التعاون بين الدعاة مبادئه وثمراته


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد: فهذا بحث في التعاون في الدعوة وبين الدعاة، شاملاً تعاونهم فيما بينهم وتعاونهم مع غيرهم. يحاول أن يرسم أسس هذا التعاون ومبادئه وأغراضه وثمراته.

أرجو أن يكون فيه ما يحقق البغية والمنفعة، وأن يجعل الله بفضله كل أعمالنا وأقوالنا وعلومنا خالصةً لوجهه الكريم، وموصلة إلى جناته جنات النعيم، إنه هو البر الرحيم.

 

تعريف:

التعاون في اللغة من العون، والعون هو الظهير على الأمر، ويجمع على أعوان. وتقول العرب: إذا جاءت السنة جاء معها أعوانها، ويعنون السنة الجدب وبالأعوان الجراد والذئاب والأمراض. والرجل المعوان من كان كثير العون وحسن المعونة.

وسُمِّيَ الإناء ماعوناً لما فيه من عون الجار والمحتاج، كما جاء في التنزيل: {وَيَمنَعُونَ المَاعُونَ}[1].

ومن مرادفات اللفظة المفيدة في هذا البحث: الوزير والردء. ومنه قوله - تعالى -في حق موسى - عليه السلام - إذ سأل ربه: {وَاجعَل لي وَزِيراً مِّن أَهلِي، هَارُونَ أَخِي، اشدُد بِهِ أَزرِي، وَأَشرِكهُ فِي أَمرِي}[2]، وقوله - سبحانه - في ذات الموضوع في مقام آخر: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرسِلهُ مَعِيَ رِدءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ}[3][4].

والشاهد من الآيات الكريمات مفردات: الوزير والأزر والردء.

أما الوزير فمشتق من الأزر وهو الظهر لأن الظهر مجمع الحركة في الجسم وقوام استقامته، وسُمِّيَ الإزار إزاراً لأنه يُشَدٌّ به الظهر، ومنه يُفهم التعبير القرآني: {اشدُد بِهِ أَزرِي}[5] فهو مشدود بحزم وحزام وقوة، ومنه قول الشاعر:

شددت به أزري وأيقنت أنه * * * أخو الفقر من ضاقت عليه مذاهبه

 وأصل الكلمة الأبعد أن الوَزَر الجبل المنيع، وكل معقل وزر. وفي التنزيل العزيز: {كَلاَّ لاَ وَزَرَ}[6] أي لا عاصم من أمر الله.

وسُمِّيَ الوزير وزيراً لأنه يحمل عن الخليفة والملك ثقله ويعينه برأيه ويتحمل ما أسند إليه من تدبير الملك والمسؤولية[7].

أما الردء فمأخوذ من أردأه أي: أعانه. قال صاحب اللسان: فلان ردء لفلان أي ينصره ويشد ظهره، فالردء هو العون والناصر[8].

 

التعاون ضرورة إنسانية:

خلق الله الإنسان مدنياً بطبعه، فركبه على صورة لا تستقيم حياته، ولا يدوم بقاؤه، إلا بمعاونة غيره له من بني جنسه. فقد سخر الله الناس بعضهم لبعض في الغذاء والكساء والتصنيع والحماية بما لا يستطيع أحد منهم أن يستقل بنفسه البتة. ويظهر ذلك جلياً حين يُقارن الإنسان بالحيوان. فالحيوان لا يحتاج إلى معاونة أحد في تحصيل أسباب بقائه ومعايشه، فعنده من سهولة تحصيل الغذاء والقوة في الحماية ما لا يحتاج معه إلى أحد، بينما الإنسان بقوته الذاتية الفردية لا يستطيع مقاومة كثير من الحيوانات لاسيما الكبيرة منها والمفترسة، فهو عاجز عن المدافعة ما لم يكن معه جمع من جنسه أو آلات قد صنعها بنفسه أو بغيره تقاوم شراسة الحيوان. بل إن قدرته المنفردة لا تفي بتوفير احتياجاته ولا تستقل بتصنيع آلاته، فهو بحاجة إلى معاونة إخوانه ليحصل على قوت ويحتمي من حر ويتقي من قر ويدفع العدو والصائل.

إذن فالاجتماع والتعاون والتضامن ضروري لنوع الإنسانº لتتحقق الحياة على وجهها، ويهنأ له العيش، ويتمكن من القيام بمهمة الاستخلاف وعمارة الأرض بمقتضى قوله - سبحانه وتعالى -: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرضِ وَاستَعمَرَكُم فِيهَا}[9]، وقوله - سبحانه -: {نَحنُ قَسَمنَا بَينَهُم مَّعِيشَتَهُم فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَرَفَعنَا بَعضَهُم فُوقَ بَعضٍ, دَرَجَاتٍ, لِّيَتَّخِذَ بَعضُهُم بَعضاً سُخرِيّاً}[10]، وقوله - سبحانه -: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُم خَلاَئِفَ الأَرضِ وَرَفَعَ بَعضَكُم فَوقَ بَعضٍ, دَرَجَاتٍ, لِّيَبلُوَكُم فِي مَا ءَاتَاكُم}[11][12].

ولا مانع من الإشارة في هذا المقام إلى ما قد وضع الله في بعض مخلوقاته من غير بني آدم مما يشير إلى تعاون قد فطرت عليه، فقد أعطى ربنا كل شيء خلقه ثم هدى. مخلوقات جعل الله في فطرتها نوع تعاون إما لتأمين غذائها أو الدفاع عن نفسها وجماعتها، ويظهر ذلك في جنسي النمل والنحل.

فقد شوهد أن النمل إذا عثر على عسل في وعاء، ولم يتمكن من الوصول إليه مباشرةº لوجود ماء أو سائل يحول بينه وبين هذا العسل، فإنه يتعاون بطريقة فدائية انتحارية، فتتقدم فرق بعد أخرى فتلتصق بالسائل وتموت، وتتقدم غيرها مثلها حتى تتكون قنطرة من جثث النمل الميت يعبر عليها الأحياء الباقونº فيدخلون الوعاء ويصلون إلى العسل ويبلغون مأربهم. هذا في حال اليسر والغذاء.

أما في حال العسر والتعرض للمخاطر فإن مجاميع النمل إذا تعرضت لتيار مائي داهم مثلاً فإن بعضها يمسك ببعض، ثم تكوِّن كتلة كروية متماسكة تتحمل اندفاع التيار، ثم تعمل حركتين في آن واحدº إحداهما: تتحرك فيها الأرجل كالمجاديف في اتجاه واحد نحو أقرب شاطئ، والثانية: حركة دائرية من أعلى إلى أسفل ليتم تقاسم التنفس بين الجميع، فإذا ما تنفس من في الأعلى حصل انقلاب ليرتفع من في جهة القاعº فيأخذ حظه من النفس، وهكذا في حركة دائرية حتى يبلغوا شاطئ الأمان.

فسبحان الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. وسبحان من وهب الإنسان العقل المفكر ليتأسى ويعتبر ويكتشف ويرقى بفكره بعد هداية الله وتوفيقه ليكون خيراً من الأنعام.

أما النحل فنظامه في تكوين مملكته وإنتاج عسله وترتيب الأعمال بين أفراد خليته فعجب عجاب في التعاون والتناوب ولله في خلقه شؤون[13].

 

فضل التعاون:

هذه طائفة من النصوص مختارة في فضل التعاون وعظم الأجر والنفع لمن أخذ به، وهي في ذات الوقت تعتبر أصلاً في الباب ودليلاً له. على أنه سيأتي في ثنايا البحث ما يزيد الأمر وضوحاً في الفضل والتأصيل.

1 - قول الله - تعالى -: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ}[14].

2 - قوله - تعالى -: {قَالَ رَبِّ اشرَح لِي صَدرِي، وَيَسِّر لِي أَمرِي، وَاحلُل عُقدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفقَهُوا قَولِي، وَاجعَل لِّى وَزِيراً مِّن أَهلِي، هَارُونَ أَخِي، اشدُد بِهِ أَزرِي، وَأَشرِكهُ فِي أَمرِي، كَي نُسَبِّحَكَ كَثِيراً، وَنَذكُرَكَ كَثِيراً، إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً}[15].

3 - قوله - تعالى -: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرسِلهُ مَعِيَ رِدءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ، قَالَ سَنَشُدٌّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجعَلُ لَكُمَا سُلطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيكُمَا بِئَايَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ}[16].

ولقد كان لأهل العلم - رحمهم الله - وقفات جميلة عند هذه الآيات سوف تتبين عند الحديث عن ميدان التعاون والحديث عن غايته. ولقد قرروا فيما قرروا أن التعاون ركن من أركان الهداية الإجتماعية، فالله - سبحانه - يوجب على الناس إيجاباً دينياً أن يعين بعضهم بعضاً في كل عمل من أعمال البر التي تنفع الناس أفراداً وأقواماً في دينهم ودنياهم وكل عمل من أعمال التقوى التي يدفعون بها المفاسد والمضار عن أنفسهم[17].

 

أما أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنها:

1 - حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من ولاء الله - عز وجل - من أمر المسلمين شيئاً فأراد به خيراً جعل له وزير صدق فإن نسي ذكره وإن ذكر أعانه))[18].

2 - عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً ثم شبك بين أصابعه))[19].

3 - عن النعمان بن بشير - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))[20].

وأمثال هذه الأحاديث المتآثرة عن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مما فيه الحث على الخير والدلالة عليه والحث على قضاء الحوائج، وبخاصة إذا أدرك المتأمل أن الحاجة في نصوص الشرع ذات مفهوم واسع مما هو مدلول عليه في عموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))[21]، وقوله - عليه الصلاة والسلام -: ((أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس وأحب الأعمال إلى الله - تعالى -سرور يدخله على مسلم أو يكشف عنه كربة أو يقضي عنه ديناً أو يطرد عنه جوعاً ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إليّ من أن أعتكف في هذا المسجد يعني مسجد المدينة شهراً...ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام))[22].

وهذه رواية ابن عمر - رضي الله عنهما -. وعند الطبراني في الأوسط والحاكم وقال صحيح الإسناد من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من مشى في حاجة أخيه كان خيراً من اعتكاف عشر سنين))[23].

ويتأكد هذا المعنى بالنظر في نصوص النهي عن خذلان المسلم وإسلامه للأعداء والنوائب، على حد قوله - سبحانه -: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ}[24].

وعليه فإن من اجتهد في كف الأذى والعدوان عن أخيه فقد قام بصورة كبرى من صور التعاون. ولئن قال العربي الجاهلي: ((انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) فلقد جاء في التفسير الإسلامي المحمدي لهذه المقولة لما لها من وقع عظيم على نفوس الإخوان والعشيرة، فتساءل الصحابة وكيف ننصره ظالماً؟ قال: ((تكفه عن الظلم))[25]. فالمسلم أخو المسلم يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه[26].

ومن هنا كان النكير الشديد على التعاون على الإثم والظلم وبطر الحق. وفي مثل هذا جاءت أحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها:

 ما أخرجه البخاري في تاريخه والطبراني والبيهقي في (شُعب الإيمان) عن أوس بن شرحبيل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من مشى مع ظالم ليعينه وهم يعلم أنه ظالم فقد خرج من الإسلام))[27].

 وعند الطبراني في الأوسط والحاكم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من أعان ظالماً بباطل ليدحض به حقاً فقد برئ من ذمة الله وذمة رسوله))[28].

 وأخرج البيهقي من طريق فسيلة أنها سمعت أباها واثلة بن الأسقع - رضي الله عنه - يقول: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمن العصبية أن يحب الرجل قومه؟ قال: ((لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم))[29].

والظلم في الدعوة الذي يلزم التكاتف والتعاون على رفعه يتمثل في ميادين كثيرة: من غلبة الهوى والتعصب والمراء وقلة الإخلاص والخلاف القائد إلى التنازع. كما أن منه خذلان الداعية من أن يقوم بتبليغ أمر الله ودعوة الإسلام أو إيذائه بغير حق. وهذا وأمثاله سوف يشار إلى كثير منه في صفات كل من رجل الدعوة والمعين فيها، مما يؤثر في بناء التعاون واستمراره وتحقيق ثماره.

 

التعاون وغاية الدعوة:

من أجل تبين ذلك في أوضح صورة يحسن الوقوف المتأمل عند هذا الدعاء القرآني النبوي من نبي الله ووجيهه موسى - عليه السلام -: {قَالَ رَبِّ اشرَح لِي صَدرِي، وَيَسِّر لِي أَمرِي، وَاحلُل عُقدَةً مِّن لِّسَانِي، يَفقَهُوا قَولِي} إلى قوله: {كَي نُسَبِّحَكَ كَثِيراً، وَنَذكُرَكَ كَثِيراً، إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً}[30].

 

هنا ثلاث وقفات:

الوقفة الأولى: عند قوله - سبحانه -: {قَالَ رَبِّ اشرَح لِي صَدرِي} أن موسى - عليه السلام - علم من أمر الله له بالذهاب إلى فرعون أنه كلف أمراً عظيماً وخطباً جسيماً يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط، وصدر فسيح، فاستوهب ربه - تعالى -أن يشرح صدرهº فيجعله حليماً حمولاً، يستقبل ما عسى أن يرد عليه في طريق التبليغ والدعوة من مُرِّ الحق والشدائد ما يذهب معه صبر الصابر بجميل الصبر وحسن الثبات. يشرح صدره فلا يضجر ولا يقلق مما يقتضي بحسب الطبيعة البشرية الضجر والقلق.

مع ما يتجلى في هذا الطلب من إظهار كمال الافتقار إليه - عز وجل - والإعراض عن الحول والأنانية بالكلية. إن شرح الصدر نور من الله وسكينة وروح منه - سبحانه -[31].

ولذا فإن الصدر إذا ضاق لم يصاحبه لهداية الخلق ودعوتهم، وعسى الخلق أن يقبلوا الحق مع اللين وسعة الصدر وانشراحه عليهم[32].

والصدر إذا انشرح والقلب إذا انفتح لم يضق بسفاهة المعاندين ولجاجة الجاهلين، ومن ثم فلا يخاف شوكة ولا يهاب من كثرة ولا يراع من صولة[33].

الوقفة الثانية: قوله - تعالى -: {ويَسِّر لِي أَمرِي} دعاء لتسهيل الأمر وتيسيره لتقوم الدعوة على وجهها بتوفر آلاتها ووجود المعين عليها. ولا شك أن التيسير والتسهيل لا يكون إلا بتوفيق الأسباب ورفع الموانع[34].

الوقفة الثالثة: قوله - تعالى -: {كَي نُسَبِّحَكَ كَثِيراً، وَنَذكُرَكَ كَثِيراً} إذا تحقق شرح الصدر وتيسير الأمر ووجد الوزير والنصير فذلك مظنة تكثير الدعوة وأهلها وأنصارها، ومن مظاهر ذلك ومن غاياته كذلك كثرة التسبيح والمسبحين والذكر والذاكرين.

ذلك أن الدعوة تشتمل على التعريف بالله وصفاته وتنزيهه وتقديسه وتسبيحه، وهي حث للعباد على القرب من مولاهم لإدخالهم في حظيرة الإيمان والتقوى، وحين يتحقق ذلك يكثر ذكر الله بإبلاغ أمره ونهيه، ألا ترى إلى خطاب الله لنبيه موسى - عليه السلام - في الآية قبيل ذلك: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكرِي}[35]، ثم خطابه وأخيه فيما بعد وهما يقومان بمهمة الدعوة: {اذهَب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكرِي}[36]. أي: لا تضعفا في تبليغ الرسالة. إذن فتعليلهما بالتسبيح والذكر الكثيرين يعني تحقيق الدعوة نجاحها[37].

أما الإمام أبو السعود في تفسيره فينظر إلى ذلك من زاوية أخرى، حين يقرر أن التسبيح والذكر في الآية ليس مراداً بهما ما يكون بالقلب أو في الخلوات، فهذا لا يتفاوت حاله عند التعدد والإنفراد، بل المراد ما يكون منهما في تضاعيف أداء الرسالة ودعوة المردة والعتاة إلى الحق، وذلك مما لا ريب في اختلاف حاله في حالتي التعدد والإنفراد فإن كلاًّ منهما يصدر عنه بتأييد الآخر من إظهار الحق ما لا يكاد يصدر عنه مثله في حال الإنفراد[38].

وفي الختام يقول موسى - عليه السلام - مخاطباً ربه: {إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً} أي: إنك أنت العالم بأحوالنا وبأن التعاضد مما يصلحنا[39].

ولما بسط موسى - عليه السلام - حاجته، وكشف عن ضعفه، طالباً العون والتيسير، متوسلاً بالإتصال والذكر الكثير، جاء الجواب من العلي الأعلى: {قَالَ قَد أُوتِيتَ سُؤلَكَ يَا مُوسَى}.

 

أقسام الناس في التعاون:

يقسم الماوردي - رحمه الله - الناس باعتبار ما يقدمونه من معاونة وما يحققونه من معاني الأخوة والتعاون إلى أقسام أربعة:

الأول: من يعين ويستعين.

الثاني: من لا يعين ولا يستعين.

الثالث: من يستعين ولا يعين.

الرابع: من يعين ولا يستعين.

ثم قال: فأما المعين والمستعين فهو معاوض منصف، يؤدي ما عليه ويستوفي ما له، فهو كالمقرض يسعف عند الحاجة ويسترد عند الاستغناء، وهو مشكور في معونته ومعذور في استعانته، فهذا أعدل الإخوان.

وأما من لا يعين ولا يستعين فهو متروك، قد منع خيره وقمع شره، فهو لا صديق يرجى ولا عدو يخشى، وإذا كان الأمر كذلك فهو كالصورة الممثلة، يروقك حسنها ويخونك نفعها، فلا هو مذموم لقمع شره ولا هو مشكور لمنع خيره، وإن كان باللوم أجدر.

وأما من يستعين ولا يعين فهو لئيم كَلُّ ومعان مستذل، قد قطع عنه الرغبة وبسط فيه الرهبة، فلا خيره يرجى ولا شره يؤمن، وحسبك مهانة من رجل مستثقل عند إقلاله، ويستقل عند استقلاله، فليس لمثله في الإخاء حظ، ولا في الوداد نصيب.

وأما من يعين ولا يستعين فهو كريم الطبع، مشكور الصنع، وقد حاز فضيلتي الابتداء والاكتفاء، فلا يرى ثقيلاً في نائبة، ولا يقعد عن نهضة في معونة، فهذا أشرف الإخوان نفساً، وأكرمهم طبعاً، فينبغي لمن أوجد له الزمان مثله وقل أن يكون له مثل لأنه البر الكريم والدر اليتيم أن يثني عليه خنصره ويعض عليه بناجذه، ويكون به أشد ضناً منه بنفائس أمواله، وسنى ذخائرهº لأن نفع الإخوان عام، ونفع المال خاص، ومن كان أعم نفعاً فهو بالادخار أحق، ثم لا ينبغي أن يزهد فيه لخلق أو خلقين ينكرهما منه إذا رُضيَ سائر أخلاقه، وحُمدَ أكثر شيمهº لأن اليسير معفو والكمال معوز[40].

 

تعليق:

هذا تقسيم من الماوردي - رحمه الله - أشبه بالحصر العقلي. وهو تقسيم جميل لتصوير النفوس وأحوال الناس والشخوص. ولكن واقع الناس، وما قضت به سنة الله في هذه الحياة، من بناء الدنيا واستقامة المعاش على المشاركة والمعاونة واتخاذ الناس بعضهم بعضاً سخرياً، كما سبق في مقدمة البحث يشوش على ما قرره الماوردي، فلا يتصور في الوقع من أحد فيما نحن بصدده أن يحقق مبتغاه إلا بتعاضد أطراف من الناس. هذا جانب. ومن جانب آخر، فإن البذل من طرف واحد على نحو ما ذكر الماوردي لا يسمى إلا إحساناً ومنة ونعمة، وهذا ليس من باب التعاون في شيء إلا من حيث الأثر والفائدة للمُحسَن إليه والمُنعَم عليه.

كما أن من يستعين ولا يعين قد رضي لنفسه أن يكون عالة على غيره، وجعل حياته مبنية على السؤال والطلب والتطلع إلى ما في أيدي الناس.

وأما من لا يعين ولا يستعين فتصور وجوده في بني الإنسان بعيد، على نحو ما سبق في المقدمة من تقرير أن التعاون ضرورة إنسانية. فالإنسان لا يستغني عن أخيه الإنسان، كما قضى الله - عز وجل - في سننه.

 

ميادين التعاون:

الأصل في هذا قوله - تعالى -: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثمِ وَالعُدوَانِ}. وعليه فسوف يكون الحديث في هذه الفقرة عن مفهومي البر والتقوى، ثم استعراض تفصيلي لجملة من مجالات التعاون حسب ما تعنيه شريعة الإسلام من شمول وكمال.

وينبغي أن يفهم أن هذا التفصيل لا يخرجنا عن المقصود في الحديث عن الدعوة والدعاة، فكل هذه الميادين مفتوحة فسيحة أمام الدعاةº بل هم

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply