صحوة بغداد


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أوعى العراقيين اليوم: عراقي مؤمنٌ يسجد لله، يفزع إلى موازين الفقه يسألها ويستشيرها، فهو من نور الشرع يقبس، وبمشاعر القلب يستهدي، فيستوي مدركاً للعلل والحلول، ويقف في قومه يردد قول الإمام \'الأوزاعي\': [لا تكونوا أشباهًا لمن خدعه الأمل، وغره طول الأجل، ولعبت به الأماني]، وهي موعظة قديمة ولكن كأنها صيغت لوصف أبناء الجيل العراقي الحاضر الذين طالما خدعتهم آمال عريضة مناهم بها حاكم ماكر ومعارض التفافيّ النزعة، وبين إغراءيهما لعبت الأماني بعقل وقلب العراقي، وما يكاد يفيق من أوهامه، يفهم أن فسحة الأجل إنما هي مدة لازمة لنمو بذرات زرعه، وما ثم غير أيام تقربه من النتيجة الخاسرة والحقيقة الدامغة، ولو شاء قلب ينبض أن يؤوب إلى قواعد الدين لتاب.

بيد أن السكرة امتدت، وليس في الظن أنها نتيجة مرض نفسي أو ترديات إيمانية فقط، وإنما اختلطت بها عيون حسد نافذة، أرسلتها حدقات شركات نفط [تكساس] فأصابت بالشر جمال [بغداد] فتركت في خدها الأسيل لفحة، وفي قلبها لوعات وصلتها وربطتها بعيون حسد أيام فتنة الأمين والمأمون، حسدت البناء الحضاري الذي بناه الرشيد والازدهار الاجتماعي، حتى تأوه شاعرها فانطلق يبث أشجانه..

من ذا أصابك يا بغداد بالعين *** ألم تكوني زمانًا قرة العين

ألم يكن فيك قومٌ كان مسكنهم *** وكان قربهم زيناً من الزين

ليكن حديثنا حديث استنفار لكل رجل فيه خير من رجال العراق، ولكل عقيلة عراقية تشمخ بعفافها، أن يلحظ الجميع الحاجة إلى إصلاح شامل للعراق، عبر صحوة إسلامية واعية، خروجًا من البطالة والتسيب وحالة السلب، واتعاظًا بقول التابعي \'وهب بن منبه\': [لا يكون البطال من الحكماء أبدًا]، فإننا جميعًا نبتغي خطة تكفل بالترميم والتنمية واستئناف السلوك الحضاري، وعلى العراقي أن يأتي هذا العمل ويقترف هذا الإصلاح ليس بنوايا الدنيا والإدارة والمصلحة فقط، بل بالنوايا التعبدية أيضًا.

فالممارسة الدعوية والاستدراك على الهدم بابان من العمل الديني الذي يقربنا من الجنة ويبعدنا من النار، وفوق الكريم الذي يوزع دنانيره: كريم يثأر لحقوق الله فيفاتح قريبه وصديقه وجيرانه على الانضمام لعصابة الدعوة الإسلامية الحامية المستدركة الحافظة لحقوق المعبود ومصالح العباد.

 نعم هي مهمة كبيرة، وضريبتها أكبر، لكنها واجبة على مذهب \'عمر بن عبد العزيز\': [إنَّ الناس لو كان إذا كبُر عليهم أمر تركوه: ما قام لهم دين ولا دنيا].

 فنحن الدعاة إنما خلقنا ربنا لنقوم بالأمور الكبيرة نيابة عن الأمة، ولسنا نطلب الأسهل ونفاخر به وندع الأصعبº فإن ذلك من ضعف التدين، ويؤدي إلى ضمور دنيانا وخسارة الجولة مع المنافسين، بل نحن للأثقال، والخطط الطموحة، والأهداف العظيمة، وعلى كواهلنا يكون التنفيذ المرهق لأجسادنا، المفرح لقلوبنا، الجالب للعراق حلول مشاكله والمنجي له من دائرة السوء.

وهذا منهج راشد ونداء فصيح وتعاهد جميل، لكن له شرط واحد ـ هو أهم شروطه ـ تجمله قصة حاشية الإمرة وطبائع المترفين، وخلاصته أن النفرة المباركة هذه إنما تصح من متجرد وجادٍ, وذي حيوية ومخشوشن وزاهد ومتواضع، ولا تصح من متبطر ومتشبه بالكرام ومعطٍ, للنفرة فضول أوقاته، ففي مواعظ التاريخ [كان المنصور في شبيبته يطلب العلم من مظانه، والحديث والفقه، فنال جانبًا جيدًا وطرفًا صالحًا، وقد قيل له يومًا: يا أمير المؤمنين: هل بقي شيء من اللذات لم تنله؟ قال: شيء واحد. قالوا: وما هو؟ قال: قول المحدث للشيخ: من ذكرت رحمك الله؟

فاجتمع وزراؤه وكتابه وجلسوا حوله وقالوا: ليُِِِمل علينا أمير المؤمنين شيئًا من الحديث!

فقال: لستم بهم، إنما هم الدنسة ثيابهم، المشققة أرجلهم، الطويلة شعورهم، رواد الآفاق، وقطاع المسافات. تارة بالعراق، وتارة بالحجاز، وتارة بالشام، وتارة باليمن، فهؤلاء نقلة الحديث].

فالقضية العراقية إنما تحتاج هذا النمط من الرجال وقطاع المسافات في طلب العلم الشرعي والتراث التجريبي والحكمة التخطيطية، الذين تعمقت شقوق أرجلهم، لكن توسعت صلتهم بدعوة عالمية المدى فيها أنصار بالحجاز واليمن والجزائر والشام يهبون الإسناد ويجهرون بحق العراق، وبدعاء صالح من قلب خالص في أعقاب الركيعات.

وإنما يقود هذا العمل الاستدراكي: الفكر الصافي، المنتقى من دين الإسلام القيم، مما لم يكتشفه أئمة الفقه فقط، بل عرفه شاعر الدعابة \'أبو نواس\' أيضًا فقال: [ما في الدين أغلوطة] بل كله حقائق محكمات، وإنما الأغاليط والفوضى والنزهات لدى أحزاب تحيد عن الدين وتختار العلمانية.

فإذا استوى رهط الدعاة على النقاء: رُجي أن تزيدهم الشورى خيرًا وحزمًا، على طريقة الشاعر الواعي:

إذا بلغ الرأي والتشـاور فاستـعن *** بحزم نصيح أو نصيحة حازم

ولا تجعل الشورى عليك غضاضة *** فريـش الـخوافي قـوة للقـوادم

 وما خير كـفٍّ, أمسك الغلٌّ أختها*** وما خير سيف لم يؤيد بقائم

فاللغط السياسي المعاصر يزعم أن شباب الصحوة الإسلامية ليس لديهم وعي مخضرمي الساسة ولا مجال لمساواتهم معهم في حق القول السياسي، وما ثم غير ألاعيب وتنازلات بمستعمر وخطة تطبيع مع يهود، والحق الذي معنا أكبر من كل مخضرم.

وأوامر المحتلين تأمرنا أن نسكت، فمن يتكلم بحجة الشرع إذا سكت الدعاة؟!!.

ويزعمون أننا لا ننطلق بحق وبيان، وأصول حقوقنا مجموعة في [لا إله إلا الله]، وفيها كل الفقه والاستنباط والتفريغ والإسقاطات على الواقع المعاصر، وهي براءة جامعة من العلمانية، ونقض لها ولمناهج السياسة الظنية، وإبرام جامع لكل حكم الشرع الشامل لنواحي الحياة بنصوص ربانية قطعية.

وتهمة الظلم توجه للدعوة، ولسنا على ظن طاغية ومستعمر ومستبد ومستأثر خرجنا من مساجدنا لنعلن قيام [الحزب الإسلامي العراقي].

ثم في المشهد الأخير يفتي [متأمرك] بأن الديمقراطية لا تسع دعوة الإسلام لأنها تفسد على الناس أمرهم، ولو شاء أن يقول الحق لأفصح أنه يخاف عفاف دعاة الإسلام، وأنه يحذر ولعهم بكشف الناهبين، وأمثاله يعلمون أن الدعوة الإسلامية تنوي الحجر على كل سياسي يجعل له في أموال الأمة نصيبًا يحولـه إلى جيوبه، وموقفها في ذلك مستنبط من قول \'عبد الله بن عبد العزيز العمري\' للخليفة \'الرشيد\'يا هارون: إن الرجل ليُسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في أموال المسلمين كلهم].

فبهذا الحق تنوب الدعوة الإسلامية عن الأمة في طلب الحجر على كل سياسي سلطوي يظهر منه الفساد، وبهذا المنطق الفقهي ينتدب الداعية العراقي نفسه ليسأل وكالة عن العراق: أين ذهبت خمسة مليارات دولار من أثمان نفطه في شهرين من التعاون مع الاستعمار الأمريكي؟ ثم ليكون ـ إذ لا جواب ـ عزلٌ لعصابة تسرق وتتناول الحرام.

ونكاد لا نفهم أسباب هذه الاختلاطات واستغفال أبناء الشعب، لكن التأمل الطويل والبحث في طبائع النفوس المنحرفة أوضح لنا أن هذه الظواهر من الممارسة السياسية الخفيفة الطافية إنما هي من نتائج كل زمن سيء، ومن لوازمه وإفرازاته الحتمية، وقد وجدنا الإمام \'الأوزاعي\' منذ القديم يضع النقاط على الحروف ويحدد المواصفات القياسية للزمن السيء، فيحدد ألوان لوحته وخطوطها العريضة بأنه: [زمان قد ولى عفوه، وذهب رخاؤه وخيره وصفوه، فلم يبق منه إلا جمة شر، وصبابة كدر، وأهاويل عِبَر، وعقوبات غِيَر وإرسال فتن، وتتابع زلازل، ورذالة خلف بهم ظهر الفساد في البر والبحر، يضيقون الدار، ويغلون الأسعار].

أن تلك العصبة الآمرة بالمعروف، الناهية عن المنكر لها نسب دعوي عريق وإصلاح لكافة الفتن التي مرت على العراق، ومبالغة في مفاصلة هذه المجموعة الإصلاحية لعصابات السوء ينبغي أن يرتقي المحتسبون الإصلاحيون المستدركون إلى قمم الأخلاق الإيمانية، والأداء المتجرد لله، والسمت المتحلي بالرفق والنزاهة، لنجعل الناس تدرك اختلاف المعدن وتميز الجوهر النقي والسلوك العفيف.

والاقتراح أن يكون شعار وهتاف ونشيد هؤلاء الأخيار أربعة أسطر ارتضاها لهم شيخ الزهاد والمجاهدين الإمام \'إبراهيم بن أدهم\'، وفيها تلقين لطريقة الإخبات والتواضع بين يدي الله - عز وجل -، وتركيز لمنهجية التربية في ثلاثة أخلاق تقابلها ثلاثة إحساسات وإقرارات ومشاعر، وذلك قول الداعية في النشيد الأدهمي بكرة وعشيًا:

أنا حامدٌ أنا ذاكرٌ أنا شاكرٌ *** أنا جائعٌ أنا خاسرٌ أنا عاري

هي ستةٌ وأنا الضمين لنصفها *** فكن الضمين لنصفها يا باري

فالداعية ينزل إلى أوطأ حالات العبودية في هذه الأثناء، وأنه حاسر الرأس لولا أن الرب يتوجه بتاج الإيمان وفضائل الإحسان، وأنه هو العاري لولا أن الباري يُسبغ عليه أذيال الستر ويلبسه أثواب العفافº لذلك يلهج بحمد وذكر وشكر يعاهد مولاه أن لا يدعها أبد عمره ويضمنها لربه ويطلب من إله السماوات والأرض أن يضمن بمقابلها رزقه الحلال، لا المسروق، وتاج الإيمان لا تشنيعات القنوات الفضائية ووسائل الإعلام التي ما عادت تترك سارقًا لأموال الأمة يهنأ بحرام اختلسه، حتى لكأنها فضيحة في الدنيا يريدها الله لكل سارق قبل فضيحة الآخرة.

وإنما أشفقنا على الداعية المسلم فذكرنا له هذه الأخلاق الثلاثة، وإلا فإن كل قاموس الطيبات يليق له حلية وزينة، ونعظه أن:

أصدق وعف وبر واصبر واحتمل *** واصفح وكافئ ودار واحلم واشجعِ

والطـف ولن وتأنَّ وارفـق واتئد *** واحزم وجـُد وحامِ واحمل وادفعِ

 فبجميع هذه الخصال تكون جولات الدعاة وصولاتهم، وبها يكون تفوقهم الاستراتيجي على الخصوم.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply