ركائز في القـــــراءة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

القراءة فنٌ سامق، ومركبٌ ذلولٌ لمريد المعرفة، إلا أن جمهرةً من المثقفين ـ بله غيرهم ـ افتَأتوا عن ركائزَ تحكُمُه، وثوابتَ تضبطه، حتى أصبح مُنتَجَعاً قليل الكلأ، وَالِجُهُ لصيق الهُزَال العلمي!

 

لذا: فهذا رسمٌ لشيء من تلك الركائز، بُغيَة الإصلاح.

 

الركيزة الأولى:

أن الإيغال في بطون الكتب، والإِمعان في فهم مقاصد أصحابها، معقودةُ زمائمه بالبِنية العلمية للناظر قوةً وضعفاً، وهي مُحَصِّلة التَّلقي عن الأشياخ، أو ما هو آيب إِليه، ومن ثم: نستطيع (تفسير) إفادة شخص من كتاب أكثر من آخر، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله- في\"موافقاته\":\"وإذا ثبت أنه لابد من أخذ العلم عن أهله فلذلك طريقان:

 

أحدهما: المشافهة،وهي أنفع الطريقين وأسلمهما،…

 

الطريق الثاني: مطالعة كتب المصنفين، ومدوني الدواوين. وهو أيضاً نافع في بابه بشرطين:

 

ـ الشرط الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب ومعرفة اصطلاحات أهله: ما يتم له به النظر في الكتب، وذلك يحصل بالطريق الأول من مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إِليهº وهو معنى قول من قال:\"كان العلم في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، ومفاتحه بأيدي الرجال\".

 

والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئاً، دون فتح العلماء، وهو مشاهد معتاد.

 

ـ الشرط الثاني: أن يتحرَّى كتب المتقدمين من أهل العلم المرادº فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين\"(1).

 

لذا: نجد العلماء العارفين يحثون المتعلم على تلقف العلوم من أفواه ذوي الذِّكر، حتى تتكون عنده النواة العلمية المطلوبة، والحصانة المانعة من ولوج حُثالة الأفكار، وزُبالة الأسفار، إلى مسارب النفس، بل\"إذا وردت عليه ردَّها حرسُ العلم وجيشه مغلولة مغلوبة\"(2).

 

الركيزة الثانية:

مما لا ريب فيه أن الأسلاف الأول أرسخ في العلم قدماً، وَأَسَدٌّ فهماً ممن أتى بعدهم، هذا في العلوم المشتركة بين السابق واللاحق، وأصل ذلك: التجربة والخبر.

 

ـ أما التجربة، فهو أمر مشاهد في أي علم كان، فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ ـ في علمٍ, ما ـ ما بلغه المتقدم، وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري، فأعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين، وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيرهم وأقوالهم رأى العجب في هذا المعنى.

 

ـ وأما الخبر، ففي الحديث:\"خيرُ القرونِ قرني، ثمَّ الذين يلونَهم، ثم الذين يلونَهم\"، وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك (3).

 

فابقِ الأولوية لكتب الأوائل الأقدمينº قراءةً وفهماً وحفظاً، ولا يُغتَر بما يُرى للمتأخرين من كثرة كلام في كراريسهم ومكتوبهمº حيث فتن كثير من المتأخرين بهذا، فظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين، فهو أعلم ممن ليس كذلك، وهذا جهل محض.

 

وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهمº كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت، كيف كانوا؟، كلامهم أقل من كلام ابن عباس، وهم أعلم منه، وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة، والصحابة أعلم منهم، وكذلك تابعوا التابعين: كلامهم أكثر من كلام التابعين، والتابعون أعلم منهم، فليس العلم بكثرة الرواية، ولا بكثرة المقال، ولكنه نور يقذف في القلب، يفهم به العبد الحق، ويميز به بينه وبين الباطل، ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد (4).

 

ومع هذا التفضيل الإجمالي للأولين فإن الثَّقِف مَن يُفِيد من رُقُم الآخرِين، في توضيح مسألة، وإلحاق فرع بأصل، ونحوهما.

 

الركيزة الثالثة:

إِن فَلي الكتب، وتأرٌّض مكانهاº جادةٌ مطروقةٌ، لكن بقصد تحقيق البصيرة عند العمل، ومعرفة السبيل الأقوم عند الواقعةº لأن العامل\"لا يكون عمله صالحاً إن لم يكن بعلم وفقه\"(5).

 

فالنظر الجالب للعمل المفيد هو العلم النافعº لأن العلم الحق\"هو العلم الباعث على العمل\"(6)،\"والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاته لذات الدنيا، وخيرات الآخرة، فقَدِمَ مفلساً مع قوة الحجة عليه!\"(7).

 

هذا، والله الموفق والمعين.

ـــــــــــــــــــــــــ

(1) الموافقات: ج1، ص 96 ـ 97.

(2) مفتاح دار السعادة لابن القيم: ج1، ص 140.

(3) الموافقات: ج1، ص 97.

(4) فضل علم السلف على الخلف لابن رجب: ص 92-94، تحقيق: مروان العطية.

(5) رسالة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لابن تيمية: ص 48ـ49.

(6) الموافقات: ج1، ص 69.

(7) صيد الخاطر لأبي الفرج ابن الجوزي: ص 144.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply