بسم الله الرحمن الرحيم
الإنسان مركب من جسد وروح ومشاعر، فليس جماداً أصمّ، وليست حاجته قاصرة على الطعام والشراب فحسب، بل هو محتاج - مع ذلك - إلى غذاء عقله، وروحه، ومشاعره وتفصيل ذلك يطول، وليس هذا مجال بسطه.
وحسب الحديث ههنا أن يدور حول المشاعر، وحاجة الإنسان إليهاº فالذي يُلاحظ في حياتنا اليومية أننا نعاني من فقر المشاعر الإنسانية الصادقة المعتدلةº فتجد من الناس من هو جافٍ, لا تكاد تحظى منه بكلمة شكر، أو ابتسامة محبّ، أو دعوة مخلص.
ومنهم من هو متملّق محتال يزجي المديح بلا كيل لمن يستحقّ ولمن لا يستحقّº إما رغبة أو رهبة أو لأجلهما معاًº فإذا انقضت مصلحته قَلَبَ ظهَر المِجَنِّ، وعرَّى أفراس الصّبا ورواحله.
أما من يقابل الناس بالبشر، ويصافحهم براحة كريمة، ويثني عليهم إذا هم أجادوا، ويردّهم إلى الصواب برفق إذا هم أخطؤوا، ويُسدي إليهم المعروف إذا هم احتاجوا دون أن يكون خائفاً منهم أو راجياً لهم ـ فذلك قليل في الناس، غريب بينهم.
ومن كان كذلك أحدقت إليه الضمائر الحرة، وأولته وداً وانعطافاًº وأساغت عشرتَه، وأصاخت السمعَ لما يقوله.
ولكن هذا الصنف ـ مع الأسف ـ قليلº لأن المصالح الخاصة قد طغت، فصارت المعاملة إلى النفعية أقرب منها إلى المروءة والإنسانية.
ولا ريب أننا بحاجة ماسة إلى كمية كبيرة من المشاعر الصادقةº حتى نحفظ الودّ فيما بيننا، ونبعد عن شبح الأوهام التي تعترينا، ولأجل أن تكون حياتنا مليئة بالمسرّات، بعيدة عن المكدّرات والمنغّصات.
وإن المتأمل في حياتنا ليرى عجباًº فلغة المشاعر التي تضفي علينا الدفء في قَرِّ الشتاء، وتهبّ علينا بالنسيم العليل في حرّ الهجير ـ تكاد تنقرض عند فِئام من الناس في هذه الأزمان.
كيف يكون ذلكº ونحن نتفيّأ ظلال دين عظيم يرعى هذا الجانب حقّ رعايته، ويحذِّر من أن تتضاءل تلك العواطف النبيلة، فيضيع بسبب ذلك من حقائق الشريعة، وعزة أهلها ما يضيع؟!
ومن هنا جاء الإسلام بما يربي تلك المعاني، ويحييها في النفوسº فنصوص الوحيَين - التي لم تغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وأحاطت بها إجمالاً أو تفصيلاً ـ مليئة بتقرير تلك المعاني السامية التي تنهض بالمشاعر، وتقضي على روح الأثرة والقسوة، والغِلظة والكزازة.
فلو أجَلت فكرك في حِكَم الصلاة، والزكاة، والصيام والحج ـ وهي أعظم دعائم الإسلام بعد الشهادتين ـ لوجدت أن من أعظم حكم تشريعها مراعاة المشاعر، وقيام روح الألفة والمودّة بين المسلمين.
ولو ألقيت نظرة فيما يقرره الشارع من أوامرَ ونواهٍ, وما جرى مجرى ذلك لرأيت ذلك رأي العين.
ألا ترى أن الشارع يقرر ألا ننسى الفضل بيننا، وأن أحدنا لا يؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يسلمه، ولا يحقره؟
أليس الشارع يأمرنا بستر عورات المسلمين، والسعي في قضاء الحوائج، وتنفيس الكُرُبات، وعيادة المرضى، وتشييع الجنائز؟
أليس يأمر بإفشاء السلام، والرحمة بالخلق، والعطف عليهم، وحسن رعايتهم، ومداراتهم، والصبر على أذاهم.
أليس يأمر ببر الوالدين، وصلة الأرحام، وإكرام الجار، والوفاء للأصحاب، وحسن المعاملة للزوج والأولاد.
أليس يأمر بالأمانة وإنجاز الوعد، وحسن الظن، إلى غير ذلك من الأوامر التي ليس بعدها أمل لآمل، ولا زيادة لمستزيد.
وفي مقابل ذلك، فهو ينهى عن أمور كثيرة من شأنها أن توهي حبال المودة بين المسلمين، أو تنقض عُراهاº فتراه ينهى عن العقوق، والقطيعة، وأذيّة الجار، والكبر، والحسد، والغل، والحقد، والبخل، والفظاظة، والوقاحة، والعِناد، والغيبة، والنميمة، والسب، واللعن، وإفشاء السر، والسخرية بالناس، والتعبير بالعبارات المستقبحة، والتخاطب بالألقاب السيئة.
وينهى - كذلك - عن كثرة الجدال والخصومة، وعن المزاح البذيء، وعن الكلام فيما لا يعني، وعن الخيانة، والمكر، وإخلاف الوعد، والتحسس والتجسس، وتتبع العورات، والتهاجر، والتشاحن، والتدابر وما إلى ذلك.
وتفصيلُ ما مضى، وذكرُ أدلته يحتاج إلى مجلّدات ضِخام، والمقام لا يسمح بذلك.
ومع ذلك كله فإن الناظر في أحوال إخوانه المسلمين يعتريه الأسى واللوعةº لما حلّ بهم من الشنآن، والقطيعة، والتهاجر، وجفاف المشاعر، وجفاء الطباع.
فمن ذلك ضعف وبرود المشاعر بين الوالدين والأولاد، وبين الأرحام، والجيران، والأزواج، وبين المعلمين والطلاب.
ومن ذلك قلة المراعاة للمشاعر حال تقديم النصيحة، وقلة ذلك من قبل المنصوح الذي يردّ النصيحة، ويزري بالناصح أو الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر.
ومن ذلك قلة المراعاة لمشاعر العمال، والغرباء، والصغار، والمرؤوسينº وذلك باحتقارهم، أو هضم حقوقهم أو ما شاكل ذلك.
ومن هذا القبيل قلة المراعاة للمخالفين والخصوم حال الردّ والمناقشة أو المجادلة، ولا يعني ذلك ترك الردّ أو قوّة الحجّة فيه، وإنما المقصود من ذلك ما يكون من الظلم، والزيادة، والبغي، والاستطالة.
ومن ذلك قلة المراعاة لمشاعر المراجعين من قبل بعض الموظفينº حيث يستقبلونهم بتثاقل، وبرود، ويقدمون لهم الخدمة بمِنّة وتباطؤ.
ومن ذلك قلة المراعاة لحقوق الأخوّة والصداقة، كقلّة التعاهد، والتزاور، وكالجفاء، وكثرة التجني، وما جرى مجرى ذلك.
ومن ذلك قلة المراعاة لمشاعر المريض أثناء زيارته، كحال من يذم الطبيب الذي يعالج المريض، أو الذي أجرى له العملية الجراحية، أو كحال من إذا زار المرضى أن يذكر لهم أقواماً أصيبوا بمثل ما أُصيبوا به فماتوا.
ومن مظاهر فقر المشاعر ما يقع بين جماعة المسجد الواحدº فهم يجتمعون لأشرف الغايات ألا وهي عبادة الله - عز وجل - بأداء الصلاة، وليحققوا مقصداً من أعظم مقاصد الدين ألا وهو الاجتماع، والألفة، والمحبة.
ومع ذلك تجد جماعة بعض المساجد لا يراعون هذا الجانبº فتجد أن العلاقة بين الإمام والمؤذّن وجماعة المسجد ضعيفة أو معدومة، بل ربما شاع بينهم كثرة الانتقاد، وكثرة اللوم والعتاب، وربما شاع بينهم القطيعة والبين.
وهذا مصداق قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم\"(1).
فالذي ينبغي لهؤلاء أن يقطعوا على الشيطان طريقه، وألا يسترسلوا مع الظنون السيئةº فينبغي للإمام أن يراعي مأموميه، وأن يرفق بهم، وأن يتحمل بعض ما يصدر منهم من جفاء أو كثرة اقتراحات، أو انتقاد.
كما ينبغي أن ينزلهم منازلهم، وأن يبادرهم بالسلام والتحية، خصوصاً كبار السن، ومن لهم قدر وجاه.
كما عليه أن يراعي مشاعر الصغار، والمقصرين، وأن يأخذ بأيديهم إلى الصلاح.
كما عليه أن يحفظ عرضه وذلك بالانضباط، والاعتذار حال المغيب، وأن يوكل الكفؤ إذا كان لديه عذر.
كما على المؤذن مثل ما على الإمام، وعليه أن يحسن علاقته بالإمام والمأمومين، وعليهما أن يهيّئا جو الخشوع والراحة للمصلين.
وبالمقابل فعلى جماعة المسجد أن يلتمسوا العذر للإمام والمؤذن في بعض الأمور، وعليهم المناصحة بالتي هي أحسن.
وإذا وفّقوا بإمام عاقل فليعَضّوا عليه بالنواجذ، وإذا رأوا من بعضهم إساءة في حقه فليوقفوا ذلك المسيء عند حدّه.
وعلى كل حال فالمسألة تحتاج إلى بسطº فإن مظاهر فقر المشاعر كثيرة وكل واحد مما مضى يحتاج إلى وتفصيل وعلاج.
وصفوة المقال: فإن مراعاة المشاعر منهج شرعي، ومطلب اجتماعي يحتاجه المعلم مع طلابه، وعميد الأسرة مع أهل بيته، كما يحتاجه القاضي في مقطع أحكامه، والعالم في تصدّيه للناس، والرئيس الأعلى في سياسته لرعيته.
بل ويحتاج إليه كل إنسان ما دام مدنياً بطبعه، ولا يستطيع أن يعيش في عزلة مطلقة.
وأخيراً لا تحتقر شيئاً مما يكسبك شكوراً، وتزداد به صحيفة أعمالك نوراًº فلا تحتقر كلمة طيبة، أو ابتسامة صادقة تنزلها رحمة على قلب إخوانك.
ولا تتهاون بملاطفة الصغيرº فإنه سيكبر ولن ينسى لك ذلك الجميل، ولا يغب عن بالك مواساة العامل الغريبº فإنه يأنس بذلك، ويرتاح له، ولا تتوانَ أن تقول للناس حسناًº فإن كنت تعرف من تقول له ذلك استملت قلبه، وإن كنت لا تعرفه فقد أسعدته، وكسبت رضا ربك في ذلك كلّه.
بل لا تحتقر المكالمة الهاتفية، أو الرسالة البريدية، أو الجوّالية المسعدة المعبّرة، المذكّرة، المواسية، وتذكّر أن في \"الكلمة الطيبة صدقة\" واستحضر \"أن تبسّمك في وجه أخيك صدقة\".
و\"لا تحقرنّ من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلِق\".
وبالجملة فالموضوع طويل، والحديث عنه ذو شجون، وما مضى إنما هي إشارات وذكرى و (الذِّكرَى تَنفَعُ المُؤمِنِينَ).
----------------------------------------
(1) رواه الإمام أحمد 3/313 و 354 و 366 و 384، ومسلم (2812).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد