بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الحديث عن الاهتمام بالتطوير الذاتي والمؤسسي حديث فيه دغدغة فكرية ونفسية جميلة ذلك بأنه يعتمد على الأمل والطموح بالدرجة الأولى، فيرى المرء فيه آمالا في المستقبل بكل مراحله، كأنه يرى نفسه هناك بين رياض الأمل المنشود.
هذه الدغدغة تحمس المرء على الدخول بكل إقدام، يقودها الشوق للتغير للأحسن وللأجمل وللأفضل، ربما بإرادة قوية وتفكير، غير أن الغالب تكون في حنايا النفس لا في أروقة العقل، فما أن يسير المرء في ممرات الحق التطويرية والتغييرية حتى يجد السأم والملل قد عاد لنفسه، وباتت تلك الدغدغة مجرد وحشة في تلك الممرات لم تعتد النفس أن تسير فيها، فضلا عن جري وسبق واقتحام.
وليس معنى التطوير هنا ودغدغته الجميلة أن يكون في أمور كبيرة ذات شأن على المستوى الفردي والمؤسسي كالتخطيط الاستراتجي، بل قد يكون فيها وفي غيرها من الأمور الصغيرة في الحياة كالمحافظة على الأذكار ونحوها، وهذه وتلك تتلبس أحيانا كثيرة وتتغير من لذة وطموح، إلى تردد وجموح!
- نجد الأخ يقبل على أخيه بعبارات الأخوة السمحة، والحب في الله، وحسن الصلة والود، وما أن تتحرك عقارب الأيام والأشهر، حتى تتغير اللهجة، وتبدأ المصالح تطفح، ويظهر المفهوم الجديد للأخوة (الأخ المصلحي) إن أراد منك شيئا وجدت البِشر والسرور، وإن طلب تحية وود كان الأخ المشغول، وإن احتجته يوما في أمر ألم بك، كأنه لا يعرفك إلا على قارعة سوق السمك، ونسي هذا المصلحي جلسة تحت عرش الرحمن لا تعطى إلا لمن صدق في أخوته، ولا تعطى لمتكلف، فيكون مكافئته من الشافعي:
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا *** فدعه ولا تكثر عليه التأسفا
ففي الناس أبدال وفي الترك راحة *** وفي القلب صبر للحبيب وإن جفا
- ونتحمس أحيانا في مشروع دعوي داخل المؤسسة ونتهلل له، وما أن تمضي بضع اجتماعات حتى نمل، لأن العمل الجماعي فيه صعوبة، ومخالفات للرأي، ورد قوي على رأيك، وربما تهميش له، وما يلبث ذلك العمل أن يفتر وينتهي، من بعد جهد وتعب قليل، كأننا ما تحمسنا يوما له.
- ويحرص أخ على ثني ركبه وطلب العلم، وما أن يجلس لأيام وتبدأ فقرات عموده الفقري بالتعب، حتى يبدأ الشكوى لأمه، كأنه ما تحمس يوماً لما كان عليه السرخسي الإمام وقد نطق بكل كتابه [المبسوط] وهو في البئر لتلامذته وقد بلغ كتابه المجلدات الطوال، وبمجرد تنمل قليل في رجليه من القراءة، يبدأ في البحث عن مُلينات البَشرة، ويترك إحناء الظهر، كأنه ما حلف يوماً بالله أن يكون نعم الطالب الأواب.
بَصُرتُ بالراحة الكبرى فلم أرها *** تُنال إلا على جسر من التعب
- وتذبل وردة المعاني الراقية من زوج وزوجة بمجرد هفوات الحياة، ولا يجد أحدهما من الآخر إلا المنكب الخشن، كأن الله ما جعل البيوت للمودة والرحمة، كأن الحياة لابد أن تكون من غير هفوات ولا مشاكل، وقد يصل الأمر إلى جفوة وجرح في القلب والمشاعر، لا يجد من يلملم شعثه العاطفي.
- ويتعهد المرء منا بأن يقوم بعمل ما لله -تعالى-، يجده في ميزان آخرته، وتحركه أشواقه للجنان، وما هي إلا خطوات حتى يصرعه الشيطان، وينسى أن الشيطان هذا دوره {لأقعدن لهم صراطك المستقيم}، وينسى رائحة الجنة، ويخلد إلى الأرض، ويتبع هواه في الترك والتوقف.
إن المسلم تنازعه عدة أمور ولا شك، لأنه بشر، هكذا خلقه الله، فهو بين روح ونفس وشهوات وجسد يجره إلى الأرض جراً، غير أن المسلم الحق الذي لا يلتزم بدينه تقليداً ولا تصنعاً ولا روتيناً، هذا المسلم يشعل في قلبه شعلة الإيمان، ولا يزال يهيجها بحطب العمل ووقود الإخلاص، حتى ينير الله قلبه، مصداقا لقول الله -تعالى-: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشكَاةٍ, فِيهَا مِصبَاحٌ المِصبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ, الزٌّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوكَبٌ دُرِّيُّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ, مٌّبَارَكَةٍ, زَيتُونِةٍ, لَّا شَرقِيَّةٍ, وَلَا غَربِيَّةٍ, يَكَادُ زَيتُهَا يُضِيءُ وَلَو لَم تَمسَسهُ نَارٌ نٌّورٌ عَلَى نُورٍ, يَهدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضرِبُ اللَّهُ الأَمثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيءٍ, عَلِيمٌ}. عليم بنيته وعليم بعمله وصوابه، وعلى قدر صواب العمل ونقاء النية يكون الإمداد.
إن عنصري العمل المستمر والنية الصحيحة هما جناحي الإرادة القوية، التي تمضي وتسير وتنطلق وتحلق في نسائم الرضوان، لأن الإرادة في كيان الإنسان لا تتوقف ولا تنم ولا تكسل، يحركها العقل الباطن، وبهذين الجناحين ـ العمل والنية ـ يكون المسلم مسلما حقا، ومن غيرهما لا يكون إلا الغثاء.
قال النبي الحبيب الأمين -عليه الصلاة والسلام-: (يُوشِكُ أَن تَدَاعَى عَلَيكُمُ الأُمَمُ مِن كُلِّ أُفُقٍ, كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصعَتِهَا قَالَ قُلنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِن قِلَّةٍ, بِنَا يَومَئِذٍ, قَالَ أَنتُم يَومَئِذٍ, كَثِيرٌ وَلَكِن تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيلِ يَنتَزِعُ المَهَابَةَ مِن قُلُوبِ عَدُوِّكُم وَيَجعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهنَ قَالَ قُلنَا وَمَا الوَهنُ قَالَ حُبٌّ الحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ المَوتِ) رواه أحمد وأبو داود.
لا مهابة في قلوب الغير لأنه لا مهابة في داخل النفوس المتقلبة التي لا تستقر على طريق ولا تكمل سيراً، ولا مهابة في قلوب الغير لأن النفس تضجر من التعب! فكيف تلاقي ويهاب منها العدو المتعب لكل أمة الإسلام، ولا مهابة في قلوب الغير لأن السأم هو الإزار والملل هو الرداء والعدو لباسه الحديد والبأس الشديد، ونسي المسلم أن: {وَلِبَاسُ التَّقوَىَ ذَلِكَ خَيرٌ} ولن يكون تقيا من يهاب المسير!
وهن في الهمة وميل إلى الدنيا وملذاتها، ووهن في الهم وتشعبه في أودية الحياة السحيقة، ووهن في الفكر وضحالة ماء العقول، ووهن في الإرادة ونتف كل ريش جناحيها حيناً بحين، ووهن في المعالجات وطريقة حل الأمور، ووهن في العاطفة وصدق معانيها، ووهن في الانتساب لهذه الدعوة المباركة.
لا مهابة، ووهن... ثم تريد أن تصل؟ ويحك أفق، واعرف لرجلك قبل الخطو موضعها، وفتش في نيتك، وكن الصادق في عهودك مع الله، وتذكر خطر نكث العهود التي تقطعها، وتأمل معي قول الله -تعالى-: {وَمِنهُم مَّن عَاهَدَ اللّهَ لَئِن آتَانَا مِن فَضلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ}(الوعد والعهد والطموح الأمل) {فلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَّهُم مٌّعرِضُونَ}(النكث والتخلف وعدم تكملة الطريق) {فَأَعقَبَهُم نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِم إِلَى يَومِ يَلقَونَهُ بِمَا أَخلَفُوا اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكذِبُونَ}(العقاب) {أَلَم يَعلَمُوا أَنَّ اللّهَ يَعلَمُ سِرَّهُم وَنَجوَاهُم وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الغُيُوبِ}(التحذير).
هذه الآيات من سورة التوبة تحتم علينا التأمل فيها، والخوف من عواقبها، وتجعل قلبك خائفا وجلاً من سوء الخاتمة، فخذ الأمر بزمام، وكن صاحب عزمات الخير الماضيةº خير خلف لخير سلف، ولا تتردد وردد معي بصوت مرتفع {فَلَا اقتَحَمَ العَقَبَةَ}؟!، وارفع يدك وقل: اللهم إني أعوذ بك من الهم والكسل، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد