بسم الله الرحمن الرحيم
هناك من الناس من يميل إلى تشخيص العلم وإعطائه صفة الكينونة الحية المستوية الأبعاد والبنية في الخصائص والصفات مع القدرة على إصدار الأحكام والمواقف المطلقة تجاه أحداث وأشياء الحياة جميعاً. وبناءً على هذا الإضفاء لصفة الشخصية على العلم ونجد من الناس من يلوذون بهذا الشخص الوهمي حتى يصبوا في عداد المقٌربين منه ومن ثم يصبح كل ما يعتقدونه وتستطيبه أنفسهم مما أثبته العلم أما ما خالف ذلك أو خرج عن نطاقه كان في عداد الأوهام و الأباطيل. ويصبح الرجل العالم وفقاً لهذه النظرة، ذلك السيد المالك لشخص العلم والذي بمقدوره الإجابة عن أسئلة وأسرار الحياة جميعاً.
إن العلم هو جهد معرفي متصل بين البشر وعبر القرون من أجل البحث عن الحقيقة وكشف أسرار الحياة وتحسين شروط العيش فيها. والعلم عبارة عن أنظمة معرفية متنامية تتناول بالدراسة التحقيقية التعليلية ظواهر موضوع ما كالمادة أو السلوك وتقوم بإثبات أو نفي الفرضيات النظرية أو الفلسفية التي تحاول تفسير هذه الظواهر والتعرف على العلاقات الرابطة بينها من أجل أغراض الضبط والتنبؤ بها إن أمكن أو الاكتفاء بالتفسير. إن هذه العلوم تتصف بالنسبية والنمائية وتتوقف على تطور وسائل البحث والتحقق العلمي. ويعود الأساس النظري لهذه النظم في الأصل إلى الفلسفة (منبت وأم العلوم) والفكر الفلسفي يتفرع بدوره إلى ثلاث نظريات رئيسية: نظرية الجمال ونظرية الأخلاق ونظرية المعرفة. وقد نجمت عن النظرية الأخيرة علوم عُر فت بالمنطق والرياضة والطبيعة وما وراء الطبيعة والحياة و المجتمع و النفس أو الروح. وقد بقيت هذه العلوم حيناً من الدهر تحت مظلة الفكر الفلسفي إلى أن دعت الحاجة إلى التخصص واستخدام أدوات جديدة في البحث مع التجريب بعد أن كانت الملاحظات الحسية والاستدلال العقلي المحض الطرائق الوحيدة للمعرفة. ودعم هذا الاتجاه التطورات الاجتماعية والسياسية في أوروبا.
هذا وقد حققت العلوم الطبيعية تقدما على العلوم الاجتماعية والسلوكية نظراً لأسبقيتها في اعتماد المنهج العلمي الحديث ونظراً لطبيعة موضوعها الذي يتقبل بشكل أكبر عمليات المراقبة والضبط والقياس والتجريب. أما علم النفس فقد كان آخر علم إنساني يتحرر من ربقة المنهج الفلسفي لينضم إلى أقرانه في العلوم الاجتماعية والطبيعية، وكان لزاماً عليه لقاء ذلك التحرر أن يغير من طبيعة موضوعه، وهكذا نجده قد توقف عن الخوض في موضوع الروح ومدلولاتها ثم عن البحث في العقل وملكاته، ليعتمد في النهاية السلوك موضوعاً أساساً له يقبل الملاحظة ويخضع للقياس و التجريب. وكان من جراء هذا التطور وتلك الحداثة في علم النفس أن قامت له مدارس متعددة تبدو للناظر غير المتعمق (كما يقول الدكتور فاخر عاقل[1]) دليل فرقة وضعف، وهي في الواقع عنوان حيوية وشباب. وهناك من يرى (برنتانو) بوجود علوم نفسية متعددة، ولكن لا يوجد علم نفس واحد موحد، وطالما أنه لا يوجد علم نفس عام موحد لا يوجد نظام علمي تنضوي تحته كل معارف علم النفس فأي اكتشاف حقيقي جدي في أي مجال من مجالات علم النفس يؤدي حتماً إلى وضع نظرية خاصة لتفسير وفهم تلك الحقائق والعلاقات التي توصلوا إليها أي من الحتمي أن يؤدي إلى إنشاء علم خاص بهذه النظريات.
أما عن موقف المسلمين تجاه هذا العلم الصاعد فهو كالآتي:
انقسم المسلمون في موقفهم تجاه هذا العلم إلى ثلاث فرق رئيسية أولها فريق يتمثل بأصحاب التيار الديني التقليدي الذي يرى عدم الحاجة لهذا العلم الغريب و الاعتماد على الشرع بدلا منه، مع ضرورة اتقاء شروره نظراً لكونه قادماً من المجتمع الغربي و يمثل تعارضا تاما مع التعاليم الإسلامية.
أما الفريق الثاني فيتمثل بأبناء المسلمين من ذوي الاتجاه العلماني، مع بعض الملتزمين إسلاميا، و يرى هذا الفريق في علم النفس كمال العلم و صلاحية الأخذ بنظرياته و طرائقه و تطبيقاته كما هي بحالات الحياة المختلفة حتى يتقدم المسلمون و ينهضوا.
و أما الفريق الثالث فيتخذ موقفا وسطاً بين الفريقين السابقين و يؤمن بوجود تعارض بين الأسس النظرية لعلم النفس الحديث و بين تعاليم الدين الإسلامي، ولكنه أيضا يدرك فيه أهمية كثير من الإنجازات التي حققها علم النفس الحديث في المجالات المختلفة و إمكانية توظيفها و استخدامها بعد إعطاءها الوجهة الثقافية المناسبة.
و في مقابل هذه المواقف الثلاث المتباينة تجاه علم النفس الحديث أرى من الأهمية بمكان التأكيد على الأمور التالية:
أولا: ينبغي أن يأخذ علم النفس مكانة مرموقة عند المسلمين نظرا لتطابق موضوعه - ألا و هو السلوك - مع موضوع الإسلام. فالجهاز النفسي في العلم يقابل القلب في الدين و السلوك في العلم يقابل العمل في الدين. إلا أن الفرق بين علم النفس والإسلام هو أن علم النفس يدرس السلوك أو الجهاز النفسي كما هو في حالته الطبيعية و مع خصائصه و سماته ودوافعه بينما يتناول الإسلام السلوك والقلب كما ينبغي أن يكونا، سلوكا صالحا و قلبا سليما زكيا كما في قوله - تعالى - {يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم}[2] وكما جاء في قول رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم و لا إلى صوركم و لكن ينظر إلى قلوبكم و أعمالكم).[3] وعليه فإن المعارف الصحيحة الموثوقة التي تأتينا عن علم النفس تندرج في إطار فقه الواقع بينما تتخذ التعاليم الإسلامية فيما يتعلق بموضوع السلوك مكانة فقه الواجب في الواقع. وهكذا فإننا إذا أردنا إصلاح وتصعيد السلوك البشري فإننا نتناوله من حيث هو بناء على معطيات علم النفس ونسير به إلى حيث يريد الشارع كما جاء في كتابه الكريم و هدي رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم - ونظرا للمكانة العظيمة التي يتحلى بها كل من القلب و العمل في الإسلام نجد أن علماء المسلمين القدامى من أمثال إبن سينا و الغزالي وابن رشد و غيرهم كانت لهم مساهمات كبيرة في دراسة النفس و أعمال القلوب و مهلكاتها.
و تجدر الإشارة هنا إلى أن علماء المسلمين هم من البشر و جهودهم العلمية تدخل في مضمار الجهد البشري العام في بناء المعرفة و البحث عن الحقيقة كذلك فان تراثهم هو جزء لا يتجزأ من التراث الإنساني وليس من الضروري أن يحمل قيمة إسلامية أو معنى إسلامي إلا إذا كان ذلك قصدا من مقاصدهم و كذلك إذا صحت الرابطة بينه و بين النظرية الإسلامية المستوحاة من النصوص الشرعية.
إلا أن المشكلة تظهر حينما يحاول المسلمون اليوم المغالاة في إظهار أهمية أعمال و جهود السلف من علماء المسلمين ويقترون في نفس الوقت في إظهار تقديرهم لأعمال وجهود العلماء غير المسلمين و كان الصراع السياسي الذي يشهده المسلمون اليوم في واقعهم لابد إ لا و أن يكون له نصيب في تقديرهم و نظرتهم لكل الأمور. فعلى سبيل المثال نجد أن نظرية الإشراط السلوكي التقليدي كما ظهرت عند واطسون في أمريكا و بافلوف في روسيا كان لها أصول عند حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في نظريته سبق الوهم إلى العكس، وقد بحث هذا الموضوع بالتفصيل الدكتور فائز الحاج،[4] إلا أنه ينبغي هنا أن ننوه بضرورة إعطاء كل ذي حق حقه فنظرية الإمام الغزالي ما هي إلا نتاج عمليات الاستدلال العقلي لملاحظات حسية ذات طبيعة وصفية لهذه الظاهرة و أما ما قام به بافلوف و واطسون فكان عبارة عن إدخال هذه الظاهرة إلى المختبر و إخضاعها للمراقبة و الضبط والقياس و التجريب و استخراج علاقات علمية دقيقة بلغة الكم هي بمثابة القوانين العلمية. و عليه فليس من الضروري لكل مشتغل بالعلم أن يكون اسمه أحمدا أو محمودا حتى نعترف له بالفضل و الإنجاز العلمي ثم نطمئن نحن المسلمين على أنفسنا. و ليس من الضروري أن يكون لكل عمل علمي أصل أو صلة بأعمال آبائنا المسلمين حتى نقبله و نرضى عنه وإلا أصبحنا آبائيين في تفكيرنا و مواقفنا من كل جديد وهذا موقف فكري اتخذه الكفار ضد الإسلام. قال - تعالى - واصفا ذلك الموقف عندهم { ما هذا إلا سحر مفترى و ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوليين فآتوا بآبائنا إن كنتم صادقين }.[5]
ثانيا: لا شك أن لعلم النفس الحديث مدارس متعددة تمثل مواقف مختلفة في تفسير السلوك و الظواهر النفسية، هذا الاختلاف في نظر بعض علماء النفس هو مصدر إثراء و حيوية لهذا العلم الصاعد وفي رأي البعض الآخر هو خلاف في المنطلقات التي يبني عليها العلم ويعتبرها مسلمات ومقبولات. لقد أحدث غياب الإطار النظري الشامل في العلوم الاجتماعية والسلوكية نوعا من الفوضى في التعامل مع هذه العلوم و كان ذلك مدعاة للتشتت البحثي والتدريبي والتطبيقي عند المتخصصين. و لا أدل على ذلك من ظاهرة العصبية الحزبية للنظريات و الاتجاهات في علم النفس عند بعض أعضاء الهيئات العلمية و في بعض أقسام العلوم السلوكية و الاجتماعية في الجامعات حيث يشكك كل طرف بالمصداقية العلمية للطرف الآخر. إلا أن علم النفس ينمو بسرعة كبيرة و أخذت تظهر فيه اتجاهات التكامل بين مدارسه المختلفة فظهرت على سبيل المثال المدرسة السلوكية المعرفية كما ظهرت المدرسة التكاملية و المدرسة الانتقائية. وعلى الصعيد الإسلامي يرى عدد من علماء النفس المسلمين مثل فؤاد أبو حطب و مالك بدري و غيرهما ضرورة إعطاء هذا العلم المتنامي الوجهة الثقافية الإسلامية على نحو يدفع بعجلة التكامل فيه و يزيل الشوائب الثقافية التي ما تزال عالقة فيه.
ثالثا: على الرغم من وسطية الموقف الثالث للمسلمين تجاه علم النفس و إنصافه نسبيا مع الواقع الذي هو عليه علم النفس فقد كان هناك نوع من الإسراف عند البعض في إظهار عيوب النظريات النفسية و طروحات أصحابها الغربيين. و هذا بدوره يطرح علينا التساؤلات التالية: هل ينبغي على العلماء الغربيين أن يتبرؤا من ثقافاتهم الفلسفية إن أرادوا الاشتغال في العلم؟ وهل ينبغي على علماء النفس جميعا أن يكونوا من أبناء الثقافة الإسلامية حتى يكونوا في عداد الصالحين علميا؟ و هل نفترض لأي باحث يعمل على إنشاء نظرية ما أن يأتي بنظرية جامعة مانعة ناسخة لما قبلها و ما بعدها من النظريات؟ و هل يصح لنا نحن المسلمين و نحن نقيّم علم النفس أن نقتصر على المدرسة السلوكية ثم نختزل هذه الأخيرة إلى نظرية سكنر الإشراطية؟ و أخيرا و ليس آخرا أوليس علماء النفس الغربيون أنفسهم الذين انتقدوا واقع هذا العلم و خاضوا في مشكلاته و تحدثوا عن محدوديته و نسبيته و الصعاب الكبيرة التي يواجهها فلماذا التعجب و الرهاب؟
رابعا: هذه الصعاب و التحديات الموجودة الآن أمام علم النفس و العلوم الاجتماعية و حتى الطبيعية، بعضها يمس جميع العلماء مهما كانت وجهتهم الثقافية إذ لا يزال مصير كثير من الأبحاث العلمية في أي ميدان مرهون بمقاصد السياسات الاجتماعية و سبل التمويل المالي لها، و التي غالبا ما تكون توجهات أنانية نفعية محضة. كذلك فإن موضوع علم النفس بحد ذاته (السلوك) سيبقى تحديا كبيرا بسبب تشابك المتحولات فيه و صعوبة التحكم و التجريب عليه لأسباب فنية و أخلاقية.
أخيرا: لا ينبغي أن نختم هذا المقال دون أن نرفع الستار عن أشعة التفاؤل بخير هذا العلم إذ أن سجله أصبح الآن حافلا بالنجاح و التقدم في مجالات التعلم و الدعاية و الإعلام و الصناعة و السياسة و التجارة و الحرب و الصحة النفسية، و مؤخرا دخل علم النفس بناء على دعوة الأطباء الصحة الجسمية و المشاركة في معالجة الأمراض العضوية بعامة و العضال منها بخاصة و المشاركة بالأبحاث و الدراسات حول العلاقة بين العوامل النفسية و وظائف جهاز المناعة الحيوي و آخر دراسة مقارنة أجريت على مرضى سرطان الثدي أثبتت حصول زيادة هامة في البقاء على قيد الحياة لاؤلئك اللاتي حصلن على العلاج النفسي مقارنة باللاتي لم يحصلن و ذلك تحت الضبط البحثي لجميع المتحولات الأخرى ذات العلاقة.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - -
[1] عاقل، فاخر - علم النفس - دار العلم للملايين 1987
[2] الشعراء آية 88
[3] رواية مسلم - رياض الصالحين - باب الإخلاص - الإمام النووي
[4] الحاج، فائز. مفهوم الغزالي عن المنعكس الاشراطي - رسالة غير منشورة.
[5] سورة القصص آية 36
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد