بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
أمّا بعد:
فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوَى الله - عز وجل - فبها يحصل المخرجُ مِن كلِّ ضيق والتيسيرُ من كلِّ أمر عسير.
معاشرَ المسلمين، إنّ الشريعةَ الإسلامية ومِن منطَلقِ حِرصها على إسعادِ البشريّة وتحقيق الخير والفلاح للخليقة قد جاءت أحكامُها لمقاصدَ عاليةٍ, وتحقيق غايات فاضلةٍ, وأهدافٍ, سامية، تلكم هي المقاصدُ الشرعيّة التي هي علمٌ من علوم الشريعة، حظِيت من المحقِّقين باهتمامٍ, بالغ وعناية فائقة، ذلكم أنّ أيّ تصرٌّفٍ, يتصرّفه المسلم مهما حسُنت النوايا يجب أن يكونَ متَّفِقا مع مقاصدِ الدين متمشِّيًا مع سنّة سيّد الأنبياء والمرسلين، حتى لا يهدم المرءُ إسلامَه من حيث لا يشعُر، ولا يُفسِد دينَه من حيث لا يعقِل، وحينئذٍ, مَتى حصلتِ المخالفة لمقاصد الدين حصَل الضلال والإضلال والضررُ والفساد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في حَقّ الخوارج الذين خرَجوا على صحابةِ رسول الله: \"وقلَّ من خرَج على ذي السٌّلطان إلاّ وتولَّد على فِعله من الشرِّ أعظمُ ممّا تولَّد من الخير ـ إلى أن قال - رحمه الله -: ـ فما أقاموا دنيا، ولا أبقَوا دينًا\" انتهى[1]، ويقول ابن القيم - رحمه الله - بعد أن قرّر مجيءَ الشريعةِ لمصالح العباد: \"وهذا فصلٌ عظيمُ النفع جدًّا، وقع بسبَب الجهل به غلطٌ عظيم على الشريعة\" انتهى[2].
وإنَّ أمّتنا وهي تعاني ما تعاني من الشدائدِ والمِحن لفي ضرورةٍ, لتفهٌّم المقاصد العامَّة لهذا الدين، وفي حاجةٍ, ماسَّة لدراسة أهداف شريعة الإسلام والتعمٌّق فيها والعَمَل على وقفهاº لإصلاح المنهَج النظريّ العلميّ والمنهج العمليّ الاجتماعي التطبيقي، خاصّة شباب الإسلام الذين هم عِماد الأمة ومصدرُ قوّتها. نعم، إنَّ الواجبَ عليهم التبصٌّر في مقاصد دينهم والوعيُ التامّ لهاº ليتجنّبوا سوءَ المأخَذ وفساد الاستنتاج وقُبحَ الأعمال، وحتى تترقَّى مداركُهم وتظهرَ جهودُهم في أجمل المظاهرِ التي أرادها هذا الدين، ولتنبع أفعالهم من روحِ الإسلام وتنساق من مقاصِده وتوفِي بحاجات الدّعوةِ وتواكِب مقتضياتِ الزمان وتغيٌّرات العصر.
معاشرَ المسلمين، مقاصِدُ الشريعة ترجِع في أصلها وتعود في مُجمَلها إلى تحقيق القاعدةِ الكلّية الكُبرى: الحرصُ الشديد على جَلب المصالح وتكثيرها، والتأكيدُ البالِغ على دَرء المفاسد وتقليلها. ومِن هنا فالغاية الجامعةُ والمقصَد العامّ من التشريع في الإسلام بعد تحقيق العبُوديّة لله هو حِفظ نظامِ الأمّة واستدامةُ صلاحها بعمارةِ الأرض، وحِفظُ نظام التعايُش فيها، والحرصُ على حِفظ نظام العالمَ وضبطِ تصرٌّفات الناسِ فيه على وجهٍ, يعصِم من التفاسُد والتهالك، يقول - جل وعلا -: ((وَلا تُفسِدُوا فِي الأَرضِ بَعدَ إِصلاحِهَا)) [الأعراف: 56]، ويقول - سبحانه -:(( فَهَل عَسَيتُم إِن تَوَلَّيتُم أَن تُفسِدُوا فِي الأَرضِ وَتُقَطِّعُوا أَرحَامَكُم أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُم اللَّهُ فَأَصَمَّهُم وَأَعمَى أَبصَارَهُم)) [محمد: 22، 23]، ويقول - جل وعلا - ((وَاللَّهُ لا يُحِبٌّ المُفسِدِينَ)) [المائدة: 64].
إخوةَ الإسلام، من المقاصدِ العليا للإسلام في هذه الحياة إقامةُ العدلِ بشتَّى صُوَره وإشاعة الرحمةِ بين الخلق بأوسَع معانيها وتحقيقُ الإحسان في جميع مجالاته،(( إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القُربَى)) [النحل: 90]، ((وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ رَحمَةً لِلعَالَمِينَ)) [الأنبياء107]، ((وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسنًا ))[البقرة: 83]، ونبينا يقول: (إنَّ الله كتَب الإحسانَ على كلِّ شيء)[3].
معاشرَ المسلمين، ومِن المقاصِد الكبرى لشريعة محمّد تلك الملقَّبة عند العلماءِ بالضروريات الخمس: حفظُ الدين والنفوس والأموال والعقول والأنسابِ، تلك الكلِّيات الخمس التي هي بمنزلةِ الثوابت المطَّردة والقِيَم الخالدة في هذا الدين، والتي بها قِوام حياة الإنسان وعليها مدارُ العمران، وبها انتظامُ الإسلام، لا يستقيم النظام باختلالها، ولا يهنأ عيشٌ بدون سلامتِها، بل إذا انخرمت تَؤول حالُ الأمّة إلى فسادٍ, وتلاشٍ, وضعفٍ, وهوان، ونصوصُ الشريعة في مراعاةِ هذه الضروريّات أشهرُ من أن تُذكَر، وأبرز ما أن تُحصَر، ولذا ففي التطبيقاتِ العملية من سيِّد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام ومن خلفائه الراشدين ممّا هو متواترٌ وشيء ظاهر مشتهِر في مراعاتها والعمِل في وفقها:
إنَّ النبيَّ وهو في حالة الحرب مع الكفار الحربيِّين ينهى عن قتلِ النساء والصبيان ومن ليس مِن أهل القتال حِفظًا للنفوس من الإهدار والإفساد.
وهذا عمر الفاروق - رضي الله عنه - ينطلِق في نظراته من هذه المقاصد، يقول: (والذي نفسي بيده، ما يسرٌّني أن تفتَحوا مدينةً فيها أربعةُ آلاف مقاتِل بتضييع رجلٍ, مسلم) أخرجه سيعد بن منصور في سننه[4]، ونراه يكتب إلى عمّالِه كاتبًا لهم: (لا تستعمِلوا البراءَ بنَ مالك على جيشٍ, من جيوش المسلمينº لأنّه كان شديدَ الجراءة، يقتحم المهالكَ بأمّة محمد)[5].
وها هم علماءُ الإسلام يقرِّرون انطلاقًا من القرآنِ والسنّة بأنّ الكفار الحربيِّين متى تترَّسوا بمسلمين ولو واحدًا أو تترَّسوا بذمّيِّين يعيشون في ديار الإسلام فلا يجوز رميُهم صيانةً للنفوس إلاّ في حالات ضرورة قصوى يقرّرها وليٌّ أمر المسلمين، بل وهكذا الحكمُ عندهم لو تترّس الكفّار الحربيّون بنسائهم وأطفالهم حِفظًا من الشريعةِ للنفوس البشرية التي خلقها الله - جل وعلا - وما خلقه مكرَّمٌ كما قال: ((وَلَقَد كَرَّمنَا بَنِي آدَمَ)) [الإسراء: 70].
ومِن مقاصد الإسلام الحرصُ على درءِ كلِّ ما يعود على هذا الدين بالتنفير منه، ومَنع إظهار أيّ صورةٍ, قد تكون سببًا للمَنع من دخول الناس في دين محمّد،(( وَلا تَسُبٌّوا الَّذِينَ يَدعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبٌّوا اللَّهَ عَدوًا بِغَيرِ عِلمٍ,)) [الأنعام: 108]، والنبيّ قد كفّ عن قتلِ المنافقين في المدينةِ مع كونه مِن أعظم المصالح ذاك الوقت لئلاّ يكون ذريعةً إلى تنفير الناس عن دين الإسلام وقولهم: إنّ محمّدًا يقتل أصحابه.
قال العلماء: لأنّ مفسدةَ التنفير أكثرُ من مفسدةِ [ترك] المنافقين، ومصلحةُ التأليف أعظمُ من مصلحة القتلº ولذا ففي عالم اليوم تجد المتربِّصين للإسلام يتصيَّدون لكلِّ تصرٌّفٍ, يصدُر من أبناءِ الإسلام لينالوا من الإسلام وخصائصِه ونبيِّه، مع أنَّ تلك التصرٌّفات لا تمتٌّ للإسلام بصلةº كترويع الآمنين وسفك الدماء وتخريب العمران.
ومن مقاصدِ شريعة الإسلام تحقيقُ وَحدة المسلمين والتأليف بين قلوبهم وجمعُ كلمتهم ومنع كلِّ ذريعة للتفرٌّق والاختلاف والتنازُع، قال ابن القيم: \"وهذا مِن أعظمِ مقاصد الشَّرع، وقد سَدَّ الشرع الذريعةَ إلى ما يناقضه بكلّ طريق حتى في تسوية الصفِّ في الصلاةِ لئلاّ تختلفَ القلوب، وشواهدُ ذلك أكثر من أن تُذكَر\" انتهى[6]، يقول الله - جل وعلا -: ((وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا)) [آل عمران: 103]، ويقول - جل وعلا - ((وَلا تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذهَبَ رِيحُكُم)) [الأنفال: 46]، ونبيٌّنا يقول فيما رواه مسلم: (من خرَج من الطاعة وفارقَ الجماعةَ فمات ماتَ ميتةً جاهلية)[7] والعياذ بالله.
ومن هنا حرص الأعداءُ بكلِّ طريقٍ, على تعميق الهوَّة بين أفرادِ الأمة وبين علمائها وولاةِ أمورها، حتى يحصل الشرّ العظيمُ بالأمّة ويتحقّق للأعداءِ ما يريدون، لذا فالضرورةُ اليومَ داعيةٌ إلى التكامُل والتعاضد بين العلماء والحكّام والمجتمع ككلّ على منوالِ الشريعةِ لتحقيق المقاصدِ الشرعيّة والأهداف المرعية التي جاء بها سيِّد الخلق محمد.
إخوةَ الإيمان، ومِن مقاصد شريعة الإسلام سدٌّ الفِتَن وأبوابها ومنعُ الشرور وطُرُقها، يقول ابن القيم - رحمه الله - في تأصيل قاعدةِ سدّ الذرائع: \"الوجه الثامن والتسعون: نهيُ النبيِّ عن قتال الأمراء والخروج على الأئمة وإن ظلموا أو جاروا ما أقاموا الصلاة، سدًّا لذريعة الفسادِ العظيم والشرِّ الكثير بقتالهم كما هو الواقع، فإنّه حصل بسبب قتالهم والخروج عليهم أضعافُ أضعافِ ما هم عليه، والأمّة في بقايا تلك الشرور إلى الآن\" انتهى كلامه المتين[8]، ويقول أيضًا في النهي عن إنكار المنكَر إذا كان يلزم منه ما هو أنكرُ منه، يقول - رحمه الله - في كلام عليه نورٌ: \"وهذا كالإنكارِ على الملوك والولاة بالخروج عليهم فإنّه أساسُ كلِّ شرٍّ, وفتنة إلى آخر الدهر ـ إلى أن قال: ـ ومن تأمّل ما جرى على الإسلام في الفِتن الكبار والصِّغار رآها مِن إضاعةِ هذا الأصلِ وهو إنكار المنكر إذا كان يترتّب عليه ما هو أنكرُ منه، ومِن عدم الصبر على المنكَر، فيُطلَب إزالتُه، فيتولّدُ منه ما هو أكبر منه\" انتهى[9].
وانطلاقًا من هذا المبدأ قرّر محقِّقو العلماء مبدأً مهِمًّا يجب أن يُفعَّلَ في واقع المسلمين، وهو قولهم: ليس كلٌّ ما هو حقّ معلومٌ يجوز نشرُه ممّا يؤدّي إعلانُه إلى مفسدَة من فتنةٍ, وفوضى وشرّ، قال الشاطبي - رحمه الله -: \"ومنها ـ أي: العلوم ـ ما لا يُطلَب نشرُه بإطلاق وذلك ممّا يتضمَّن ضررًا محضًا\" انتهى[10]، خاصةً عند العامّة وشباب الأمة ممّن قد يكون لبعضهم فتنةً لعدم وجودِ العلم الكافي لديهم وعدمِ الإدراك الكامل، وهذا منهَج معروف عند سلفِ هذه الأمّة، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما أنتَ بمحدِّث قومًا حديثًا لا تبلُغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)[11]، وهذا عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - في حادثةٍ, يقول لعمر حينما أراد عمر - رضي الله عنه - التحذيرَ من النفَر الذين تكلَّموا في مسألةٍ, من مسائل الإمامةِ وهو في موسم الحجّ، قال عبد الرحمن: (لا تفعَل، فإنّ الموسمَ يجمع رعاعَ الناس، ويغلبون على مجلسك ـ أي: يقترّبون منك ـ، فأخاف أن لا يُنزلوا مقالتَك على وجهها، وأن يُطيروها كلَّ مطير، وأمهِل ـ يا عمر ـ حتى تقدُم المدينة، فتخلصَ إلى أصحابِ رسول الله، فيحفظوا مقالتَك، وينزلوها على وجهها)، فوافقه عمر وهو الموفَّق الملهَم[12].
ومِن مقاصد الإسلام تحريرُ العقول من التقليدِ والتَّبعيّة المجرّدَة، تلك التبعيّةُ التي تستعبد الأفكارَ وتستأسر العقولَ من باب الإعجابِ بالآراء ليس إلاّ كيفَ كانت، وتنزيهها من الخطأ، وبالتالي تنعدِم عند المسلمين ملكةُ النقد، وتسود عقليةُ التسليم مهما كانت الآراءُ المتلقّاة لا تنهَض على حجَّةٍ, ولا يقودها دليلٌ سوى العاطفة والحماس.
لذا حريُّ بشبابِ الأمّةِ شبابِ محمّد أن يتّقوا الله - جل وعلا - في دينهم، وأن لا يأخذوا الفتاوى والآراءَ إلا من أهلِها أصحابِ الدّراية والروايةِ، وليحذَروا من تلك الشّبكاتِ العنكبوتية التي تبرز الغَثّ والسمين والصوابَ والخطأ، لا يُعلَم مصدرُها، ولا يوثَق بخبرها، والله - جل وعلا - يقول ((فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ)) [النحل: 43]، وفي الحديث: (حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتَّخذ الناسُ رؤوسًا جهّالا، فأفتوا فضلّوا وأضلّوا)[13] عياذًا بالله.
معاشرَ المسلمين، استقراءُ الشريعة في أقوالها وتصرّفاتها حجّةٌ قاطعة بأنّ من مقاصدها العليا أن يوجَد للأمة ولاةٌ يسوسون مصالحها ويقيمون العدلَ وينفِّذون أحكامَ الله فيها، لذا كانت الولايةُ السلطانية من لوازم الشريعة، لئلاّ تكون في بعضِ الأوقات معطّلةً، يقول عليّ - رضي الله عنه - وهو من مدرسةِ محمّد: (إنّ الناسَ لا يُصلحهم إلا إمامٌ برّ أو فاجر)[14].
ومن هنا ألزمتِ الشريعةُ الحاكمَ بتقوى الله - عز وجل - في كلّ أموره، وبالسّعي في جلب مصالح الأمة ودرء المفاسد عنها، وأوجبت على الرعيّةِ طاعةَ الحاكم في غير معصية الله، وعدمَ الخروج أو الافتيات عليه، بل له في الشريعة الدعاءُ والنّصحُ الصادق برفقٍ, ولُطفٍ,، مع المعاونة له على الحقّ.
أيّها المسلمون، أمّةَ الإسلام، شبابَ الإسلام، ها هي بعضُ مقاصِد سيِّد الخلق ودين محمّد، حينئذٍ, فكلّ عاقلٍ, وكلٌّ متبصِّر لا يشكّ أدنى شكٍّ, أنّ هذه الأعمالَ الإجرامية التي وقعت في أماكنَ من بلاد الحرمين كحادثة الرياض ثم حوادثِ جدّة ثم ما وقع أخيرًا في مدينة ينبع كلٌّها أعمالٌ شنيعة، جمعت من القبائح ما لا يُحصَى، ومن مخالفةِ أمر الله ورسوله ما لا يعَدٌّ ولا يُحصَر. أعمالٌ لا تستقيم مع مقاصد الشريعة التي سمعنا بأيّ وجهٍ, من الوجوه، بل هي مضادَّة لها، مصادِمةٌ لمُجملها وتفصيلها، بل إنّ هذه الأعمالَ وأمثالها لا تصبٌّ إلا في وخدمِة أعداء الإسلام وتحقيق مصالحهم في ضرب الإسلام وأهله، ولذا فما فرِح أعداء الإسلام بمثل فرحتِهم بمثل هذه الأعمال، فيا خيبةَ من كان وسيلةً للأعداء وآلةً سهلةً لهم في هدم مقاصدِ الإسلام، والله - جل وعلا - يقول: ((وَلا تَتَّخِذُوا أَيمَانَكُم دَخَلاً بَينَكُم فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السٌّوءَ بِمَا صَدَدتُم عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُم عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [النحل: 94].
ولنستمع إلى النورِ من مشكاةِ النبوَّة، يقول: (من خرج مِن الطاعةِ وفارق الجماعة فمات ماتَ مِيتةً جاهلية، ومن قاتل تحتَ راية عمِّيَّة يغضَب لعصبيّة أو يدعو إلى عصبة أو ينصُر عصبةً فقُتل فقِتلة جاهلية، ومَن خرج على أمّتي يضربُ برّها وفاجرَها ولا يتحاشى من مؤمِنها ولا يفي لذي عَهدٍ, عهدَه فليس مني ولستُ منه)) أخرجه مسلم[15].
وعن رفاعة بن شدّاد قال: كنتُ أقوم على رأس المختار، فلمّا تبيَّنتُ كذبَه ـ وهو الذي ادّعى النبوة ـ هممتُ ـ وأيم الله ـ أن أسلّ سيفي فأضربَ عنقَه، حتى ذكرتُ حديثًا حدّثناه عمرو بن الحمِق قال: سمعتُ النبيَّ يقول: (من أمَّن رجلاً على نفسِه فقتله أُعطِيَ لواء الغدر يومَ القيامة)[16].
نفعنا الله بما سمعنا، وبارك الله لنا في القرآن والسنّة، أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقه وامتنانِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبيّنا وسيدنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أذكِّر نفسي وإياكم بتقوى الله - عز وجل - فهي وصيّة الله للأوّلين والآخرين.
معاشرَ المسلمين، من مقاصدِ شريعة الإسلام التركيزُ على الفقهِ في الدّين ومداولةِ تعاليمه بعلمٍ, شرعيٍّ, فيه من الله برهانٌ مبين فالخير كلٌّ الخير للأفرادِ والأمّة جميعًا بثٌّ العلوم الشرعيّة والمعارف السٌّنِّيّة، فرسولنا يقول: (من يُردِ الله به خيرًا يفقِّهه في الدين)[17].
والأمّة على مستوى آحادِها ومجتمعاتها ينبغي أن لا تصدُر ولا ترِد إلاّ بعلمٍ, دقيق وفقهٍ, ضليع في عباداتها وفي جميع شؤون حياتها، وذلك لا يكون إلاّ عن طريق التلقِّي من العلماء ذوي النظرِ السديد في فقه الشريعة والتمكٌّن الدقيق في معرفةِ مقاصدها، مع الخبرة بمواضِع الحاجة في الأمّة والمقدِرة على إمدادِها بالمعالجة الشرعية لاستبقاءِ عظمتِها واستِرفاء خُروقها.
وحينئذ فقضايا الأمّة ومسائلُها النازلة لا ينبغي بأيّ حالٍ, عَرضُها على الاجتهادات الفرديّة، بل لا بدّ من جمع مجامعَ علميّةٍ, من أكابر علماء الإسلام، ليبسطوا بينهم حاجات الأمة، ويصدروا فيها عن وفاقٍ, فيما يتعيَّن عملُ الأمة عليه، فكفانا وكفانا تفرّقًا واختلافًا.
فتحقيقُ مقاصد الشريعة التي هي أمانةٌ على كلّ فردٍ, من أفراد الأمة، تحقيقُها على نحوٍ, أكمل غيرُ ممكِن بدون استيعابٍ, لواقع الأمّة السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ وتقديرٍ, دقيقٍ, لحاجاتها وإحاطةٍ, شاملةٍ, لعلاقاتها مع غيرها من الأمم، وذلك كلٌّه لا سبيلَ إليه إلاّ بالدراية العلميّة المتخصِّصة الرصِيفة، والعمل الدؤوب في إطارٍ, عملٍ, جماعيّ مؤسَّسي.
قال أهل التحقيق من علماء الإسلام قديمًا: \"ومعرفة المقاصد الشرعيّة المتعلِّقة بالأمّة توكَل إلى نظر علماء الأمة وولاةِ أمورها الأمناءِ على مصالحها أهلِ الحلِّ والعقد ليُعيّنوا لها الوصفَ الجدير بالاعتبار في أحد الأحوال دون غيره\". يقول هذا القولَ قبلَ أكثرَ من سبعين سنة.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: \"وممّا ينبغي أن يُعلَم أنَّ أسبابَ هذه الفتنة تكون مشتركةً، فيرد على القلوب من الوارداتِ ما يمنع القلوبَ من معرفةِ الحقّ وقصدِه\" انتهى[18].
وحينئذٍ, فلا مفرَّ من ذلك إلاّ بالعلم وعدَم الإقدام على ما يمسّ قضايا الأمّة إلاّ بالاجتهادات الاجتماعية لا المعارف الفردية.
عباد الله، خير ما نختم به حديثَنا صلاةٌ وسلامٌ على نبينا محمد.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين...
----------------------------------------
[1] منهاج السنة النبوية (4/527-528).
[2] إعلام الموقعين (3/3).
[3] أخرجه مسلم في الصيد (1955) عن شداد بن أوس - رضي الله عنه -.
[4] أخرجه الشافعي في الأم (4/252)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (9/42).
[5] أخرجه ابن سعد في الطبقات (7/16)، والحاكم في المستدرك (5271) عن محمد بن سيرين قال: كتب عمر بن الخطاب وذكره.
[6] إعلام الموقعين (3/145).
[7] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1848) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[8] إعلام الموقعين (3/159).
[9] إعلام الموقعين (3/4).
[10] الموافقات (4/189).
[11] أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه.
[12] أخرجه البخاري في الاعتصام (7323).
[13] أخرجه البخاري في العلم (100)، ومسلم في العلم (2673) عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -.
[14] أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7/463).
[15] صحيح مسلم: كتاب الإمارة (1848) عن أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[16] أخرجه أحمد (5/223، 224، 436)، والنسائي في الكبرى (5/225)، وابن ماجه في الديات (2688)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (2345)، والبزار (2306)، والطحاوي في شرح المشكل (1/77)، وقال البوصيري في الزوائد (3/136): \"إسناده صحيح، رجاله ثقات\"، وهو مخرج في السلسلة الصحيحة (440).
[17] أخرجه البخاري في العلم (71)، ومسلم في الزكاة (1037) عن معاوية - رضي الله عنه -.
[18] منهاج السنة (4/538).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد