثم تتابعت العوامل الخارجية التي زاحمت ليكون لها دور في هذا التوجيه، فكان أن وجدت ثورة الاتصالات وما تبعه من إفرازات جبارة وهائلة تمثّلت في الإنترنت وسهولة الاتصال المباشر الحر والمفتوح مع أي شريحة من المجتمع كانت، ومهما كان التباين في الأعمار أو الأجناس حتى اختلط الحابل بالنابل، وتداخلت الثقافات، وامتزجت المبادئ حسنها مع سيئها، وجميلها مع قبيحها، فأصبح الباب مشرعاً على مصراعيه أمام الجميع ليأخذوا من بعضهم ما شاؤوا، فيُستدرج الصغير إلى ثقافات الكبير، وتتلقى المراهقة حكايات المطلّقة.

 

ثم ما لبثت أن توغّلت التكنولوجيا بقوة لتداهم البيوت وعبر الإنترنت ببرامج وتقنيات جديدة تتابعت وتسارعت تسارعَ النار في الهشيمº إذ تجاوزت غرف الحوار عبر الإنترنت مسألة الحوارات المكتوبة بين الأطراف إلى إمكانية ظهور صورة أحدهم للآخر، عبر تقنية (البالتوك) لتمثل وتجسّد ما كانت عليه بغايا الجاهلية ممن يُعرفن بصاحبات الرايات الحمر، فأصبحت غرف (البالتوك) مواخير لفعل الفاحشة، وحظيرة لتعليم الزنا والعياذ بالله.

 

وفي الخط الموازي لهذه التطورات الإلكترونية عبر الإنترنت هناك تسارع مرعب لتكنولوجيا الاتصالات الحديثة عبر أجهزة الهواتف المحمولةº حتى أنتجت لنا هواتفَ تحمل تقنية التصوير الفوتوغرافي والفيديو إلى مدة تصل إلى الثلاث ساعات أي بمعدل شريط فيديو كامل.

 

هذا الحال المزري الذي يتعامل به شبابنا مع الإصدارات الإلكترونية كان إحدى البوابات الرئيسة والعملاقة التي ساهمت في تدهور القيم، وانفلات الأخلاق، كما أنها -أيضاً- أصبحت تمثل سبباً قوياً من أسباب انهدام الأسر وانهيار وتفكّك بيوت المسلمين. وهذا الاستعمال السيئ لتلك التقنيات جعلها مدخلاً جديداً من مداخل الشيطان، الذي سوَّل بها لكثيرٍ, من ضحايا التربية الإلكترونية الخاطئة أن يسيئوا استخدامها بشكل تكون عاقبته وخيمة على الضحية عاجلاً وعلى المستخدم آجلاً..

 

وراح شرها يستشري في المجتمع، فلم تعد تخلو مدارس أو جامعات أو أسواق أو حفلات زفاف من وجود متربصين عابثين وعابثات ممن يمتلكون هذه الأجهزة لكي يقوموا بتصوير المحارم والفتيات والنساء في أوضاع مختلفة، تنبئ عن عدم تنبّه الضحيّة إلى أن هناك من يتربص بهاº ثم تكون الفاجعة عندما تلتقي فنون هذه التقنيات سويًّا ويتم تفريغ هذا المشهد من جهاز الاتصال الهاتفي إلى جهاز الاتصال الإلكتروني ثم القيام بنشره عبر الطريقين: رسائل الهاتف المحمول، وشبكة الإنترنت حتى تجد الضحية نفسها أمام آلاف بل ملايين المتصفحين..

 

هذه الصورة المأساوية سيجد المتصفح للإنترنت مثيلاً لها عشرات بل مئات القصص التي يندى لها الجبين، ولم يتعدّ الأمر مسألة التصوير عن بعد، أو التصوير المتعمد، بل لقد أصبح هتك الحرمات، وإذلال الأسر المسلمة عبر تصوير اغتصاب فتياتهن من المصائب الكبرى الجديدة والدخيلة على مجتمعاتنا الإسلامية، وإننا أمام جرائم كهذه من الخطأ أن يُقال بأنه مرض موجود في مجتمعاتنا العربية بالأصل، وأن التقنية هي التي ساعدت على ظهوره بهذا الحجم، فما يحدث من جرائم اغتصاب لفتيات أو حتى لأطفالٍ, صغار -كما حصل- هو أمر خارج عن المألوف، وهو سابقة خطيرة ستمثّل تهديداً جاداً، ومنعطفًا حاداً لمجتمعاتنا الإسلاميةº إذ إنه وسيلة هدّامة لا تهدم الأسرة فحسبº بل تهدم المجتمع بأكمله إذا ما أصبحت ديدن المنحرفين ومريضي النفوس والشواذ في المجتمع ممن انسلخوا عن المبادئ والأخلاق، حتى وإن تعاطف الكثير مع بعض تلك القضايا الإنسانية ممن وقعن في شراك الاغتصاب والابتزاز كما حصل في إحدى الحوادث، وشُكِّلت من أجلها جماعة تبنت لها موقعاً على الإنترنت أطلقت على نفسها (جماعة سيوف الأعراض) تنادي بجملة واحدة تقول: \"لن نرضى بأقل من رأس الفاعل وأعوانه\"

 

فإن كانت هذه الجماعة قد نشأت مطالبة برأس مجرم واحد من هؤلاء ممن ذاع صيته وتناقلته الصحف والمجلات، فكم مجرمٍ, وكم جماعة سوف تفرزها لنا التربية الإلكترونية الخاطئة!!

وهل ستكون (جماعة سيوف الأعراض) نواة لمنظمة كبرى توازي في مهامها مهام جماعة التوحيد والجهاد في العراق، أو جماعة أنصار الإسلام في جزيرة العرب، أو جماعة الشباب المؤمن في اليمن، أو جماعة التكفير والهجرة في مصر، لتصبح جميع قضايانا الإسلامية والتربوية تُحلّ بوساطة جماعات متخصصة في معالجة كل علَّة تنبت في بلادنا؟! مع الفارق طبعاً في توجه كل جماعة ومدى صدقها..

إن قضايا الفساد الجنسي التي باتت اليوم تشكل هاجسًا قوياً لدى متصفحي الإنترنت مع كونها شكّلت منعطفاً سيّئاً لولادة خُلقٍ, سيّئ، إلا أنها ليست وحدها ما نُشر في المواقع الإلكترونية، وفي رسائل الهواتف المحمولة، فإن ما تزخر به تلك التقنيات من تصويرٍ, لبنات وأعراض المسلمين بغرض اللهو والعبث أمر يفوق التصور الطبيعي للعقل، فلم تعد الرذيلة أمراً صعب المنال، ويحتاج الوصول إليه قطع المسافات أيامًا وليالي، بل هي ساعات ودقائق ولحظات حتى يتكفل أحدهم بأن يهدي أخاه أو صديقه رسالة عبر الهاتف لا يستغرق انتقالها سوى لحظات من الثانية، وثمنٍ, بخسٍ, من النقود..

وهذا النوع من القضايا يضعنا أمام هالة من التساؤلات حول خطر هذه الأخلاق الوليدة في مجتمعاتنا نتيجة ولادة هذه المبتكرات، وتضعنا أمام تفكير جادّ حول انعكاسات ونتائج التربية الإلكترونية الحديثة، والتي كان أثرها المباشر نابع من ذلك العالم المجهول الذي اقتحمت مجتمعاتنا أسواره بغتة دون سابق إنذار أو تهيئة..

ولن يكون علاجها مختصًا بجانبٍ, دون آخر، ولن يردعها فتوى شرعية، بل إن فتوى عاجلة تحرِّم اقتناء هاتفٍ, يمتلك خاصية التصوير ليس هو العلاج الصائب، وليست كهذه الفتاوى العاجلة هي ما ينتظرها مراهق عابث، أو شابٌ طائش، كما أن لغة التحريم المطلق دائماً ما توقع مصداقية العالم أو المفتي في حرج، عندما يكتشف جوانب الصلاح والفائدة في تلك التقنية فيصدر فتوى استدراكية عن جواز اقتناء ذلك الجهاز بضوابط معينة.

كما أنه وفي ظل عصرٍ, بات العالم فيه قرية صغيرة، نكون قد أعلنّا على أنفسنا الحكم بالتوقف عن مجاراة الحياة إن أعلنّا عصياننا على كل مخترعات أو تقنيات تصل إلينا، ونكون قد رفعنا بأنفسنا راية الاستسلام على مواكبة هذا العصرº لأن القادم حتمًا سيكون أصعب وأشد نكالاً، وإن كل تقنية أو مخترع تم اكتشافه لا يمكن إلا وأن يجمع جوانب الخير والشر، وهذه حكمة الله حتى فيمن خلقه - سبحانه وتعالى - وهو الإنسان ذاته، فهو أيضاً وعاء يحمل نفسًا خيِّرة، ونفسًا شريرة، كما أنه ليس من العقل أيضاً أن نتوقع بأن العلاج يكمن في عقارٍ, كيميائي ووصفة سحرية بها سيتوقف مسلسل العبث بأعراض الناس، وتصيّد عوراتهمº لأن سنة الله في الكون تأبى إلا أن يبقى الصراع بين الحق والباطل مادامت الحياة، وأن تستمر المعركة بين الإنسان والشيطان ما بقيت السماوات والأرض، فنكون قد تعدّينا حدود العقل والنقل والمنطق إن أردنا أن نبحث عن علاج جذري لهذه الظاهرة لكي نجتثها ونستأصلهاº فمجتمعات الطهر والنقاء لن تكون إلا في الجنة، أما في الدنيا فهي ساحة صراع لا ينتهي إلا بانتهائها..

ولهذا، فإننا أمام ما يحصل الآن من فوضى أخلاقية أنتجتها التربية الإلكترونية، يجب علينا أن ننظر إلى الجزء الممتلئ من الكأس لنرى بأن ما حدث سيكون محرَّكاً ودافعاً لتمسك الأسرة المسلمة بعفتها، والاحتراز على حياتها من مداخل الشيطان، فإن الله إن أراد بعبده خيراً أدخله الجنة رغم أنفه، وهيأ له أسباب دخولها، وهكذا بنات المسلمين -إن شاء الله- فربَّ حدثٍ, عابرٍ, يتطاير خبره ومأساته ليدخل كل بيت حتى يحرِّك في فتياتنا غيرةً وعودة للالتزام بحجابهن، والحفاظ على أخلاقهن، ما لم تستطع تحريكه مئات الندوات الاجتماعية، و المؤتمرات التربوية..

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply