استعلاء في الطريق العالي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أول ارتفاع يرتفعه المؤمن بهمته العالية هو الاستعلاء على الجاهلية التي من حوله.

أن الهمة بمجرد أن تصل أولى درجات العلو، تنقل صاحبها نقلة بعيدة، وتدعه في أول صفحة من ظلاله: (كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال).

إنهم أقزام من حوله، يعيشون (في المستنقع الآسن، وفي الدرك الهابط، وفي الظلام البهيم)

أما هو فسائر في … الطريق العالي. علو لم يبتدعه، ولم يتكلفه، ولم يحتمل للاتصاف به، وإنما مما انعم به رب العالمين. انه هو ـ سبحانه ـ سمى طريقه، وصراطه ونهجه بـ …. الطريق العالي.

وإنها لتسمية ثمينة، يكشفها لنا الإمام ابن تيمية - رحمه الله - من قراءة أخرى لقول الله - تعالى -:\"هذا صراط على مستقيم\"أشار إليها ابن عطية في تفسيره، فنقل لنا عنه قال:\"إن جماعة من السلف قرأوا\"على مستقيم\"من العلو والرفعة) ثم قال ابن تيمية: (والإشارة بهذا على هذه القراءة، إلى الإخلاص ـ لما استثنى إبليس من اخلص ـ، قال الله له: هذا الإخلاص طريق رفيع مستقيم، لا تنال أنت بإغوائك أهله) أي قال إبليس:\"فبعزتك لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين\".

فهو طريق عال مستقيم، كما اسماه الله - تعالى - والطرق غير واطئة..

والسالك في هذا الطريق العالي، يستعلي منذ أول قدم يضعها في بدايته، ويحلق في الأعالي، تبعا لسلوكه هذا، وبمجرد سلوكه، من غير رفرفة جناح، أو جهد آخر، أو ما يظنه السطحي تطاولا وتكبرا.

ومن هنا كان نظره ذاك طبيعيا، إذ لما كان هو في العلو وطريق السماء، فهو إذن لا يبصر من الأسفل وطرق الأرض إلا صغارا، وتلك ظاهرة فيزيائية، ومعادلة رياضية، كما أنها حقيقة إيمانية.

ومن هنا كان المكان الطبيعي المعتاد للمسلم هو مكان القيادة والتصدر، ولا التبعية والانقياد، إذ الإسلام الذي يحمله هو (بطبيعته عقيدة استعلاء، ومنهج وقياده) ولذلك أمر الله المسلمين إلا يهنوا، وان ينتهوا عن دعوة الكفر إلى المسالمة، والعيش المتصالح، فقال سبحانه\"ولا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم\".

(وأنتم الأعلون اعتقادا وتصورا للحياة. وأنتم الأعلون ارتباطا وصلة بالعلي الأعلى وأنتم الأعلون منهجا وهدفا وغاية.. وانتم الأعلون شعورا وخلقا وسلوكا.. ثم أنتم الأعلون قوة ومكانا ونصرة، فمعكم القوة الكبرى\"والله معكم\"فلستم وحدكم … إنكم في صحبة العلي الجبار القادر القهار، وهو لكم نصير حاضر معكم يدافع عنكم.وابتغاء رسوخ هذا الشعور في نفوس المؤمنين، كرره الله - تعالى - فقال:\"ولا تهنوا، ولا تحزنوا، وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين\".

أنه الاستعلاء على قوى الأرض الحائدة عن منهج الإيمان. وعلى قيم الأرض التي لم تنثبق من أصل الإيمان، و على تقاليد التي لم يصغها الإيمان، وعلى قوانين الأرض التي لم يشرعها الإيمان وعلى أوضاع الأرض التي لم ينشئها الإيمان.

 

الاستعلاء، مع ضعف القوة، وقلة العدد، وفقر المال، كالاستعلاء مع القوة، والكثرة والغنى على السواء.

الاستعلاء الذي لا يتهاوى أمام قوة باغية، ولا عرف اجتماعي، ولا تشريع باطل، ولا وضع مقبول عند الناس ولا سند له من الإيمان.

وليست حالة التماسك والثبات في الجهاد إلا حالة واحدة من حالات الاستعلاء التي يشملها هذا التوجيه الإلهي العظيم.

 

والاستعلاء بالإيمان ليس مجرد عزمة مفردة، ولا نخوة دافعة، ولا حماسة فائرة، إنما هو الاستعلاء القائم على الحق الثابت المركوز في طبيعة الوجود. الحق الباقي وراء منطق القوة، وتصور البيئة، وإصلاح المجتمع، وتعارف الناس، لأنه موصول بالله الحي الذي لا يموت.

إن للمجتمع منطقه السائد وعرفه العام وضغطه الساحق ووزنه الثقيل على من ليس يحتمي منه بركن ركين، وعلى من يواجهه بلا سند متين.

وللتصورات السائدة والأفكار الشائعة إيحاؤها الذي يصعب التخلص منه بغير الاستقرار على حقيقة تصغر في ظلها تلك التصورات والأفكار، والاستمداد من مصدر أعلى من مصادرها واكبر وأقوى.

إن المؤمن هو الأعلى … الأعلى سندا ومصدرا، فما تكون الأرض كلها؟ وما يكون الناس؟ وما تكون القيم السائدة في الأرض، والاعتبارات الشائعة عند الناس؟ وهو من الله يتلقى، والى الله يرجع، وعلى منهجه يسير؟

وهو الأعلى إدراكا وتصورا لحقيقة الوجود، فالإيمان بالله الواحد، في هذه الصورة التي جاء بها الإسلام، هو أكمل صورة للمعرفة بالحقيقة الكبرى، وحين تقاس هذه الصورة إلى ذلك الركام من التصورات والعقائد والمذاهب، سواء مت جاءت به الفلسفات الكبرى قديما وحديثا وما انتهت إليه العقائد الوثنية والكتابية المحرفة، وما اعتسفته المذاهب المادية الكالحة … حين تقاس هذه الصورة المشرقة الواضحة الجميلة المتناسقة، إلى ذاك الركام وهذه التعسفات، تتجلى عظمة العقيدة الإسلامية كما لم تتجل قط. وما من شك أن الذين يعرفون هذه المعرفة هم الأعلون على كل من هناك.

وهو الأعلى تصورا للقيم والموازين التي توزن بها الحياة والأحداث والأشياء والأشخاص. فالعقيدة المنبثقة من المعرفة بالله، بصفاته كما جاء بها الإسلام، ومن المعرفة بحقائق القيم في الوجود الكبير لا في ميدان الأرض الصغيرة. هذه العقيدة من شأنها أن تمنح المؤمن تصورا للقيم أعلى واضبط من تلك الموازين المختلفة في أيدي البشر، الذين لا يدركون إلا ما تحت أقدامهم ولا يثبتون على ميزان واحد في الجبل الواحد بل في الأمة الواحدة، بل في النفس الواحدة من حين إلى حين.

وهو الأعلى ضميرا وشعورا، وخلقا وسلوكا، فان عقيدته في الله ذي الأسماء الحسنى والصفات المثلى، هي بذاتها موحية بالرفعة والنظافة والطهارة والعفة والتقوى، والعمل الصالح والخلافة الراشدة فضلا عن إيحاء العقيدة عن الجزاء في الآخرة، الجزاء الذي تهون أمامه متاعب الدنيا وآلامها جمعيا، ويطمئن إليه ضمير المؤمن، ولو خرج من الحياة الدنيا بغير نصيب.

وهو الأعلى شريعة ونظاما. وحين يراجع المؤمن ك لما عرفته البشرية قديما وحديثا ويقيسه إلى شريعته ونظامه، فسيراه كله أشبه بمحاولات الأطفال وخبط العميان، إلى جانب الشريعة الناضجة والنظام الكامل. وسينظر إلى البشرية الضالة من عل في عطف وإشفاق على بؤسها وشقوتها، ولا يجد في نفسه إلا الاستعلاء على الشقوة والضلال.

عزة …. هي الجناح:

ولكن …لن يتمكن المسلم من أن يذوق هذا الاستعلاء على من في الأرض من القوى الباطلة، والتصورات الباطلة، والقوانين الباطلة، حتى يعلو هو عن الأرض نفسها وقيودها، وشهواتها، وندائها، لذائذها الموهومة.

أنه علو عن الأرض، اسمه في قاموسنا: العزة الإيمانية.

(والعزة الصحيحة حقيقة تستقر في القلب قبل أن يكون لها في مظهر دنيا الناس حقيقة تستقر في القلب فيستعلي بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله..

حقيقة يستعلي بها على نفسه أول ما يستعلي.. يستعلي بها على شهواته المذلة، ورغائبه القاهرة، ومخاوفه ومطامعه من الناس ومن غير الناس ومتى استعلى على هذه فان يملك احد وسيلة لإذلاله وإخضاعه، فإنما تذل الناس شهواتهم ورغباتهم، ومخاوفهم ومطامهم ومن استعلي عليها فقد استعلى على كل وضع وعلى كل شيء وعلى كل إنسان، وهذه هي العزة الحقيقية ذات القوة والاستعلاء والسلطان!

إن العزة ليست عنادا جامحا يستكبر على الحق ويتشامخ بالباطل. وليست طغيانا فاجرا يضرب في عتو وتجبر وإصرار وليست اندفاعا باغيا يخضع للنزوة ويذل الشهوة.وليست قوة عمياء تبطش بلا حق ولا عدل ولا إصلاح … كلا! إنما العزة استعلاء على شهوة النفس، واستعلاء على القيد والذل، واستعلاء على الخضوع الخانع لغير الله، ثم هي خضوع لله وخشوع، وخشية لله وتقوى، ومراقبة لله في السراء والضراء , ومن هذا الخضوع لله ترتفع الجباه.. ومن هذه الخشية لله تصمد ما يأباه. ومن هذه المراقبة لله لا تعني إلا برضاه.

وإذا ذاق المسلم حقا عرف حين يذوقها أنها أعظم لذة تتضافر دونها كل لذائذ الطعام والنساء والوظائف الكبيرة، وعرف صدق عزم حين يقول: خير ما لذة الكريم الإباء.

لذلك كان دأب إقبال أن يستنهض من التصق بالأرض، أو من استخفى فولج كهوف الأرض، خوفا أو تكاسلا وتقاعدا، فيدعوه إلى الخروج من جاذبيتها، وخداع أوهامها، والتحليق عاليا عاليا …

 

أنت يا من يطر منك جناح *** دودة في ظلمة الترب تراح

مستكين تشتكي جور الزمان *** قد أصيب الذل من هجر القران

قد هبطت الأرض طهرا كالندى *** بالكتاب الحي أمسكت يدا

فإلام العيش في الترب؟ ارحلا *** اصعدن فوق السماوات العلي

إن المسلم الحق لا يلتصق بالأرض يوما، ولا يكون في المؤخرة يوماº لأنه يشعر بما هو فيه من (تبعه الوصاية على هذه البشرية في مشارق الأرض ومغاربة، وتبعة القيادة في هذه الأرض للقطعان الضالة، وهدايتها إلى الدين القيم، والطريق السوي.

لا رخاوة، ولا حل وسط، بل …. إرادة تتغير …

ومن هذا الشعور بهذه المهمة القيادية صرت تجد إرادة التغيير صفة لازمة وديدنا مستمرا للمستعلين، المتسامين في فلك الاستعلاء …. لا يتنازلون، ولا يهبطون درجة، ولا يتلونون، ولا يرضون بوسط ومناصفة، ولا يكتفون بدعاء، ولا بقصائد الجاهلية، وتغيير مجرى التاريخ الذي يريده الطواغيت.

ويومها، ظن مسليمة الكذاب أن الأمر شهوة تسلط، ونزوات ورغبة استعباد للناس، فجاء يعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - مناصفة، ثمنها الكف والتهادن، ولم يكن المسكين يدري أي علو في التوحيد يستحيل معه التنازل عن شيء من متمماته. وفوجئ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يده قطعة جريدة سعف نخل يقول له:

(لو سألتني هذه القطعة ما أعطيتكها. ولن أتعدى أمر الله فيك. ولئن أدبرت ليقونك الله).

والله، ما يكون جواب عصبة الإيمان على أهواء الأرض وأحزاب الباطل حين تعرض اليوم عروض الحلول الوسطى الا جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - لمسيلمة وإلا أن تعلنها صراحة: لو سالتمونا أي تنازل مهما قل فلن ننزل لكم، ولن نتعدى أمر الله فيكم.. فأمركم بالمعروف والحسنى وننهاكم عن المنكر الذي انتم فيه، فإن توليتم فليعقرنكم الله.

(ويستحيل تلفيق منهج نصفه من هذا ونصفه من هناك. وكما أن الله لا يغفر أن يشرك به فكذلك هو لا يقبل منهجا مع منهجه. هذه كتلك سواء بسواء، لان هذه هي تلك على وجه اليقين.

هذه هي الحقيقة ينبغي أن تكون من القوة والوضوح في نفوسنا ونحن نقدم الإسلام للناس بحيث لا نتلجلج في الإدلاء بها ولا نتركهم حتى، يستيقنوا أن الإسلام حين يفيئون إليه سيبدل حياتهم تبديلا.. سيبدل تصوراتهم عن الحياة كلها، كما سيبدل أوضاعهم كذلك، ويجعلهم اقرب إلى المستوى الكريم اللائق بحياة الإنسان. ولن يبقى لهم شيء من أوضاع الجاهلية الهابطة التي هم فيها، اللهم إلا الجزئيات التي يتصادف أن يكون لها من جزيئات النظام الإسلامي شبيه. وحتى هذه لن تكون هي بعينها، لأنها ستكون مشدودة إلى أصل كبير يختلف اختلافا بينا عن الأصل الذين هم مشددون إليه الآن، أصل الجاهلية النكد الخبيث! وهو في الوقت ذاته لن يسلبهم شيئاً من المعرفة العلمية البحتة، بل سيدفعها قوية إلى الإمام.

يجب ألا ندع الناس حتى يدركوا أن الإسلام ليس هو أي مذهب من المذاهب الاجتماعية الوضعية، كما أنه ليس أي نظام من أنظمة الحكم الوضعية، بشتى أسمائها وشياتها وراياتها جمعيا، وإنما هو الإسلام فقط! الإسلام بشخصيته المستقلة. الإسلام الذي يحقق للبشرية خيرا مما تحلم به كله من وراء هذه الأوضاع. الإسلام الرفيع النظيف المتناسق الجميل الصادر مباشرة من الله العلي الكبير.)

والمسلم لا يقنع حتى يرى قومه مثالا لهذه النظافة والتناسق والجمال. ولا يكيفه النور الضعيف، ولا البصيص، وإنما يبغى الشمس الكاملة، فيأخذ يترنم:

 

نحن لا نرضى بنار الغسق *** نحن لا نرضى بنور الشفق

نحن لا نرضى بنجم الصبح لاح *** لا ولا نرضى تباشير الصباح

نحن لا نرضى نجوما لامعة *** إنما نبغي شموسا طالعة

لهذا كان من علامة صدق المسلم أن لا يرضى بتسلط الجاهلية، ومضت أعراف الدعاة بذلك، وقالوا:\"أنه من كان يؤمن بالله ورسوله، لا يمكنه أن يرضى بتسلط النظام الباطل أو يعقد عن بذل نفسه وماله في سبيل إقامة نظام الحق. فكل من يبدو في أعماله شيء من الضعف والاستكانة في هذا الباب، فأعلم أنه مدخول في إيمانه، مرتاب في أمره\".

ووقف شاعرهم يعلن هذه المادة من دستور العمل:

لسنا نريد مناهجا وضعية *** قرآنا السامي اعز وارفع

سنحطم الأغلال عن أعناقنا *** ونصد تيار الفساد ونمنع

ثم يعود فيؤكد في وقفة أخرى:

أنا مسلم لا أرتضيها عيشة *** نكراء بين مشرق ومغرب

أنا مسلم لا أدعيها فكرة *** أوحى إلي بها دماغ الأجنبي

أنا مسلم آمنت أن محمدا *** قد جاء بالشرع الحنيف الأصوب

ويعود فقيه الدعوة الأستاذ المودوي، يشرح مرة أخرى لمن عساه في حاجة إلى مزيد بيان، فننطلق من لسانه الكريم الكلمات المجلجلة: (أن هذه الشريعة الإلهية لم تنزل للأقزام الخانعين، ولا لعبدة الأهواء وموالي الدنيا، ولا لأمثال الريشة الطائرة في مهب الريح أو أمثال الغثاء الجاري مع تيار الماء، ولا الحربائيين الذين يتلونون بكل لون من ألوان البيئة، وإنما نزلت لأولئك الليوث الأبطال الذين يجدون أنفسهم أقوياء على تغيير مهب الريح، ومقاومة التيار وتحويل مجراه إلى الجهة الصحيحة، والذين يحبون صبغة الله فوق سواها، وقد عزموا على أن يصبغوا جميع العالم بهذه الصبغة.

 

إن الكائن الذي يقال له\"المسلم\"لم يخلق للانسياق مع التيار، وإنما الغاية من وراء خلقه في هذه الدنيا أن يوجه تيار الحياة في الوجهة التي هي وجهة الحق والصواب بحسب إيمانه وعقيدته، ولئن كان هذا التيار قد غير مجراه من هذه الوجهة الصحيحة، فكاذب في دعوى الإسلام من يرضى بها المجرى المتحول عن وجهة الصواب. أن الذي هو مسلم حقا وبكل معنى الكلمة لا جرم أن يزاحم سير هذا التيار المنحرف، ويبذل غاية وسعه في صرف مجراه، ولن يهمه هذا الجهد نيل الفوز أو حصول الخيبة، بل انه سيتحمل ما يناله فيه من الخسارة والضرر، ولن تنهزم روحه المكافحة حتى وان انكسرت أعضاؤه من جهد الصراع مع التيار، وتفككت أوصاله وألقته الأمواج على الشاطئ مهزولا مغشيا عليه.

(والحق: أن المفكر المعتد بفكره، المعتز بنفسه، لا يرى في الواقع حجة. فكم من واقع هو زور أو جور أو ضرر.

إن جهاد المصلحين في الأمم أكثره لإزالة الباطل والشر، أي إزالة الواقع المكروه واثبات النافع. ولعل اكبر ما يميز امة من امة، وإنسانا من آخر، هو الخضوع للواقع أو الاستكبار عليه.)

والمسلم ـ لأنه مسلم ـ لا يعرف إلا الاستكبار على الواقع المنحرف عن الاستقامة التي أراداها الله، ووظيفة الداعية (هي إقصاء الجاهلية من قيادة البشرية، وتولي هذه القيادة على منهجه الخاص، المستقل الملامح، الأصيل الخصائص … يريد بهذه القيادة الرشيدة الخير للبشرية، واليسر الخير الذي ينشأ من رد البشرية إلى خالقها، واليسر الذي ينشأ من التنسيق، ترتفع إلى المستوى الكريم الذي إراده الله لها، وتخلص من حكم الهوى. أو كما قال ربعي بن عامر حين سأله رستم قائد الفرس: ما الذي جاء بكم؟ فكان جوابه: الله ابعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

ولم يجيء الإسلام إذن ليربت على شهوات الناس الممثلة في تصوراتهم وأنظمتهم وأوضاعهم وعاداتهم وتقاليدهم، سواء منها ما عاصر مجيء الإسلام، أو في الغرب سواء، إنما جاء ليقلي هذا كله إلغاء، وينسخه نسخا، ويقيم الحياة البشرية على أسسه الخاصة).

فهو إقصاء بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

أي قلعه هذه النبتة الضارة، ورميها بعيدا. وذلك لا يكون بمجرد الدعاء، ولا الخطب والقصائد، وإنما بشيء آخر أكثر نفاذا وتأثيرا، سموه للحر الذي يفهم، فقالوا:

 

إسلامنا لا يستقيم عموده *** بدعاء شيخ في زاويا المسجد

إسلامنا لا يستقيم عموده *** بقصائد تتلى لمدح محمد

إسلامنا نور يضئ طريقنا *** إسلامنا نار على من يعتدي

وضمانة ذلك استمرار هذا الاستعلاء، ورفض التنازل، بداية، وخلال السير، ونهاية، فان عروض التنازل لن تنقطع، والدعاية للحل الوسط لن تسكت و(هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائما. محاولة إغرائهم لينحرفوا ـ ولو قليلا ـ عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة. ومن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته لأنه يرى الأمر هينا، فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أن يترك دعوته كلية، وإنما هم يطلبون إليه تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق، وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة، فيتصور أن خير الدعوة في كسب السلطان إليها ولو بالتنازل عن جانب منها.

ولكن الانحراف الطفيف في أول الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق. وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ولو يسير، وفي إغفال منها ولو ضئيل، لا يملك أن يقف عندما يسلم به أول مرة، لان استعداده للتسليم يتزايد كلما رجع خطوة إلى الوراء.

والمسألة مسألة إيمان بالدعوة كلها، فالذي ينزل جزء منها مهما صغر، والذي يسكت عن طرف منها مهما ضؤل، لا يمكن أن يكون مؤمنا بدعوته حق الإيمان. فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر، وليس فيها فاضل ومفضول، وليس فيها ضرورة ونافلة، وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه، وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد أحد أجزائه، كالمركب يفقد خواصه. ومن هنا كان من شرط الإيمان الذي لا يتم إلا به أن يغير صاحبه المنكر بقلبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من رأي منكم منكرا فليغيره بيده فان لم يستطيع فبلسانه، فان لم يستطيع فبقلبه وذلك اضعف الإيمان.) فيعتقد كراهيته وبطلانه، ليحجبه ذلك عن الرضى يوما ببعض وجوه المنكر وإشكاله المتعددة إذا تعرض للمساومة، وما يكون التنازل من شيء من الإسلام إلا ليحل محله في القلب شيء من أضداده من صور الباطل والمنكر، وهو وان لم يكن إزالة وتغيير ـ كما يقول الإمام النووي ـ إلا أنه مقدمة للتغيير وتهيؤ له وإعداد النفس لتغييره فعلا، لان الإنسان، عادة، لا يزيل شيئا يحبه، وإنما يزيل ويغير شيئا يكرهه، فكراهة الشيء مقدمة لإزالته وسابقة لتغييره، فجاز إطلاق اسم التغيير على كراهة القلب للمنكر بهذا الاعتبار. وكراهة القلب للمنكر تجعل القلب حيا عامرا بالإيمان ذا حساسية كافية ضد المنكرات والفساد، ولا يسع المسلم ترك هذه الكراهية، وإذا فقدها كان ذلك علامة مرض لقلبه، فليسارع إلى تطبيبه بعلاج الإيمان قبل فوات الأوان، وقد اعتبر الإمام ابن تيمية - رحمه الله  تعالى - عدم الإنكار القلبي ردة عن الإسلام، فقد قال - رحمه الله - في الفتاوى5/128: والمرتد من أشرك بالله - تعالى - أو كان مبغضا للرسول - صلى الله عليه وسلم - ولما جاء به، أو ترك إنكار منكر بقلبه.

 

لا خوف ولا ذل، بل رفض وبذل. وما دام الأمر كذلك، فإن الداعية يقف موقف التحدي الواضح، ويبدأ صراعه مع أئمة الجاهلية، ويعلي صوته بنداء الإيمان …

 

يا هذه الدنيا أصيخي واشهدي *** أنا بغير محمد لا نقتدي

لا رأسمال الغرب ينفعنا ولا *** ولا فوضى شيوعي سخيف أبلد

وسطا نعيش كما يريد إلهنا *** لا نستعير مبادئا، ولا نجتدي

 

لكنه يعلم إذ يقول ذلك أن الأمر أمر جد، وما هو بالهزل، وانه لابد له من تعب ونصب (فأمر العقيدة الرخاوة فيه ولا تميع، ولا يقبل أنصاف الحلول ولا الهزل ولا الرخاوة. انه عهد الله مع المؤمنين، وهو جد وحق، فلا سبيل فيه لغير الجد والحق … وله تكاليف شاقة. نعم! ولكن هذه طبيعته.أنه أمر عظيم. أعظم من كل ما في هذا الوجود فلابد أن تقبل عليه النفس إقبال الجاد القاصد العارف بتكاليفه، المجتمع الهم والعزيمة، المصمم على هذه التكاليف. ولابد أن يدرك صاحب هذا الأمر أنه إنما يودع حياة الدعة والرخاء والرخاوة، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ وقد نودي للتكليف ـ: ((مضى عهد النوم يا خديجة)) وكما قال له ربه: ((أنا سنلقى عليك قولا ثقيلا)).

 

ولابد من تجوال،وذهاب وإياب، ولفحة شمس …

قد ترحلنا من الفج العميق *** لا نبالي بقريب أو سحيق

قد غنينا عن مبيت ومقيل *** وعن الأمواه والظل والظليل

ثم بعد هذا لابد من تفويت فرص دنيوية.

وما أحلى هذا التفويت عند الداعية وما ألذه، ولكن من لا عقيدة لهم ولا نهج في الحياة ممن حوله: من أقاربه معارفه وجيرانه في السكن والسوق والوظيفة، يظنون ذلك حرماناً، ويدعونه ـ من باب الرفق به ـ لان يغمض عينه من أمور وأمور، لئلا يحرم نفسه من فرص شراء وترقيات يتمنونها له.

 

وقديما، تعرض الداعية الزاهد الثقة محمد بن كناسة الكوفي لمثل هذا الرفق الموهوم، فأرسلها أبياتا رائعة، كانت جوابا لصحبه، وأرادها لكل الدعاة من بعده، يرسلونها جوابا إن أعوزتهم البلاغة …

 

يقولون لو أغمصت لازددت رفعة *** فقلت لهم: إني إذن لحريص

يكلم وجهي لا أبا لأبيكم *** مطامع عنها للكرام محيص

 

ماشي دوين القوت والعرض وافر *** وبطني عن جدوي اللئام خميص

سألقي المنايا لم أخالط دنية *** ولم تسر بي في المخزيات قلوص

 

وإنما التغميص شرعة الأذلاء والضعفاء والجماهير الخائرة. والضعف ليس عذرا، بل هو لجريمة، فما يريد الله لأحد أن يكون عفيا، وهو يدعو الناس كلهم إلى حماه يعتزون به والعزة لله. وما يريد الله لأحد أن ينزل طائعا عن نصيبه في الحرية ـ التي في ميزته ومناط تكريمه ـ أو أن ينزل كارها. والقوة المادية ـ كائنة ما كانت ـ لا تملك أن تستعبد إنسانا يريد الحرية، ويستمسك بكرامته الآدمية. فقصارى ما تملكه تلك القوة أن تملك الجسد، تؤذيه وتعذبه وتكبله وتحبسه. أما الضمير. أما الروح. أما العقل. فلا يملك أحد حبسها ولا إستذلالها، إلا أن يسلمها للحبس والإذلال!

 

من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء تبعا للمستكبرين، في العقيدة، وفي التفكير، وفي السلوك، من ذا الذي يملك أن يجعل أولئك الضعفاء يدينون لغير الله، والله خالقهم ورازقهم وكافلهم دون سواه؟ لا احد. لا احد إلا أنفسهم الضعيفة. فهم ضعفاء لا لأنهم أقل قوة مادية من الطغاة. ولا لأنهم أقل جاها أو مالا أو منصبا أو مقاما … كلا، أن هذه كلها أعراض خارجية لا تعد بذاتها ضعفا يلحق صفة الضعف بالضعفاء. إنما هم ضعفاء لان الضعف في أرواحهم وفي قلوبهم وفي نخوتهم وفي اعتزازهم بأخص خصائص الإنسان!.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply