بسم الله الرحمن الرحيم
الملأ هم: أَشرافُ القوم ووجُوهُهم ورؤَساؤهم ومُقَدَّمُوهم، الذي يُرجَع إِلـى قولهم. وفـي الـحديث: هَل تَدرِي فِـيمَ يَختَصِمُ الـملأُ الأَعلـى؟
والملأ من الكفار لهم دور بارز في تسير الأحداث، ولا بد من الوقوف على دورهم وإبرازه للناس. إذ هم موجودون مع الباطل في كل مكان وزمان.
ومن خلال قرائتي للسيرة النبوية وما استمعت إليه من شبهات من الضالين من أهل الكتاب، يمكنني القول أن الدعوة لا تواجه شبهات حقيقية وإنما تواجه مجموعة من الناس ـ هم الملأ ـ يعرفون الدعوة تماما، وهم يكذبون على قومهم ويرهبونهم تارة ويرغبونهم تاره من أجل صدهم عن سبيل الله.
والآن اذكر بعض المشاهد من السيرة النبوية ومن أحوال الأمم السابقة أوضح بها قولي.
الوليد بن المغيرة يجلس بين قومه يصف القرآن بعدما سمعه: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه، فيصيح القوم: صبأ الوليد، ويقوم إليه شيطانهم أبو جهل ويهمس في أذنيه بكلمات ثم يعود ثانية إلى مجلسه. وأقبل الوليد على القوم بوجهه، وظن القوم أن الوليد سيقف موقف الداعي لهذا الدين الجديدº فالأمر ليس ببعيدº فمِن قَبله عَدَا عمر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقتله، وعاد من عنده مسلماً، ولكن الوليد خيّب ظنهم فلم يكن إقباله عليهم إقبال المخلص الداعي لهذا الدين الجديد بل كان المخلص الداعي لدينهم. ويتكلم الوليد.. يصيح فيهم بأن قولوا في الرجل قولةً واحدةً.. ولا تختلفوا حتى لا يظهر كذبكم. ويعرض القوم آراءهم: نقول ساحر.. نقول شاعر.. نقول كاهن.. نقول كاذب.. والوليد لا يجد الوصف مناسباً فيردّه. ويُسند إليه الأمر: قُل أنت يا أبا عمارة نسمع. ويصمت الوليد.. يجولُ بفكره.. يحاول أن يجد نقيصة في الرجل أو في منهجه [إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدبَرَ وَاستَكبَرَ](المدثر: 18-23). يحاول الوليدُ ويحاول.. ولكن أنّى له؟! فالرجل هو الصادق الأمين، ومنهجه هو هو الذي وصفه من قبل بأن له حلاوة وعليه طلاوة. ويعجز الوليد، ويعود إلى بعض آرائهم التي قالوها هُم وردها هو من قبل، يقول: قولوا ساحر، ثم يُدَلل على قوله وما أكذبه: ألا ترون أنه يفرق بين الرجل وزوجته، والابن وأبيه [فَقَالَ إِن هَذَا إِلاَّ سِحرٌ يُؤثَرُ * إِن هَذَا إِلاَّ قَولُ البَشَرِ](المدثر: 24-25). ويصيح القوم فرحاً بهذا!! قاتلك الله يا وليد! ما حملك على ألا تفعل ما فعل عمر، وقد وصفت القرآن بما هو حق، ونفيت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ليس بحق؟! كأني بقريش وقد أقسم الملأ منهم أن ما يأتي به محمد - صلى الله عليه وسلم - هو من عند هذا الغلام الأسود الذي يعتكف بجواره في غار حراء، كأني بهم وقد كلمت وجوههم وهم يرون هذا الغلام لا يتكلم العربية [وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّهُم يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلحِدُونَ إِلَيهِ أَعجَمِيُّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيُّ مٌّبِينٌ](النحل: 103). كأني برسلهم تعدو في الصحراء تقصد اليهود يسألونهم عن خبر هذا النبي، ويعطيهم اليهود الأمارة: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم؟ سلوه عن رجل طوَّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ سلوه عن الروح ما هي؟ ويُعطونهم صفة الإجابة، وتعود الرسل، ويحشر الملأ القوم منادين فيهم: جئنا بالقول الفصل بيننا وبين محمد - صلى الله عليه وسلم -، ويعطيهم الصادق الأمين الأمارة تامة. ثم.. ماذا حدث؟ الموقف لا يتغير ولا يتبدل، يظهر الحق ويستيقن فريق من الناس، ثم يعاندون. وما كانت قريش بدعاًº فقد كان لهم سلف فيمن مضوا قوم نوح [قَالُوا يَا نُوحُ قَد جَادَلتَنَا فَأَكثَرتَ جِدَالَنَا فَأتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ](هود: 32) جُودِلوا ودحضت حجتهمº فالطبيعي بعد هذا هو الإيمان، ولكن انظر إلى كلامهم ما أعجبه [جَادَلتَنَا فَأَكثَرتَ جِدَالَنَا فَأتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ](هود: 32). وقوم عاد ينادون نبيهم هوداً - عليه السلام -: [قَالُوا أَجِئتَنَا لِنَعبُدَ اللَّهَ وَحدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعبُدُ آبَاؤُنَا فَأتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ](الأعراف: 70) فهم إذن يفهمون الرجل، ولا يكون ذلك إلا بإظهار الحجج والبراهين، ثم انظر إلى موقفهم بعد هذا البيان، وكيف أنه يطابق موقف من كان قبلهم. وقوم ثمود يطلبون الآية فتأتيهم، ثم ماذا؟ هل آمنوا؟ أبداً لا بل عقروا الناقة وقالوا قولة من قبلهم [فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوا عَن أَمرِ رَبِّهِم وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المُرسَلِينَ](الأعراف: 77). وقوم لوط [وَمَا كَانَ جَوَابَ قَومِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا أَخرِجُوهُم مِّن قَريَتِكُم إِنَّهُم أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ](الأعراف: 82) لِمَ يا قوم؟ [إِنَّهُم أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ](الأعراف: 82) ألهذا؟!! وقوم خليل الله إبراهيم - عليه السلام -: [فَمَا كَانَ جَوَابَ قَومِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا اقتُلُوهُ أَو حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ, لِّقَومٍ, يُؤمِنُونَ](العنكبوت: 24). وإن تعجب فمن أهل مدين قوم شعيب - عليه السلام - نبي اللهº إذ يبلِّغ رسالة ربه فيؤمن البعض، ويكفر البعض الآخر، ويأخذ الرجل بمبدأ المسالمة: [وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُم آمَنُوا بِالَّذِي أُرسِلتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّم يُؤمِنُوا فَاصبِرُوا حَتَّى يَحكُمَ اللَّهُ بَينَنَا وَهُوَ خَيرُ الحَاكِمِينَ](الأعراف: 87)، أفي هذا عيب؟ ولكن انظر ما ردّ الملأ [قَالَ المَلأُ الَّذِينَ استَكبَرُوا مِن قَومِهِ لَنُخرِجَنَّكَ يَا شُعَيبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَريَتِنَا أَو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا](الأعراف: 88). الموقف من الدعوة ورجالها هو هو، المنطق نفسه يتكرر، ولا يكاد يتغير، يعرفون الحق ويستيقنون منه تماماً ثم لا يتبعونه، وليت الأمر بقي على هذا فالبلية به خفيفة، بل يعلنون أنه لا هوادة، ولا مقام مع الحق وأهله. وانظر إلى هذه الآيات من سورة إبراهيم كيف أنها تكلمت بألسنتهم مجتمعين على تفرقهم زماناً ومكاناً - كأنهم فردٌ واحد - قال - تعالى -: [أَلَم يَأتِكُم نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبلِكُم قَومِ نُوحٍ, وَعَادٍ, وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعدِهِم لاَ يَعلَمُهُم إِلاَّ اللَّهُ جَاءَتهُم رُسُلُهُم بِالبَيِّنَاتِ فَرَدٌّوا أَيدِيَهُم فِي أَفوَاهِهِم وَقَالُوا إِنَّا كَفَرنَا بِمَا أُرسِلتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍ,ّ مِّمَّا تَدعُونَنَا إِلَيهِ مُرِيبٍ, * قَالَت رُسُلُهُم أَفِي اللَّهِ شَكُّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ يَدعُوكُم لِيَغفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُم وَيُؤَخِّرَكُم إِلَى أَجَلٍ, مٌّسَمًّى قَالُوا إِن أَنتُم إِلاَّ بَشَرٌ مِّثلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدٌّونَا عَمَّا كَانَ يَعبُدُ آبَاؤُنَا فَأتُونَا بِسُلطَانٍ, مٌّبِينٍ, * قَالَت لَهُم رُسُلُهُم إِن نَّحنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثلُكُم وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنٌّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأتِيَكُم بِسُلطَانٍ, إِلاَّ بِإِذنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنُونَ * وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَد هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِم لَنُخرِجَنَّكُم مِّن أَرضِنَا أَو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا](إبراهيم: 9-13). فانظر كيف أن الخيار بين أمرين لا ثالث لهما: [لَنُخرِجَنَّكُم مِّن أَرضِنَا أَو لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا](إبراهيم: 13)، وكيف أن هذا هو كلام الكفار جميعهم في مختلف أزمنتهم [قَومِ نُوحٍ, وَعَادٍ, وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعدِهِم](إبراهيم: 9).
وما أريده هو أن أسلط الضوء على هذا النوع المجرم من الناس. الذي لا يريد الحق أبدا... يكره الحق وهو يعرفه، ويعرف ما فيه من الخير. يلبس الحق على عوام الناس... يحاول أن يضلهم.
هذا النوع من الناس موجود في كل زمان ومكان، وهو الذي يختلق المتشابه في القرآن. هو الذي يفتعل المتشابه. كذبا وبهتانا كي يلبس على الناس دينهم.
وإن تدبرت وجدا أن الجهاد في الشريعة يستهدف هؤلاء الناس. وبمجرد القضاء عليهم يدخل الناس في دين الله أفواجا.
بهذه الخلفية تشرح أحداث السيرة النبوية، وتكون هناك تحليلات لمواقف الملأ الذين استكبروا من الدعوة النبوية، وكيف أنهم كانوا يعرفون الحق ويعاندونه...كيف أنهم كانوا يحاربون الحق وهم يعلمون ما فيه من الخير.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد