بسم الله الرحمن الرحيم
من بواعث الإيجابية وركائزها بعد الرسالة والأمانة:
2- المسئولية والمحاسبة: يمكن أن نعرف المسئولية بأنها\" تحمّل المسلم التكليف الشرعي بشروطه وحدوده، وتحمّل تبعة تصرفه إزاء التكليف في الدنيا والآخرة\"، والمسئولية يتسع مفهومها لتشمل التبعة والمحاسبة والجزاء، فالإنسان يتحمل تبعة أفعاله وأقواله، ويحاسب عليها ثم يجازى عليهاº فإن أحسن فله المثوبة، وإن أساء فعليه العقوبة، وتقرير المسئولية باعث عظيم على أداء متطلباتها والقيام بأعبائها، وإن المحاسبة على المسئولية مزيد من القوة في القيام بالمهمة، وفيها شعور بمغبة التفريط، وتهيب من عاقبة التقصير.
إن الإنسان الذي لا يتحمل المسئولية ولا يستشعرها، يكون إنساناً خاوياً لا يحقق إنجازاً ولا يبلغ غاية، وإذا وجدت المسئولية ولم يكن معها متابعة، ولا بعدها محاسبةº فإن المرتقب ظهور دواعي الكسل والتراخي، وعوامل التهاون والتقصير، بل صور الفساد والإفساد، وكما قيل\" من أمن العقوبة أساء الأدب \".
والإسلام يجعل في أعناق أتباعه مسئولية عظيمة، ومنهجه يصورها تصويراً يغرس أهميتها في الفكر، ويعمق عظمتها في النفس، تأمل قول الحق - جل وعلا-:{ كل نفس بما كسبت رهينة} \"والمعنى كل نفس رهن كسبها عند الله غير مفكوك \"[ الكشاف4/161] فهي \" محبوسة به عند الله تعالى \" [تفسير القاسمي 16/74] \" وإنما يكون الرهن لتحقيق المطالبة بحق يخشى أن يتفلت منه المحقوق به، فالرهن مشعر بالأخذ بالشدة \"[التحرير والتنوير 29/324] فالمسلم مرهون أي موثق ومحبوس بمسئوليته التي يتعلق بها كسبهº فإن شاء أن يعتق نفسه ويفك رهنه فلا بد من أداء الواجب والقيام بالمسئولية، وإلا فإنه سيؤاخذ بمقابل تفريطه، هذا المعنى يتطابق مع الحديث الوارد عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم- حيث قال:( كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) [ رواه مسلم].
إن الداعية الذي يعي هذه المسئولية لا يتصور منه التراخي، خاصة وأن هذه المسئولية شمولية{ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} إنها لا تقتصر على شيء دون شيء، اقرأ معي الحديث الذائع المشهور( لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به) [رواه الطبراني 20/60]، ويح امرئ يعلم أنه مسئول ومحاسب ثم لا يكترث ولا يعبأ، ويظل مطمئناً دون عمل.
كيف يمكن هذا ومسئوليته دقيقة يشملها قول الحق - جل وعلا -:{ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} ويجليها قوله:{ مال لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}.
كيف ومسئوليته لا تقتصر على نفسه فحسب، بل تتعداها إلى كل من تولى أمره { يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة} وقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم-:( كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته).
بل إن المسئولية أشمل من ذلكº لأن الإسلام لا يرضى السلبية، ولا يقر الاتكالية، ولا يقبل في منهجه الانعزال ولا الأنانية ليس فيه \" أنا والطوفان من بعدي \" ولا يقر بمبدأ \" مالي وما للناس\" بل مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثابتة قائمة ليكون للفرد دوره تجاه المجتمع، وفي عنقه مسئوليته إزاء الإصلاح { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} وقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم-:( لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم فيدعو خياركم فلا يستجاب لهم) [الطبراني الأوسط 2/224].
فإذا كانت هذه هي المسئولية فلا شك أنها عظيمة، بل ويزيد عظمتها أن المحاسب عليها والمراقب لها هو الله - جل جلاله- { الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور} الذي { لا تخفى عليه خافية} الذي { يعلم السر وأخفى} ثم هي مسئولية لا تغني فيها شفاعة ولا تخفف منها وساطة { فما تنفعهم شفاعة الشافعين} إنها المسئولية التي يواجهها المرء وحده{ يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} وهذا أيضاً حديث النبي - صلى الله عليه وسلم- القائل:( ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة) [رواه البخاري 6/2729].
فهل بعد هذا يمكن الركون أو السكون، أو ترك المهمات والتخلي عن المبادرات؟ كلا إن استحضار المسئولية لا يترك فرصة لتوانٍ, ولا مجالاً لتسيب أو تسويف، إنما هو العمل الجاد والبذل المتواصل والهمة العالية والعزيمة الماضية.
3- الأجر والأثر: إن الداعية معلق القلب بالمثوبة، متطلع للأجر، يحب أن يبقى له أثر، وأن يمتد أجره بعد انقضاء عمره، وذلك كله لا يكون بالأمنيات ولا يتحقق بالشفاعات، وإنما ميدانه العمل{ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}، \" إن الإسلام منهج حياة واقعية، لا تكفي فيه المشاعر والنوايا ما لم تتحول إلى حركة واقعية، وللنية الطيبة مكانها، ولكنها هي بذاتها ليست مناط الحكم والجزاء، إنما هي تحسب مع الأمل، فتحدد قيمة العمل\"[الظلال 3/1709]، وهذا قول الحق ـ جل وعلا ـ:{إن هذا لهو الفوز العظيم، لمثل هذا فليعمل العاملون} فهل تريد الجنة بلا عمل؟ وهل تطمح في الفردوس دون كد وبذل وتضحية؟ إن هذا \" النعيم الذي لا يدركه فوت، ولا يخشى عليه من نفاد، ولا يعقبه موت، ولا يهدده عذاب، لمثل هذا فيعمل العاملون\"[الظلال5/2988]، إنه العمل الحثيث، وأما الخسران المبين { والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات… } ولله در الشنقيطي في أضواء بيانه [9/494] حين قال:\" فهذه السورة فيها دفع لكل فرد إلى الجد والعمل المربح، ودرجات الجنة رفيعة، ومنازلها عالية مهما بذل العبد من جهد، فإن أمامه مجال للكسب والربح نسأل الله التوفيق والفرح وقد قالوا: لا يخرج إنسان من الدنيا إلا حزيناً فإن كان مسيئاً فعلى إساءته وإن كان محسناً فعلى تقصيره\"، ومن ترك العمل أو قصر فيه فإنه إلى الوراء يتراجع\" فالعبد سائر لا واقف، فإما إلى فوق، وإما إلى أسفل، إما إلى أمام، وإما إلى وراء، وليس في الطبيعة ولا في الشريعة وقوف البتة، ما هو إلا مراحل تطوى أسرع طي إلى الجنة أو إلى النار، فمسرع ومبطئ ومتقدم ومتأخر\" [ مدارج السالكين 1/267 ] فاختر لنفسك أيها الداعية، واعلم أن دين الله ليس فيه محاباة، وميزان الحق ليس فيه مجاملات، ولقد صدع بها نبي الهدى ـ عليه الصلاة والسلام ـ يوم قال:( من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)[رواه مسلم].
والإسلام يوم دعانا إلى العمل لم يدعنا دعوة رخوة ولا متوانية، بل دعانا دعوة ملؤها الحث والحض والتحفيز، أليس قد قال الحق ـ جل وعلا ـ:{ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} وقال أيضاً:{ وسابقوا إلى مغفرة من ربكم} وقال أيضاً: { فاستبقوا الخيرات} ووصف الحق ـ جل وعلا ـ أنبياءه في معرض المدح فقال:{ أولئك يسارعون في الخيرات} ونبينا- صلى الله عليه وسلم - يقول:( بادروا بالأعمال سبعاً )[رواه الترمذي] ويقول :( اغتنم خمساً قبل خمس ) إنه ليس هناك مجال لوقت ضائع، ولا لجدل فارغ، ولا لعوارض مشغلة أو أعراض مثقلة، وما أعجب من يخاطب بتلك الآيات ثم لا يكون في غمرة العمل، وغاية البذل مشمراً عن ساعد الجد، صاعداً درج المعالي.
إن من أدركوا هذه الحقيقة قاموا فلم يقعدوا، وتيقظوا فلم يناموا، وكان لهم بين كل عمل وعمل عمل، ومع كل درجة يبلغونها أخرى يرتقونها، فهل جاءك- أخي الداعية- خبر أبي الوفاء بن عقيل وقوله:\" إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة، أعلت فكري في حال راحتي وأنا استطرح فلا أنهض إلا وخطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرص على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين\"[المنتظم 9/214].
وهل مر بك ذكر إمام الحرمين أبي المعالي الجويني وقد مرّ في ترجمته أنه\" كان لا ينام إلا مغلوباً \" إنه طاقة متحركة بلا توقف حتى يبلغ الأمر مداه فيغلبه النوم فإذا أخذ منه حظاً يسيراً عاد إلى العمل مستأنفاً دون نظر إلى ليل أو نهار.
وهكذا ستعلم نبأ وقد كان له أكثر من اثني عشر درساً في اليوم والليلة، وإن أردت المزيد فهناك الكثير وحسبي وحسبك أن ندرك أن طلب الأجر مولد لطاقة جبارة تحقق الكثير مما قد يعده البعض بعبد المنال، أو مستحيل الوقوع.
وأعيد لك الكرّة مرة أخرى في شأن الأثر الذي تريد أن تخلفه وراءك، ومرة أخرى أقول: ليس هناك من أثر إلا بالعمل.. (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)، وأنّى لك ذلك، وأنت لم تعمل ليكون لك مال تتصدق به، وأنى يكون لك علم وأنت لم تطلبه، ولم تثن الركب في تحصيله، ولم تسهر الليالي في مراجعته، وكيف لك ولد صالح وأنت لم تعلمه ولم تبذل في تربيته.
والحق أنه\" إذا علم الإنسان – وإن بالغ في الجد– بأن الموت يقطعه عن العمل عَمِلَ في حياته ما يدوم بعد موته، فإن كان له شيء من الدنيا وقف وقفاً وغرس غرساً وأجرى نهراً، ويسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده فيكون له الأجر، أو أن يصنف كتاباً\" [صيد الخاطر ص20].
هذه ركائز ثلاثة أقتصر عليها وأكتفي بها، وإن كان للإيجابية روافد غيرها، فالله الله في العمل وإتقانه، والله الله في استمراره ودوامه، والله الله في حبه والتعلق به.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد