بسم الله الرحمن الرحيم
2- نحو فقه جديد في صياغة العقيدة:
لقد ورث المسلمون اليوم خصائص الضعف، في صياغة العقيدة.ورغم المحاولات الجادة، التي قام بها أعلام مصلحون لتجديد هذه الصياغة منذ ما كتب الإمام محمد عبده في رسالة التوحيد، فإن النهضة الحقيقية في هذا الصدد لم تتم بعد.وفيما يلي، نحاول تصور الأسس الفقهية، التي من شأنها أن تساعد على التقدم في إنضاج صياغة عقدية، تعمل على ترقية التدين في واقع التحديات الراهنة، استنارة في ذلك بفقه الصياغة عهد الازدهار، واستفادة من المحاولات الجادة، التي وقعت في هذا الصدد، (12) وسنمهد بتبين واقع المشاكل العقيدية الراهنة، ونبني على ذلك تصورات في فقه الصياغة موضوعاً ومنهجاً.
[أ] المشاكل العقدية الراهنة في الواقع الإسلامي:
المطلوب من الفكر العقدي أن يعالج المشاكل، التي تحدث في الأمة، متعلقة بالأسس العقدية العامة، وذلك بصياغة عقدية من شأنها أن تؤكد مرجعية العقيدة لكل سلوك، فتكون حلوله في إطارها وبترشيد منها. وتتوقف هذه الصياغة في نجاعتها على الوعي العميق بطبيعة المشاكل المراد علاجها، والجذور والخلفيات، التي انبعثت منها. والمتأمل في الوضع العقدي الراهن للمسلمين، يجد أن المشاكل التي تنتابه تجرح في معرض.. دها وتنوعها إلى مشكلتين رئيستين، تولدتا من عهد الانحطاط، الذي تجمد فيه الفكر الإسلامي، وانفصل عن مجريات الواقع، ومن التحدي الثقافي والحضاري الغربي، الذي واجه الأمة الإسلامية منذ قرنين من الزمن.
أما المشكلة الأولى، فهي الانفصال أو شبه الانفصال، الذي وقع بين المرجعية العقدية، وبين المظاهر التطبيقية، في مختلف وجوه الحياة. فالدين الإسلامي، هو عقيدة تتفرع عنها شريعة، تشمل كل أوجه التصرف الإنساني، بحيث يكون كل حكم من أحكام السلوك متفرعاً من أصل من أصول العقيدة، التي تستجمعها حقائق أساسية ثلاث: الألوهية، والنبوة، والبعث، بحيث يكون كل منشط من مناشط المسلم، وكل اجتهاد من اجتهاداته في شؤون الحياة، مستمدًا من أصول العقيدة، جارياً بحسب مقتضياتها.
ولكن مجريات الواقع الإسلامي، خلال عهد التراجع الحضاري، أفضت إلى تراخ في الصلة بين أصول العقيدة، وبين مناشط الحياة المختلفة، فلم تعد مظاهر السلوك المختلفة تندفع في تلقائية ووضوح، من مرجعيتها العقدية، وغدت حقائق العقيدة تشبه أن تكون تصديقات ذهنية، غايتها في ذاتها، وضعف الشعور بغايتها السلوكية، وقد أدى هذا الوضع إلى ما يشبه الانفصال، بين الاجتهادات الفرعية، وبين مرجعيتها العقدية. وخذ إليك مثلاً في ذلك، حقيقة التوحيد، التي كانت في عهود الازدهار الإسلامي، تطبع حياة المسلمين كلها، تشريعاً وآداباً وفنوناً وعمارةً، ثم أصبحت بعد ذلك منحسرة في أذهان المسلمين، إلى بُعدٍ, واحدٍ, تجريدي، هو وحدانية الذات الإلهية، وتقلص أثرها في مناحي الحياة العملية.
وقد استفحل هذا الوضع، لما انفتح المسلمون على الحضارة الغربية، بمنجزاتها الباهرة، وجعلوا يقتبسون منها، ويقلدون فيها خبط عشواء، على غير هدي من مرجعية عقدية، تُرشِّد ذلك الاقتباس، وتجعله في إطار من الدين. وقد ظهر ذلك فيما اقتبس المسلمون من آداب وفنون وعلوم إنسانية وطُرُز عمرانية، حتى إنه ليمكن القول: إن الواقع الإسلامي في كثير من جوانبه اليوم يجري على غير هدي عقدي، ويصدر على غير قاعدة إيديولوجية إسلامية واضحة.
وأما المشكلة الثانية فهي الغزو الإيديولوجي الغربي، الذي استهدف منذ زمن العقيدة الإسلامية أساساً، ومظاهرها السلوكية في مختلف مظاهر الحياة، وقد كان هذا الغزو الإيديولوجي، شبيهاً بالغزو الإيديولوجي، الذي حدث في القرن الثاني، من قبل أهل المذاهب والأديان، إلا أنه صادف من المسلمين ضعفاً حضاريًّا وفكريًّا، واستعدى عليهم بمنجزات العلم، وقوة الحضارة، فإذا به غزو شامل للمنظومة الإسلامية كلها، تُسخًّر فيه الفلسفة والعلم والإعلام جميعاً، بل والتكنولوجيا المادية أيضاً.
وقد أحدث هذا الغزو الإيديولوجي أثره البيّن، في حياة المسلمين، ليس على مستوى السلوك فحسب، ولكن على مستوى الاعتقاد أيضاً، وهو ما يبدو في المذهبية المادية، التي تسربت إلى الشباب الإسلامي، وفي العلمانية، التي أصبحت مذهبًا لكثير من النخب المثقفة في العالم الإسلامي، وهي التي تسيطر على الحظوظ التربية والاقتصادية والثقافية والسياسية للأمة، فانطبعت هذه المظاهر كلها بطابع الإيديولوجيا الغربية إن قليلاً أو كثيراً.
وبين هاتين المشكلتين، تضافر وتآزر، بحيث يهيئ ضعف الرابطة، بين الحياة العملية للمسلمين، وبين مرجعيتهم العقدية، للتأثير الإيديولوجي الغربي، كما أن هذا التأثير الإيديولوجي يوسع الشقة، بين تلك الحياة ومرجعيتها العقدية، سواء على المستوى الفكري الثقافي، أو على المستوى السلوكي العام، فإذا بواقع المسلمين يجري على غير إيديولوجية إسلامية بينة، بل إن تلك الإيديولوجية في صياغتها الفلسفية، التي تستطيع بها أن تواجه التحدي، وتهدي الحياة تكاد تكون غائبة.
أما البنية الفكرية الثقافية السائدة اليوم بين الناس، فقد تغيرت كثيراً بالنسبة لتلك التي كانت سائدة في عهود ماضية، حيث أحدثت الثورة العلمية الصناعية انقلاباً ثقافيًّا، يكاد يكون عالميًّاº ذلك أن العقلية الصورية، التي كانت سائدة قديماً، حلت محلها منذ بداية عهد النهضة، عقلية علمية، تخضع في الفهم والاقتناع للبرهان، المبني على معطيات العلوم الثابتة، رياضية وطبيعية. كما اكتسبت العقلية أيضًا صفة العملية، فأصبحت تنفتح في الفهم والقبول للخطاب الذي ينطلق من معالجة المشاكل العملية اليومية، أكثر من انفتاحها للخطاب الفلسفي المجرد. لقد أصبحت هذه الخصائص سائدة في العالم الغربي، وهي في طريق السيادة في العالم الإسلامي، الذي كانت له خصائص في عهد ازدهاره الفكري، في القرون الأولى، بتكوين من القرآن الكريم، الذي يجعل النظر في الكون، مدخلاً للاقتناع العقلي.
وإنما أبرزنا هذه الخصائص، في بنية العقلية الحديثة، إشارة إلى أن المنهج الذي استخدمه الفكر الكلامي بعد القرن الخامس أصبح منهجاً لا يلائم عقلية اليومº إذ هو منهج مبني على المنطق الصوري في أساسه، وهو منطق لا يهتم بالواقع، وإنما ترتبط الحقيقة فيه بتناسق المعطيات المجردة فيما بينها، وإن خالفت الواقع. ولا تزال آثار هذا المنهج باقية عند شق من المنتسبين إلى الفكر الإسلامي، إما بصفته الأصلية، أو بصفة جديدة، حافظ فيها على الطابع التجريدي العام، ويكاد يكون الخطاب الفكري الإسلامي اليوم محكوماً بهذه التجريدية في الخطاب.
[ب] الأسس الفقهية للفكر العقدي الحديث:
إن المشاكل الإيديولوجية للأمة الإسلامية، التي ألمحنا إليها آنفاً بصورة موجزة، تتطلب لمعالجتها فكراً عقديًا ذا خصائص واقعية، تتناسب معها، استهداء في ذلك بالفكر الإسلامي، في طور نضجه وحيويته، حينما كان يجابه الواقع العقدي الثقافي بما يناسبه من الأساليب. ويمكن أن تكون الخصائص المطلوبة لمعالجة واقع اليوم متركزة في محورين أساسين، يستقطب كل منهما جملة من الفروع المتعلقة بالفكر العقدي، وهما: واقعية الموضوع، وواقعية المنهج.
أولاً - واقعية الموضوع:
نعني بها أن يكون الفكر العقدي الحديث يطرح القضايا والموضوعات، التي تمثل مشاكل حقيقية، تعيشها الأمة على المستوى الإيديولوجي، وأن يكون ترتيبها في الطرح، من حيث الأهمية، بحسب أهميتها الواقعية، من حيث حجمها في الإشكال وإلحاحها فيه.
إن البنية المأثورة في الفكر الكلامي تشتمل على مقدمات، وثلاثة محاور أساسية، أما المقدمات فهي مسائل فلسفية وطبيعية، تستخدم في الاستدلال على المسائل العقدية. وأما المحاور الثلاثة فهي الألوهية والنبوة والبعث، وتحت كل واحد منها فروع تتعلق به. وفي بعض مدونات علم الكلام تقسم هذه المواضيع إلى محورين: إلهيات وسمعيات، إضافة إلى المقدمات الفلسفية والطبيعية.
وقد ألمحنا سابقاً، إلى أن هذه البنية لعلم الكلام، تشكلت موضوعاتها بحسب الواقع القديم، الذي يعود إلى ما قبل القرن الخامس، وأن ترتيبها أفرزته بعد ذلك عقلية مدرسية، لا عقلية واقعية، وهي لذلك لا تتلاءم بالتأكيد مع متطلبات الواقع الراهن، لا من حيث طبيعة المسائل، لا من حيث ترتيبها.
فمن حيث القضايا والمسائل ثمة ثوابت، لا يقوم الفكر العقدي بدونها، وهي أساسيات العقيدة الإسلامية، فيما تقوم عليه، من إيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر والقدر الإلهي خيره وشره، فهذه ستظل باقية ركناً ثابتاً في الفكر العقدي، على مر العصورº لأنها من جهة تمثل ركائز الإيديولوجية الإسلامية، التي تتفرع منها وجوه المنظومة الفكرية والسلوكية كلها، وهي من جهة ثانية عرضة للتحدي الإيديولوجي في كل زمان، مما يجعل الدفاع عنها أمراً سارياً بسريان ذلك التحدي.
إلا أن المنظومة المأثورة في الفكر العقدي، اشتملت على العديد من المسائل والقضايا، ذات الصلة بالعقيدة الإسلامية، أفرزتها ظروف واقعية، انقرضت بانقضاء زمنها، فلم يبق اليوم مبرر لبحثها في الفكر العقدي الحديث، إلا أن يكون ذلك باعتبارها جزء من تاريخ الفكر الإسلامي، فقيمة البحث فيها قيمة تاريخية، وليست قيمة واقعية، تسهم في حل المشاكل الراهنة، ومن الأمثلة التي يمكن أن نذكرها في هذا الصدد، قضية الذات الإلهية، في علاقتها بالصفات، وقضية خلق القرآن، وتأويل الصفات الخبرية، والمفاضلة بين الأنبياء وبين الملائكة، والمعاد هل هو جسماني أو روحاني، وأشباهها من المسائل، التي لا تمثل اليوم إشكالات عقدية ولا عملية في حياة المسلمين، ولكنك تجد بعض الطوائف الإسلامية، ما زالت تتشبث ببعضها، متخذة منها محوراً للجدل، ومنشطاً للفكر العقدي، يلهي عن المشاكل الحقيقية، التي ترهق الواقع الإسلامي.
وفي مقابل هذه القضايا، التي يقتضي الواقع الجديد أن تطرح من مجال الاهتمام الآني، فإن قضايا كثيرة لم تكن مطروحة من قبل، في الفكر الموروث، ويفرض الوضع الراهن أن تطرح مجدداً، ضمن دائرة المنظومة العقدية الإسلامية، فيتناولها الفكر العقدي بالبحث، وذلك يقتضي توسعة في مجال البحث في العقيدة، بالنسبة لما استقر عليه الفهم في علم الكلام في عهوده ا لأخيرة.
إن المفهوم الذي أصبح سائداً لموضوع العقيدة هو أن هذا الموضوع يشمل القضايا الصورية، التي جاء بها الإسلام، من حيث إن المسلم ملزم بأن يتحملها بالتصديق القلبي بها. أما ما يتحمله المسلم بالسلوك فإنه غير داخل في اهتمام الفكر العقدي، وقد خلت مدونات علم الكلام في صورتها الأخيرة منه بصفة كلية تقريباً. وهذا معناه أن القضايا العملية للمسلمين غير داخلة في مجال البحث العقدي، الذي تمحض للقضايا النظرية.
ولكن رغم هذا الفهم، الذي ساد في الفكر العقدي المأثور، فإننا نجد أيضاً في مفهوم بعض القدامى من المفكرين الإسلاميين من ذوي الصلة بهذا المجال نطاقاً لمواضع علم العقيدة أرحب بكثير من النطاق الضيق الذي ساد، بل إننا نجد منهم، من وسع بحوثه العملية في العقيدة، بما شمل القضايا ذات الخصوصية النظرية، وقضايا أخرى ذات خصوصية عملية، وأدرجها كلها في صعيد البحث العقدي، وأجرى عليها المقياس نفسه.
ومما يلفت الانتباه في هذا الصدد تعريفٌ لعلم الكلام، لم يورده أحد من المتكلمين، ولكن أورده أحد الفلاسفة الإسلاميين وهو أبو نصر الفارابي (ت 339هـ) في كتابه إحصاء العلوم يقول فيه: صناعة الكلام ملكة، يقتدر بها ا لإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة، التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفها بالأقاويل\". (13) وهو يقصد بالآراء مسائل العقيدة النظرية، ويقصد بالأفعال مسائل الشريعة العملية، فالفكر الكلامي يشمل عند الفارابي النصرة الاستدلالية، لكل من القضايا التي جاء بها الوحي، نظرية أو عملية، في حين اقتصر الفهم السائد على القضايا النظرية.
وعندما نعود إلى بواكير ما وصلنا من مدونات علم الكلام، ومقالات الفرق، فإننا نجد في بعضها مصداقاً لهذا التعميم في موضوع علم الكلام، كما حدده الفارابي، حيث نجد بحوثاً في العديد من المسائل الشرعية العملية، إلى جانب المسائل العقدية النظرية، لا من وجه فقهي فرعي، ولكن من وجه أصولي عقدي، وخذ إليك في ذلك مثلاً كتاب \"مقالات الإسلاميين \" للإمام الأشعري، في الجزء الذي رتبه على المقالات خاصة، فقد بحث فيه بنظر أصولي كما هائلاً من القضايا النظرية والعملية.
ومن هذه السابقة في توسيع موضوع الفكر العقدي يمكن أن نتخذ مستأنساً، لتوسيعه اليوم، حتى يغطي الحاجة الأيديولوجية للمسلمين. فيصبح من مهام الفكر العقدي الاستدلال على قضايا تشريعية عملية، كالانتصار لحرمة الربا، ببيان ما يؤدي إليه من الدمار الاقتصادي، ولحرمة الخمر والزنا، ببيان ما يجر عنهما من الدمار الصحي والاجتماعي، وكالانتصار لحلّية التعدد في الزواج ومقدرات الشريعة في الحدود، ببيان الفوائد، التي تعود بها على الفرد والمجتمع. وكذلك الأمر في القضايا التشريعية الأساسية كلها، من حيث نصرتها والاستدلال عليها، لا من حيث تفاصيلها الفقهية. ويستطيع الفكر العقدي الحديث، بهذا الاهتمام، أن يطاول فلسفة القانون الوضعي، التي تعتبر رابطة بين القوانين الوضعية في فصولها التطبيقية، وبين خلفياتها الإيديولوجية، وتبريراً لها على أساس تلك الخلفيات، فهو يشبه أن يكون فلسفة تشريعية، تؤصل القانون الشرعي في منطلقه العقدي.
ويتصل بهذا الاهتمام لنصرة التشريعات العملية، الاهتمام بأصول الاجتهاد، لصياغة الحلول الشرعية، لمشاكل الحياة المستجدة، فإن هذا الاجتهاد يحتاج إلى أن يؤصل على فقه بالواقع من جهة، وعلى أساس من الالتزام بقواعد العقيدة الإسلامية من جهة أخرى، تحرّياً في ذلك كله لما يحقق المصلحة للأمة، وهو ما يتوقف على نظر استدلالي، هدفه الجمع بين الأصول العقدية الإسلامية، وبين الحلول التشريعية الاجتهادية كلها المتعلقة بالحياة العملية، ضمانا في ذلك للالتزام بالمرجعية العليا، في كل تطور تنقلب فيه حياة المسلمين. وبهذا الاعتبار فإن مواضيع كانت تدرج سابقاً ضمن علم أصول الفقه، قد تصبح من مشمولات الفكر العقدي الحديث.
ومن المواضيع المهمة، التي يمكن أن تدرج في نطاق الفكر العقدي الحديث، موضوع الإنسان من منظور كلي عام وهو الموضوع الذي يتناول بالبحث مبدأ الإنسان، وقيمته الذاتية، ومنزلته في الكون، وغاية وجوده، ومصيره، فهذه المسائل لم تنل الاهتمام في الفكر الكلامي الموروث، إلا أن تكون جزئيات متفرقة في ثنايا موضوعات أخرى، (14) وهي اليوم تمثل مطلباً أساسياً في ا لتأصيل العقدي: وذلك بالنظر إلى ما يشكوه العالم الإسلامي من مظاهر عديدة لامتهان الإنسان، وإهانة لكرامته، وإهدار لقيمته، وبالنظر إلى ما تنقلب فيه حياة المسلمين، على غير وعي بالمهمة، التي من أجلها خُلق الإنسان، وعليه أن يسعى في تحقيقها، وذلك إما غفلة عن التعاليم الإسلامية، التي جاءت في ذلك، أو انسياقاً بفعل التأثير الفلسفي الغربي في هذا الخصوص.
ولا يخفى أن تأصيل إيديولوجية واضحة، في قضية الإنسان، على أسس عقدية إسلامية، أمر بالغ الأهمية، باعتبار أن التشريعات كلها، التي تصرف شؤون الحياة العملية، تتوقف في روحها، وفي صياغتها، على مقتضايات تلك الإيديولوجية، فإن لم تكن مؤصلة على أساس عقدي سليم جرت التشريعات على غير هدي من الدين. وهذا ما دعا إلى أن أصبح مبحث الإنسان في الفلسفة الحديثة مبحثاً مستقلاً وأساسيًا من بين مباحثها، وعلى أساسه تنبني المنظومات المذهبية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية كلها، وهو ما يؤكد ضرورة نشوء مبحث عقدي إسلامي في الإنسان، يطاول مبحث الإنسان في الفلسفة، وتتأسس عليه التشاريع العملية.
وإذا كانت القضايا العقدية النظرية: الألوهية والنبوة والبعث، لا تفقد أهميتها، في منظومة المواضيع العقدية الموسعة، فإن المواضيع التي ذكرناها آنفاً ينبغي أن تحتل موقعاً متميزاً في اهتمام الفكر العقدي الحديث، وذلك لأنها تقوم بالدور المهم، في حل المشكلة الإيديولوجية بالنسبة للمسلمين، كما تقوم بالدور المهم في الاقتناع بالإسلام، بالنسبة لغير المسلمين، والمتشككين من المسلمين.
أما دورها في حل المشكلة الإيديولوجية فهو يتمثل كما أشرنا إليه، في أنها تصل بين السلوك، وبين العقيدة، وتجعل الاجتهادات في تطوير حياة المسلمين مستندة إلى سند متين، من أصول الدين، فلا تتفرق بها السبل، وإنما تكون صادرة في شتى مظاهرها، عن وحدة إيديولوجية، متقومة بعقيدة التوحيد الشاملة، فتصطبغ الحياة كلها بصبغتها، ذلك ما تحققه فلسفة الشريعة، التي تنصر التشريعات الإسلامية عقديًّا، وتضمنه أصول الاجتهاد، على الوجه الذي بيناه، وتفضي إليه قضية الإنسان، في بعدها ا لقيمي والغائي والكوني: إذ يقع في إطارها تأصيل العديد من القضايا المطروحة على الساحة الإسلامية والإنسانية عامة، تأصيلاً عقديًّا، ومثل قضية مستقبل الإنسانية، والسلام عالمي، والتلوث البيئي وغيرها. وبصفة جملية، فإن هذه المواضيع الجديدة في الفكر العقدي، من شأنها أن توطد مرجعية عقدية ثابتة، تصدر عنها تصرفات المسلمين كلها، وتحل في ضوئها مشاكلهم كلها.
أما دورها في إقناع غير المسلمين بالإسلام، وتبديد شبه المترددين من المسلمين، فهو دور تقتضيه طبيعة البنية العقلية الحديثة، المتصفة بالعلمية والعملية، فهذه العقلية لا تقتنع باستدلالات نظرية على وجود الله، وصدق النبوة، وحقانية البعث، بقدر ما تقتنع باستدلالات علمية وعملية واقعية، على حرمة الربا والخمر والخنزير، وحقانية التشريع الأسري والجنائي الإسلامي، فإذا ما كانت الاستدلالات على هذه القضايا مبنية على معطيات العلم الكوني والإحصائي والاجتماعي، ومنطلقة من واقع المعاناة الإنسانية في غياب هذه التشريعات، فإن العقول تنفتح للقبول والاقتناع. وإذا ما حصل الاقتناع بها، باعتبارها تصلح حلولاً للمعاناة الواقعية، المتأتية من النظام الربوي، ومن التحلل الأسري، والإباحية الجنسية، فإن ذلك يكون المدخل الحقيقي للإيمان بمصدر هذه التشريعات، من نبوة وألوهية، وما يقتضيانه من عقيدة البعث، فيتحقق إذا بالاستدلال على القضايا العملية، ما يعجز الاستدلال التجريدي عن تحقيقه، من إيمان بأصول العقيدة. وإن المد الإسلامي الحديث في أوساط المثقفين من أهل الغرب تأتي في أكثره من هذا الباب، لا من باب الاستدلال النظري المجرد.
ثانياً- واقعية المنهج:
نعني بأنها تكون الطريقة، التي تقدم بها الموضوعات العقدية، المستصحبة والمستجدة، طريقة مبنية على المعطيات الواقعية لعقليات المخاطبين، ضماناً في ذلك ليكون الخطاب نافذاً إليهم، مقنعاً لهم، لا على أساس من أن الغاية هي الإقناع، شأن المنهج الخطابي، في المنطق اليوناني القديم، ولكن على أساس أن الغاية هي الإقناع بالحق.
وقد ذكرنا آنفاً، أن العقلية التي أصبحت سائدة، هي العقلية العلمية، أي العقلية التي تقتنع بالأسلوب الذي يستخدم معطيات العلم التجريبي، والذي يستخدم أيضاً معطيات الواقع الإنساني، فيما يزخر به من تجارب نفسية واجتماعية، وفيما تنجم فيه من مشاغل ومشكلات، وفيما يثمره التاريخ من العبر والعظات. فالواقع الكوني، والواقع الإنساني، هما المادة الصالحة، لأن تتخذ منهما مقدمات استدلالية مقنعة للعقلية الراهنة.
وليس هذا المنهج بدعاً في الثقافة الإسلامية، بل هو منهج قديم فيها، فالقرآن الكريم بُني خطابُه الإقتناعي على أصول الواقع الكوني والإنساني. وهو ما يبدو في استخدام الآيات الكونية مقدمات في الاستدلال على حقائق العقيدة، واستخدام العبر التاريخية، باعتبارها وقائع إنسانية، في الإقناع بما يبشر به من تعاليم، تتعلق بمصير الإنسان، وغاية وجوده، والانطلاق من المصلحة العملية للإنسان في حمله على التسليم بأسس العقيدة الإسلامية. (15)
ويمكن أن نعتبر مما يندرج في هذا المنهج من جانبه العلمي ما أدخل في علم الكلام من مسائل طبيعية، تمثل في الزمن القديم معطيات علمية، حيث استخدمت هذه المعطيات في الاستدلال على مسائل العقيدة، وذلك مثل مسائل الخلاء، والمكان، والجوهر الفرد، والحركة، والجوهر والعرض، وما شابهها، وإن يكن البحث فيها في ذلك الزمن يكتسي صبغة إيديولوجية، إلا أن أصل استخدامها كمسائل طبيعية يشير إلى منهج علمي في الاستدلال على العقيدة، يمكن استثماره في بعث المنهج الجديد.
ويقتضي هذا المنهج الواقعي في جانبه العلمي رصد نتائج العلم التجريبي، في دائرته الكونية، ودائرته الإنسانية، واستخلاص تلك الحقائق، التي تنطوي على دلالة واضحة على مسائل العقيدة، ثم بناء أدلة عقلية منها على تلك المسائل، ومن البين أن الحقائق العلمية بلغت من الثراء في العلم الحديث ما تكون به مصدراً لا ينفد للاستدلال على حقائق العقيدة، وهو مصدر متجدد بنمو الاكتشافات لقوانين العلوم، ففي كل قانون جديد دليل جديد، على تلك الحقائق، وتبقى صياغته المنطقية للاستدلال والاقتناع من مهمة الفكر العقدي. وهذا القول يصدق في حق المسائل العقدية النظرية، كما يصدق في حق المسائل التشريعية العملية، من جهة إثبات حقانيتها، كما بيناه آنفاً، وربما قيل: إن قوانين العلم ليست قطعية كلها، بل بعضها قابل للتعديل بين الحين والآخر، فكيف تتخذ منها أدلة على حقائق ثابتة؟ والجواب أن الاستدلال بما قد يثبت خطؤه لا ضير فيه، بحسب قاعدة أن بطلان الدليل لا يؤذن ببطلان المدلول، وإنما يُستأنف الاستدلال عليه، بما هو أقوى وأثبت، من حقائق العلم.
كما يقتضي هذا المنهج في جانبه الواقعي، رصد مجريات الأحداث في واقع الإنسان، من حيث ما يعانيه من الإحباط النفسي والاجتماعي والاقتصادي، وما هو سائر إليه من مصائر مظلمة، بسبب مناهج يتبعها في حياته، ناشزةً عن الهدي الديني، في توجيه السلوك البشري، وكذلك بيان الوجه المعاكس لها، متمثلاً في المغانم الروحية والمادية، التي يثمرها ذلك الهدي، وإبراز ذلك كله في استطلاعات ميدانية إحصائية، ثم صياغتها في استدلالات عقلية، على حقانية القانون الإسلامي، وبطلان مناقضاته من القوانين الوضعية، بما يبرز أن حلول المشاكل، التي يعاني منها إنسان اليوم، في المجال النفسي والاجتماعي والاقتصادي، تمر عبر التشريع الإسلامي في أسسه الأصلية الثابتة.
وليس من شأن هذا المنهج الواقعي، الاقتصار على هذه الاستدلالات ذات الطابع الجزئي، في استخدام حقائق العلم الكوني، ومجريات الأوضاع الإنسانية، بل من شأنه أيضاً، أن يؤسس فلسفة توقيعٍ, لحقائق الدين المجردة. على معنى أن يقوم الفكر العقدي الحديث بتأصيل قواعد، تساعد في صياغة الحقائق الدينية المجردة، صياغة تتقوم بمعطيات الواقع الجاري في حياة المسلمين، حتى يتسنى بها تنزيل الدين تنزيلاً زمنيًّا على هذا الواقع، فيما يشبه العمل الذي يقوم به المهندسون المعماريون، حينما يرسمون أمثلة عمرانية، يصوغون فيها من مطلوبات الناس ما يقوم على أساس من القانون الرياضي والفيزيائي في علم العمران، وما يستجيب في الآن نفسه لطبيعة الأرض، التي يُراد أن يقام عليها العمران.
إن حقائق الدين حقائق مجردة وثابتة، وظروف الحياة الواقعية منقلبة متغيرة، وهي في كل منقلباتها ينبغي أن تكون محققة لأغراض الدين المجردة، ولا يكون تحقيق هذه الأغراض، إلا بصياغة مشاريع عملية، من تلك الحقائق المجردة، تتوجه بها الحياة الواقعية وجهة دينية، فيحقق الدين أغراضه في توجيه الحياة. والأدب المنهجي الذي تتم به تلك الصياغة هو مهمة الفكر العقدي، وهي مهمة لا يمكن أن تتم بغير الإلمام الوافي بواقع الإنسان، في طبيعته وخفاياه، والعوامل المؤثرة فيه، ولذلك عددناها عنصرا من المنهجية الواقعية المطلوبة من هذا الفكر في الزمن الراهن.
على أن المنهجية الواقعية، التي نتحدث عنها، لا تنفي أن يبقى الفكر العقدي على صلة بالمنهجية الفلسفية العقلية المجردةº ذلك أن هذه المنهجية لئن تراجعت اليوم لفائدة المنهجية الواقعية، فإنها لم تنقطع، وهو ما يبرر استعمالها في المجالات والأحيان التي تكون فيها مفيدة، وتصل فيها إلى تحقيق الغرض. وكذلك الأمر بالنسبة للأسلوب العاطفي الروحي، فقد يفيد مع بعض الناس، وفي بعض الأحيان، فلا ينبغي إهماله فيما قد يفيد فيه، ولكن تبقى الصبغة العامة للمنهجية العقدية، منهجية علمية عملية، فإنها أنفذ في واقع اليوم إلى العقول، وأدعى إلى الاقتناع، وأصلح في تسديد الواقع الإنساني بالهدي الديني.
إن الفكر العقدي الحديث إذا ما اقتبس من التراث الكلامي السابق في عهد حيويته، ونضج تجربته، في التعامل الواقعي مع المشكلات، التي واجهت المسلمين إيديولوجيًّا، وتمثل تلك التجربة في أصولها الفلسفية دون جزئياتها الفرعية، فإنه يمكن أن يقوم اليوم بدور مهم في البناء الإيديولوجي للمسلمين، فيؤسس مرجعية مذهبية تقوم على العقيدة الإسلامية، تندرج تحت سلطانها مشاريع الحياة السلوكية كلها في مختلف المجالات، فتستعيد حياة المسلمين وحدتها وانسجامها، وقد تمزقت اليوم شرّ تمزق بين أنموذج الانحطاط، وأنموذج الحياة الغربية، فنبتت فيها المشاكل المعيقة عن تحقيق الخلافة، غاية الوجود الإنساني.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد