مصالح .. ولكن!


بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 من الأصول العامة المقررة أن الشريعة الإسلامية هي شريعة التيسير والاعتدال، ورفع الحرج ودفع الضرر عن المكلفين. وتواترت النصوص الشرعية لتقرير ذلك وبيانه، حتى جزم الإمام الشاطبي أنها بلغت مبلغ القطع.(1) قال الله - تعالى -: "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم".(الأعراف: الآية 157). ومن فضل الله ورحمته لهذه الأمة أن جعل جميع الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات مبنية على حفظ مصالح العباد في الدنيا والآخرة، قال الله - تعالى -: "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرجٍ, ولكن يريد ليُطهّركم وليتم نعمته عليكم". (المائدة: الآية 6). 

ولكن بسبب جهل بعض الناس بمقاصد التشريع الإسلامي، وُضعت بعض القواعد في غير مواضعها الصحيحة. ففي هذا العصر الذي انتشرت فيه العلمنة والتغريب، حكمت الأهواء والشهوات كثيراً من التصرفات، وأصبحت الضغوط الاجتماعية تُغيّر كثيراً من الآراء والمواقف..! وبعض الصالحين بسبب عجزه وضعفه وعدم قدرته على تحمل أعباء هذا الدين، يحاول أن يسوِّغ لنفسه الوقوع في الخطأ بترديده لبعض القواعد الشرعية وتحميلها ما لا تحتمل، مثل: (الضرورات تبيح المحظورات)..(دفع المفاسد مقدم على جلب المصالح)..(الشريعة كلها مصالح: إما درء مفاسد أو جلب مصالح).. ونحوها. 

وهذه القواعد الصحيحة بلا شك، لكنها بسوء الفهم أو غلبة الهوى جُرِّدت من حدودها وضوابطها، وأصبحت تدور مع نزوات النفوس حيث دارت، وأُخذت سُلّما يرتقي عليه الضعفاء للتفلت من بعض الأحكام والالتزامات الشرعية، وتُلبس الأهواء اللبوس الشرعية!! (واتباع الهوى ضد اتباع الشريعة، فالمتبع لهواه يشق عليه كل شيء، سواء كان في نفسه شاقاً أم لم يكن، لأنه يصده عن مراده، ويحول بينه وبين مقصوده).(2). 

فالمصلحة الدعوية مثلاً- عند بعضهم- تقضي جواز اختلاط الرجال بالنساء، ومصافحة المرأة الأجنبية، بل تقتضي الكذب والغيبة، وتأخير الصلاة عن أوقاتها.. إلى سلسلة طويلة من المصالح المتوهمة التي تبدأ ولا تنتهي في أبواب متفرقة من أبواب العلم والعمل. 

لهذا حرص الفقهاء والأصوليون على ضبط هذه القواعد بضوابط محكمة تقطع السبيل أمام العابثين والمتساهلين، ففي باب المصلحة المرسلة مثلاً (3) ذكر الفقهاء شروطاً لا بد من توافرها، وهي: 

أولاً: ألا تخالف المصلحة أصلاً من أصول الشرع، أو دليلاً من أدلة الأحكام.

ثانياً: أن تكون المصلحة حقيقية لا وهمية.

ثالثاً: أن تكون المصلحة متحققة لعموم الأمة لا لمصلحة فرد بعينه أو طائفة بعينها.(4)

ولتنزيل هذه الشروط على الوقائع والمسائل المتجددة يحتاج الأمر إلى دراسة فقهية عميقة، ومعرفة بمقاصد التشريع وأحكامه، وقدرة على النظر والاستنباط، مع تجرد وورع وتثبت، وألا يغلب التأثر بالبيئة الاجتماعية أو الفكرية على النظر العلمي، فالمقصود هو الوصول إلى مراد الشارع الحكيم.

 وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

 (1) قال الإمام الشاطبي: "الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع"، الموافقات، (1/340).

(2) الشاطبي في الموافقات، (1/332). وقد قسم الشاطبي المشقات التي هي مظان التخفيفات ضربين: أحدهما: أن تكون حقيقية، والثاني: أن تكون توهمية مجردة. ثم ذكر الشاطبي في آخر الفصل قاعدة متينة قال فيها: "تبين من هذا أن مشقة مخالفة الهوى لا رخصة فيها البتة. والمشقة الحقيقية فيها الرخصة بشرطها، وإذا لم يوجد شرطها فالأحرى بمن يريد براءة ذمته وخلاص نفسه، الرجوع إلى أصل العزيمة. إلا أن هذه الأحروية تارة تكون من باب الندب، وتارة تكون من باب الواجب".(1/337).

(3) ذكر الأصوليون أن المصالح ثلاثة أنواع:

النوع الأول: مصالح معتبرة، وهي التي نصّ الشارع على إثباتها والأخذ بها، مثل مصلحة التيمم.

النوع الثاني: مصالح ملغاة، وهي التي نصّ الشارع على إهدارها، مثل مصلحة المرابي.

النوع الثالث: مصالح مرسلة، وهي التي لم ينصّ الشارع على اعتبارها أو إهدارها، مثل مصلحة جمع القرآن.

(4) أنظر: أصول الفقه، لعبد الوهاب خلاّف، (ص 95)، وأصول الفقه الإسلامي، لبدران أبو العينين، (ص 214).

 المراجع أحمد بن عبد الرحمن الصويان، في البناء الدعوي، ص 77-79 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply