بسم الله الرحمن الرحيم
المسلم الذي يحمل هم الإسلام والدعوة إليه، لا يفتأ متحركا به باذلاً كل ما يقدر في سبيل إعلاء كلمة الله - تعالى -، يكون عاليا في دعوته وعزته به، حتى يظفر بكلمة الله هي العليا في واقع ينافس في عرصاته.
تلك العرصات الصاخبة بكثير من الصيحات لأهلهاº منهم من هو على المحجة البيضاء، ومنهم من يتبع خطوات شيطان رجيم، وبين صياح هذا و وسوسة ذاك، درجات من الهمس والبوح والكلام، والتزويق.
وما الحياة وساحاتها وتعدد الصيحات والهتافات فيها، إلا كسوق كبير مترامي الأطراف، يقصده الناس بحسب مقاصدهمº فيه التاجر الأمين الذي يريد الكسب والخير للناس، وفيه الباحث عن سلعة له ولآل بيته، وفيه من يريد الشراء لأيتام يعولهم، أو محتاجين يعينهم، وفيه النصّاب الذي يقتات من الحلف الكاذب، وفيه الغشاش المزور، وكذا تجد في سوق الدنيا مَن يحبه كل أهل السوق، ومن هو البعيد الجافي..
كذا تعامل الناس في الحياة مع سلعهم وأهدافهمº كلٌ له مأرب يسعى له، ويبرز العفيف الطاهر، الذي يترفع عن وسخ الدنيا كأنما يرفع ثوبهº كي لا يتلوث بما سقط في سوق الناس وعفن البضائع، الجميل الطلعة المبتسم الثغر، الذي يقصده كل محتاج ويحبه كل شريف.
فهو يعلم يقينا أين تعقد الصفقات الناجحة وما هي مواصفاتها، ولن يدخل إلا في تجارة رابحةº إذ هو المؤمن العفيف، ويناديه ربه - سبحانه -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَل أَدُلٌّكُم عَلَى تِجَارَةٍ, تُنجِيكُم مِّن عَذَابٍ, أَلِيمٍ, * تُؤمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَموَالِكُم وَأَنفُسِكُم ذَلِكُم خَيرٌ لَّكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ * يَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَيُدخِلكُم جَنَّاتٍ, تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدنٍ, ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ * وَأُخرَى تُحِبٌّونَهَا نَصرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ المُؤمِنِينَ} [الصف: 10 ـ 12].
هذه هي تجارة المسلم الواعي في دنيا السوقº همه أن يكون هاديا مهديا، ولن يقبل بأقل من ذلك، ويلح على الله بذلك، وينشده ويطلب مظانه، يحرص على النجاة من عذاب أليم، ويسعى لمغفرة ودخول جنان سامقة، ينشد الفوز العظيم ويخشى من التجارة الخاسرةº {أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشتَرُوُا الضَّلاَلَةَ بِالهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُم وَمَا كَانُوا مُهتَدِينَ} [البقرة: 17].
يخاف من هذا الحال التعيس في الشراء، ويخشى أن يستبدل الذي هو أضل، بالذي هو أهدى سبيلا، فكراً وسلوكاً وعاطفةً وحباً وعملا، فيهرع إلى شراء يعرضه الرب الكريم، مرتلاً قول الله - تعالى -: {إِنَّ اللّهَ اشتَرَى مِنَ المُؤمِنِينَ أَنفُسَهُم وَأَموَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقتُلُونَ وَيُقتَلُونَ وَعداً عَلَيهِ حَقّاً فِي التَّورَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالقُرآنِ وَمَن أَوفَى بِعَهدِهِ مِنَ اللّهِ فَاستَبشِرُوا بِبَيعِكُمُ الَّذِي بَايَعتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ} [التوبة: 111].
باع أمره ونفسه ووقته وماله لله - عز وجل -، ونِعم البيع، ولنِعم المشتري - سبحانه - في علاه، فهو الفائز العظيم في سوق الناس في الدنيا وفي صراطهم يوم التغابنº لأنه موعود بالجنة.
يدخل السوق ويبدأ في البيع والاتجار الرابح، لا يخاف البوار في سلعته، ولا الكساد في بيعته، داخلا ميدان الجد والعمل والسعي لإتمام في بيع مع اللهº {إِنَّ الَّذِينَ يَتلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقنَاهُم سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر: 29]. وليس هو الترتيل فقط، وإنما هو الرجل العملي الذي لا يلهيه أهل سوق الدنيا، ضاربا المثل العالي في الالتزام ببيعته مع اللهº {رِجَالٌ لَّا تُلهِيهِم تِجَارَةٌ وَلَا بَيعٌ عَن ذِكرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبصَارُ} [النور: 37]. هذا في تجارة عابرة في السوق الدنيوي.
أما لو عرض عليه المبادلات الكبيرة، والعقود الضخمة، فله في سيدنا صهيب القدوة الحسنةº فحين ساومه أهل مكة على أن يمسكوا ماله لو هاجر بدينه، فإن بقي أعطوه ماله، اختار البيع الرفيع العالي، وقدم على النبي - عليه الصلاة والسلام -، فحين كان الرسول جالسًا وحوله بعض أصحابهº حين أهلَّ عليهم \"صهيب\"، ولم يكد يراه الرسول حتى ناداه متهللاً: (ربح البيع أبا يحيى.. !! ربح البيع أبا يحيى!! ) وآنئذ نزلت الآية الكريمة: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاءَ مَرضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ} [البقرة: 207].
وكانت الشفاء بنت عبد الله بن عبد شمس متميزة بالحكمة ورجاحة العقل حتى إن الخليفة عمر بن الخطاب ولاها ولاية الحسبة، فكانت تراقب وتحاسب وتفصل بين التجار وأهل السوق من الرجال والنساء، فليس أمر التجارة حكرا على الرجال، بل الكل مكلف، ومن برز في عقله وحكمته وعلمه، كان قائدا في سوق الدعوةº فقد كانت الشفاء معلمة لأم المؤمنين حفصة بنت عمر بن الخطاب رضوان الله عليهم.
وتبقى سلعة الله غالية، تحثه على مزيد بذل وتضحية وفداءº (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل. ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة). رواه الترمذي.
ثم أما بعد...
أيها التاجر الداعي إلى الله: إن بيع النفس لله - تعالى -لتمسي وقفٌ عليه - سبحانه -، من المعاني الراقية التي تزرع في جذر قلب الداعية إذ هو في بداية الطريق، ومعرفته بأي الأسواق نشاطا وربحا تحدد له هدفه فلا يقع في تشتت وذهول، ولا يزال مرتلا متصلا بالوحي الكريم حينا بحين، فهو الحال المرتحل الذي لا يهجر الكتاب المبين، ثم يمضي في سجوده وركوعه معمرا لبيوت الله، تشهد له كلهاº أنه وعظ وتصدق ونصح وساهم وأفاد، وهذه سجادة تشهد له بدموع سكبها عليها وتبللت بسببه، ولن تبور تجارته، لأنه يعرف دكانه ودكان دعوته، ويعي من هم أصحاب الدكاكين الفاسدة وبضاعتهم المغشوشة، فلن يبيع شيئا من نفسه ودعوته وإن ساوموه عليها.. هذه معاني أولية في سوق الدعوة.
غير أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، ولا يزال من باع نفسه واشترى الجنة أمام مزاحمات كبيرة في البيع والشراء، يقودها له الإمام العز بن عبد السلام، سلطان العلماء، وجهبذ القضاة، الذي فقه ووعى وعلّم شعبا وأمة كاملة، و فكّها من محتكري السوق الغشاشينº قال الإمام السبكي:
\" ذكر أن جماعة من أمراء المماليك - في عهد السلطان أيوب- لم يثبت عنده أنهم أحرار، وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فبلّغهم ذلك، فعظم الخطب عندهم فيه، واحتدم الأمر، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً، وتعطلت مصالحهم بذلك، وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستشاط غضباً، فاجتمعوا وأرسلوا إليه فقال: نعقد لكم مجلساً وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي.
فرفعوا الأمر إلى السلطان فبعث إليه فلم يرجع - عن قراره -، فجرت من السلطان كلمة فيها غلطة حاصلها الإنكار على الشيخ في دخوله في هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به، فغضب الشيخ وحمل حوائجه على حمار، وأركب عائلته على حمير أخر، ومشى خلفهم خارجاً من القاهرة قاصداً نحو الشام، فلم يصل إلى نحو نصف بريد - ستة أميال - إلا وقد لحقه غالب المسلمين، لا سيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم.
فبلغ السلطان الخبر، وقيل له: متى راح ذهب ملكُك! فركب السلطان بنفسه ولحقه واسترضاه وطيب قلبه، فرجع واتقفوا معه أن ينادى على الأمراء (لبيعهم).
فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة فلم يفد فيه، فانزعج النائب وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟ والله لأضربنه بسيفي هذا.
فركب بنفسه في جماعته وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب، فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى، فعاد إلى أبيه وشرح له الحال، فما اكترث لذلك ولا تغير.
وقال: يا ولدي! أبوك أقل من أن يُقتل في سبيل الله!
ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة، فحين وقع بصره على النائب، يبست يدُ النائب وسقط السيف منها وأرعدت مفاصله فبكى، ويسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي خبّر، إيش تعمل؟ قال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم. قال: ففيم تصرف ثمننا؟ قال: في مصالح المسلمين. قال: من يقبضه؟ قال: أنا. فتمّ له ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً وغالى في ثمنهم، وقبضه وصرفه في وجوه الخير \". طبقات الشافعية الكبرى 8/216.
أخي:
* إن جاه الدعوة يكون في عزتها وعزة رجالها، الذين لا يجرؤ الحاكم أن يغلط معهم، تلك العزة التي صورتها شخصية سلطان العلماء - رحمه الله -، فما أن خرجت الكلمة وجرحت عزته حتى بدت القاهرة كلها وقد تغيرت.
* إن الداعي إلى الله لا يحده وطن، فدين الله هو وطنه، ولا يتشبث بمنصب أو جاه، إلا لخدمة دين الله - تعالى -، فما يفيد المنصب والقضاء والسلطان إن جرحت عزة الدعوة وطهارتها، ولم تمض نظرتها التي رأت.
* إن رصيد الداعي إلى الله هم الناس، لا المناصب ولا الحكام، رصيد الدعوة الحقيقي هم الشعب وجمهوره العريضº فما أن خرج العز مغاضبا حتى خرجت القاهرة كلها تلحقه، وخاف السلطان ورجع في قراره، وأي دعوة وداعية بدون جمهور عريض من الناس يحبونه ويعزونه ويقفون معه في الموقف العصيب؟، إن الدعوة التي لا تمتلك رصيدا مع الناس هي دعوة ذات كساد في تجارتها، وذات صيت من غير رصيد حقيقي.
* إن السلطان يريد دائما أن يحصر نشاط الدعوة التجاري في ترتيل وسجود وقيام وبكاء، ويستهجن إن هي قالت قولتها في أمور تتصل به وبسلطانه ومنفذي أوامره، وقد يجد من يشيع له ويبرر قراراته وتوجيهاته، ولكن لن يكون للدعوة عزتها، ولن يكون للداعي سمة \" العز \" بن عبد السلام!.
* إن حمل السلطان للسلاح في وجه الدعوة والداعي أمر قديم جدا، يسقط سلاحه بهيبة الدعوة والداعي، من غير أن يكون الداعي خفيفا في ردود أفعاله، بل المطمئن الواثق القوي، ولابد أن يأتي الوقت الذي يقول فيه الطاغية: إيش أعمل!
* مهما كانت الدعوة والداعي في عزة عظيمة، فلابد من التواضع والانكسار، فقد قال العز لابنه: \" يا ولدي! أبوك أقل من أن يُقتل في سبيل الله! \" هذه هي الروح التي يحبها الناس، قبل أن يحبوا المواقف الجليلة، وهذه هي الروح التي تولّد مواقف العزة، ومسكين من يظن في نفسه شيء، فلن يجد شيئا، وإن هو غضب، فلن يجد حتى نفسه التي بين جوانحه تخرج معه! إلا إن رباها وتعب وجاهد أن تكون متواضعة قريبة من حاجات الناس.
أخي الداعي الأمين: هذا سوق الدعوة في بعض ملامحه، فخذ لنفسك دكانا فيها، وارفع نداء الدعوة في هذا الخضم، ورتل واسجد واركع وتصدق وكن القريب من مشاممة الناس، ولا تقنع إلا بأمر بمعروف ونهي عن منكر، وروج لتجارتك ولا تخف فإن الله ناصرك، ولو بعد فجر قريب، و أنت الأمين الذي يضع يده في يد الأمناءº ليتواصوا بالمرحمة، وليكن نشيدكمº ربح البيع أبا يحيى..!! ربح البيع أبا يحيى!!.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد