بسم الله الرحمن الرحيم
أحمدُ من أبى العصمة إلا لكتابه، و أصلي و أسلِّمُ على من حُمِىَ من الزلل جنابُه، و على آله و أصحابه، أما بعدُ:
فهذه مُرسَلَةٌ أوضِّحُ فيها معالم (فِقهُ تَخطِئَةِ العَالِم )، ناشداً من الله التوفيق في الإيضاح، و راغباً من الأنام درايةَ سرِّ الإفصاح.
أضع بين مخائل لفظها بدائع لحظِ القواعد، و أسطِّرُ فيها غُرَرَاً من نفيس الفوائد، مَسرُدَةً في عِقدٍ, منظوم بمعانٍ, من الإجلال، ومُزَيَّنَةٍ, بجلبابٍ, من اللآل. فأقول و بربي استعانتي، وعليه اتكالي:
إن الكلام عن (فِقهُ تَخطِئَةِ العَالِم ) يدور على محاورَ هُنَّ أساسٌ له، وعليها اعتماده:
الأول: الأصل في العالم عدم مخالفة الشريعة.
و هذا الأصل معروف مشهور، إذ علماءُ الشريعة على جانب كبير من التعظيم للملة، و على حيازة عظيمة لإجلال الآثار.
و لذا قال شيخ الإسلام _ رحمه الله _: (وليعلم أنه ليس أحد من الأئمة - المقبولين عند الأمة قبولاً عاماً - يتعمد مخالفة رسول لله - صلى الله عليه وسلم - في شيء من سنته, دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقاً يقينياً على وجوب اتباع الرسول – صلى لله عليه وسلم -, وعلى أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ) أهـ [رفع الملام ص:4].
فإذا تقرر هذا فإن مخالفة العالم للنص الشرعي سيكون له فيها عذراً يشفع له بتجاوز زلته.
ولا يجوز – إطلاقاً - إخراج أحد من العلماء من هذا الأصل.
الثاني: أسباب المخالفة.
حصر شيخ الإسلام – رحمه الله – أسباب مخالفة العالم النصَّ في عشرة أسباب:
أولها: أن لا يكون الحديث قد بلغه.
ثانيها: أن يكون الحديث قد بلغه لكن لم يثبت عنده.
ثالثها: اعتقاد ضعف الحديث باجتهادٍ, خالفه فيه غيره.
وقد جعل الشيخ لحصول هذا السبب أسباب خمسه هي:
أولاً: أن يكون المحدث ( الراوي ) بالحديث يعتقده أحدهما ضعيفاً, ويعتقده الآخر ثقة.
ثانياً: أن لا يعتقد أن المحدث سمع الحديث ممن حَّدث عنه, وغيره يعتقد أنه سمعه.
ثالثاً: أن يكون للمحدث حالان:
1- حال استقامة.
2- حال اضطراب (اختلاط, واحتراق كتب).
فما حَدَّث به في الحال الأولى فهو صحيح, وما حَدَّث به في الثانية فهو ضعيف.
فهنا يكون النزاع بين العاَلِمَين في حديث الروي في أي الحالين حَدَّث به؟
رابعاً: أن يكون المحَّدث قد نسي ذلك الحديث فلم يذكره فيما بعد, أو أنكر أن يكون حَدَّث به, ويرى أحد العالَمِين أن ذلك علة توجب ترك الحديث.
ويرى غيره أن هذا مما يصح الاستدلال به.
رابعها: اختلاف العلماء في شرط خبر الواحد.
فبعض العلماء له في خبر الواحد شروطاً يرى أهمية تواجدها فيه, بينما غيره لا يرى تلك الشروط.
خامسها: أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده, ولكن نسيه.
سادسها: عدم معرفة العالم بدليل الحديث. وسبب ذلك:
أولا: كون لفظ الحديث غريباً عند العالم.
ثانياً: الاختلاف في معنى الكلمة في لغة العالم, ولغة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيحمله على ما يفهمه من لغة نفسه.
ويحتج لفعله هذا بأن الأصل بقاء اللغة.
ثالثاً: كون اللفظ: مشتركاً, أو مجملاً, أو متردداً بين حقيقة ومجاز.
فيحمله العالم على الأقرب عنده, وإن كان المراد المعنى الآخر.
كما في فَهمِ عدي بن حاتم من قوله – تعالى -: (الخيط الأبيض من الخيط الأسود) أنه الحبل المعروف.
رابعاً: كون الدلالة من النص خفية.
فإن جهات الدلالات مُتَّسَعَةُ جداً، يتفاوت الناس في إدراكها، وفهم وجوه الكلام بِحَسبِ منح الحق – سبحانه وتعالى - ومواهبه.
سابعها: اعتقاد العالمِ أن لا دلالة في الحديث.
والفرق بين هذا والسابق:
الأول: العالم لا يعرف جهة الدلالة.
الثاني: العالم عرف الدلالة في الحديث لكنه اعتقد عدم صحتها.
وهذا الاعتقاد - أي كون الدلالة ليست صحيحة - سبب كون بعض الأصول - لدى العالم - ترد تلك الدلالة.
ثامنها: اعتقاد العالم أن تلك الدلالة قد عارضها ما دلَّ على أنها ليست مرادة.
تاسعها: اعتقاد العالم أن الحديث معارضٌ بما يدل على ضعفه, أو نسخه, أو تأويله - إن كان قابلاً للتأويل - وشرط العارض: أن يكون معارضاً بالاتفاق كـ(آية) أو(حديث) أو(إجماع).
وهذا الاعتقاد نوعان:
الأول: أن يعتقد أن هذا المعارض راجحٌ في الجملة, فيتعين أحد ثلاثة أمور, من غير تعيين واحدِ منها.
قُلت: والظاهر أن المراد بالثلاثة التي يتعين واحداً منها وهي: ضعف الحديث, أو نسخه, أو تأويله.
الثاني: أن يعين واحداً من الأمور الثلاثة بأنه يعتقد أنه منسوخ أو مؤول.
عاشرها: معارضة الحديث بما يدل على ضعفه, أو نسخه, أو تأويله, مما لا يعتقده غيره, أو جنسه معارضاً, أو لا يكون في الحقيقة معارضاً.
وبيان هذا أن يأتي عالم فَيِعارض حديثاً بمُعَارضٍ, فيه دلالة على ضعف الحديث, أو نسخه, أو تأويله.
وعالمٌ آخر لا يعتقد أن المعارض معارضاً, أو لا يكون عند التحقيق فيه معارضاً. [انظر: رفع الملام,ص5-20]
الثالث: المسائل المخالف فيها.
إن الخلاف القائم بين علماء الدين لا يخرج عن مسألتين:
الأولى: مسألة في الأصول (الاعتقاد)
الثاني: مسألة في الفروع (الفقه وغيره)
وقبل أن يخطأ العالم في مخالفته لابد من معرفة ما يأتي:
الرابع: دوران المسائل بين الوفاق والخلاف.
بعد أن ننظر إلى العالم وكونه خالف غيره في أي من المسألتين الآنفتين فإن الواجب أن ينظر إليهما من خلال جهتين:
الأولى:جهة الوفاق والإجماع.
الثانية: جهة الخلاف
فإن كان العالم قد أخذ بمسألة انعقد عليها الإجماع, ولم يَقُم فيها خلاف فإنه يخطأ بأدب وعلم.
وأما أن كان العالم قد أخذ بمسألة قام الخلاف فيها قديماً فلا يجوز أن يخطأ أو يجهل.
قال سفيان الثوري – رحمه الله -: (إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه). (الفقيه والمتفقه 2/69).
وَصلٌ: اعلم – علمني الله وإياك - أن الخلاف يعود إلى أمرين رئيسين:
الأول: الأخذ بالأدلة
الثاني: فهم الأدلة
فأما الأول فإن الأدلة على قسمين:
أولها: أدلة متفق عليها. وهي (القرآن, السنة, الإجماع, القياس)
ثانيها: أدلة مختلف فيها مثل: (الاستحسان, الاستصحاب, فعل الصحابي, شرع من قبلنا)
وأما الثاني: فإن فهوم العلماء متفاوتةٌ مختلفةٌ.
وعلى ذلك فلا لوم على من قال بمسألة, واعتمد على دليلٍ, معتبر (متفقاً عليه, أو مختلفاً فيه)
هذا ما سنح الخاطر برقمه, وما جاد القلم برسمه، سائلاً ربي الكريم إصلاح الحال, وجمع الشمل, وإقصاء بواعث الفرقة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه وسلم!!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد