أي فهم للتعليم والتنمية المستدامة نريد ؟!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

التربية للتنمية المستدامة هي رؤية تربوية تسعى إلى إيجاد توازن بين الرخاء الإنساني والاقتصادي والتقاليد الثقافية، وتلبية الاحتياجات الإنسانية بما يتماشى مع الاستخدام المستدام للموارد الطبيعية ويتلاءم مع احترام الاحتياجات الدائمة للكرة الأرضية في الاستمرار والتجدد. وتلبية المطالب المشروعة لغالبية سكان الكوكب في البلدان والمجتمعات الفقيرة والنامية، بحياة أفضل على مستوى الأمن والحقوق، كما على مستوى الغذاء والكساء والصحة والسكن والتعليم لا يمكن تحقيقها إلا عن طريق انخراط هذه المجتمعات في عملية التنمية والإنتاج والخروج من حالة التهميش الاقتصادي والثقافي والمعرفي والسياسي.

 

غير أن تلبية حاجات التنمية والرفاه للدول الفقيرة والنامية لا تتم عن طريق تبني ومحاكاة نموذج التنمية للدول الصناعية المتقدمة الذي وإن أثبت فعاليته على مدى قرون في غياب أي اعتبار لكلفته الحقيقية الباهظة على مستوى الإنسان والبيئة، إلا أنه ينذر بتفاقم وتعاظم المخاطر التي تهدد بيئة الحياة الإنسانية على الأرض بعد أن تسببت بانقراض آلاف الأنواع من الحيوان والنبات.

ولذلك جاء إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1987 لمفهوم التنمية المستدامة، وانعقاد مؤتمر الأمم المتحدة حول البيئة والتنمية في ريودي جانيرو في العام ذاته، وإقرار خطة العمل المعروفة بجدول أعمال القرن الواحد والعشرين الذي أكد الفصل 36 منه على التربية كعنصر أساسي للتقدم باتجاه التنمية المستدامة، جاء ذلك كله نتيجة لتزايد الوعي بخطورة مفاعيل نموذج التنمية المتبع في البلدان الصناعية المتقدمة، وآثارها السلبية العميقة على توازن النظام البيئي بمجمله والناتجة عن الاستغلال والاستهلاك النهم للموارد الطبيعية والتصرف بها تحويلاً وحرقاً بمستويات ضخمة لا سابق لها في تاريخ البشرية، دون الالتفات إلى مضاعفات ذلك على ديمومة العناصر الأساسية لاستمرار الحياة على الأرض بعد تنضيب الموارد غير المتجددة وتلويث النظام البيئي وتخريب توازناته: لا تسلم من ذلك الغابات ولا المياه العذبة ولا المحيطات ولا الهواء ولا طبقة الأوزون التي تشكل درعاً واقياً من الإشعاعات.

إن فهماً أفضل لقضايا العالم الذي نتشارك العيش فيه قد حصل خلال العقود الثلاثة الماضية لناحيتين أساسيتين:

أولاهما: تتمثَّل في الترابط الشديد والمعقد، على المستوى العالمي لقضايا الفقر ونمو السكان وأنماط الاستهلاك النهمة وتدهور البيئة الطبيعية والمدينية والصحة ونشوء النزاعات والاضطرابات وانتهاك حقوق الأفراد والجماعات..مما لا يفسح في المجال لحلول محلية أو إقليمية أو جزئية لهذه المسائل التي تهدد الأمن والسلام ومستقبل الحياة.

والثانية: هي عدم إمكانية تعميم نموذج التنمية والاستهلاك الذي تطورت على أساسه المجتمعات الصناعية وحققت بواسطته تقدمها وهيمنتها الاقتصادية والثقافية والسياسية على بقية المجتمعات لكلفته الباهظة على مستقبل الكوكب والإنسان.

 

إن ثمة حاجة حقيقية لنماذج أخرى للتنمية أكثر احتراماً للبيئة وللحياة وأكثر وعياً للمسؤولية تجاه الأجيال القادمة التي لها الحق في العيش على كوكب معافى لم تنضب موارده ولم يخرب نظامه البيئي الحيوي.

 

كما أن هناك حاجة حقيقية لنماذج للتنمية تأخذ بالاعتبار وحدة المصير الإنساني ووحدة قضاياه المترابطة بحيث لا تتم التنمية في منطقة من العالم على حساب المناطق الأخرى وسكانه.

 

إن الوعي العام المتمثل بالمؤتمرات العالمية والأنشطة الدولية والإقليمية التي تقوم بها الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها والتي تشارك فيها أو تبادر بها المؤسسات والمنظمات غير الحكومية والمنظمات الأهلية المحلية قد عبَّر عن هذه الحاجات مراراً وتكراراً، حيث إن النماذج المقبولة للتنمية هي النماذج الرشيدة التي تتوفر لها ميزات الديمومة والاستمرار والقابلية للتعميم على كافة المجتمعات البشرية، بما يلبي احتياجاتها من ناحية ويحفظ سلامة كافة عناصر استمرار الحياة والنظام البيئي وحسن استخدام الموارد.

إن إحداث تنمية ذات طبيعة مستدامة أو التأسيس لها في البلدان الفقيرة والنامية في ظل الافتقار إلى الموارد المعرفية والمادية والبشرية وضعف بنى أنظمتها الاقتصادية والاجتماعية والتربوية يبقى أمراً في غاية الصعوبة وإن المطلوب إضافة إلى الموارد والبنى هو تغيير في الثقافة وفي المفاهيم وذلك في الدول المتقدمة كما في الدول النامية والأقل نماء.

وهذا يقتضي اكتساب معارف جديدة تدعم وعياً وقيماً وقناعات جديدة تحدث تغييرات في سلوكيات الأفراد والجماعات وكل هذه الأمور مرتبطة بالتعليم وتتم من خلاله بشكل أساسي وإن لم يكن حصرياً.

إن تنمية الإنسان كفرد وكجماعة ينبغي أن تكون مركز الثقل في اهتمامات التربية والتعليم وأحد أهم مقاصد الأنظمة التربوية الحديثة.

إن طرح مسألة دور التربية في التنمية المستدامة ومن أجل التنمية المستدامة التي تعيد محورة التنمية حول الإنسان وقضاياه الحيوية ما كان يمكن أن يلقى سوى القبول والاستحسان من التربويين والمسؤولين عن السياسات التربوية، إذ إن التربية والتعليم ستتمكن من إعادة تموضعها حول الرؤية الأصلية التي كانت في أساس تداول المعرفة وانتقالها من خلال أنظمة التعليم.

غير أن الإشكالية لا تكمن في الاقتناع بأهمية مفهوم الاستدامة في التنمية ولا في أهمية التربية والتعليم من أجل التنمية المستدامة، وإنما تكمن هذه الإشكالية في قدرة أنظمتنا التربوية على أن تتموضع بشكل فعلي وفعّال حول رؤية (التربية من أجل التنمية المستدامة)، والتي تتطلب القدرة على القيام بإنجازات ملموسة ليس فقط على مستوى تطوير مضامين المناهج التعليمية وتوجيهها بما يخدم أهداف وثقافة وقيم التنمية المستدامة، وإنما على مستوى الاستجابة لمتطلبات التنمية المستدامة ذاتها في مجال التربية والتعليم.

هذه المتطلبات التي شكل العديد منها أهدافاً إستراتيجية معتمدة عالمياً للسياسات التربوية في المراحل السابقة، وما زالت تشكل تحديات حقيقية تتناولها الأهداف التنموية للألفية الثالثة، كما يتناولها التعليم للجميع والتي تجد في التوجه الجديد (التربية والتعليم من أجل التنمية المستدامة) سنداً إضافياً يعزز الاهتمام بتحقيقها بعد أن بقيت الإنجازات دون المستوى المطلوب وخاصة في منطقتنا العربية.

إن المزيد من الجهد ما زال مطلوباً في مجالات عديدة مثل إلزامية التعليم الأساسي ومجانيته وتكافؤ فرص التعليم وجودته، وما يتصل بهذه المسائل من قضايا المساواة بين الجنسين والمناطق وأحياء المدن والأرياف، ونوعية التعليم المهني والتقني وكفاءة التعليم العالي وتلبية حاجات سوق العمل بالموارد البشرية المؤهلة، وتعزيز الاعتبار المادي والاجتماعي لوظائف التربية والتعليم بمختلف مستوياته.

إن مشاركة العالم العربي في الجهد الدولي للتربية في سبيل التنمية المستدامة ومن أجل التنمية المستدامة، من خلال الحكومات والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات الأهلية هي استجابة طبيعية للحاجات التنموية الملحة للعالم العربي على المستوى البشري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي.

كما أن تبني مفهوم التنمية المستدامة في مجال التربية بما يحتويه من شمولية واحترام الحقوق الإنسانية وتعزيز للوعي والحس بالمسؤولية على مستوى دولنا والعالم تجاه قضايا البيئة وتبني أنماط إنتاج واستهلاك متناسبة مع الاستخدام الرشيد للموارد الطبيعية، يوفر رؤية بعيدة لدور التربية وإطاراً مرجعياً تحتاج إليه خطط التطوير وسياسات الإصلاح والتحديث التربوي في بلداننا العربية وتبنى على أساسه شراكاتها وخطط تعاونها الإقليمية والدولية.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply