فتاوى سياسية : حوارات في الدعوة والدولة ( 2 - 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

خص الباحث الموريتاني محمد المختار الشنقيطي، والمقيم في الولايات المتحدة، مجلة العصر الإلكترونية بمقتطفات من كتابه الذي سيصدر قريبا بإذن الله عن \"مركز الراية للتنمية الفكرية\" في دمشق، وننشر اليوم الجزء الثاني منه:

* هل تملك الحركات الإسلامية المعاصرة وخاصة جماعة الإخوان المسلمين مشروعا حقيقيا لحل أزمات الأمة لتتمكن من إقناع الناس بأهليتها كبديل؟

** الحركات الإسلامية هي أمثل البدائل، ولكنها ليست بديلا مثاليا، إذ لا مثاليات في الحياة السياسية والاجتماعية، بل تسديد ومقاربة واجتهاد يخطئ ويصيب. وبعض هذه الحركات أنضج تجربة، وأحسن خبرة، وأوضح تصورا من البعض الآخر. وبعضها يمتلك مشروعا واضحا ويعرف ماذا يريد وكيف يريده، وبعضها يعرف ما لا يريد أكثر مما يعرف ما يريد. وكلها تعاني من نقص في الثقافة العملية، أو \"الفكر الفني الذي يعجل بحركة التاريخ\" كما يدعوه مالك بن نبي - رحمه الله -، والمقصود به حسن التنظيم والتخطيط وسلامة البناء الإداري والقيادي. وفي كل الحركات الإسلامية خير وبركة، فهي مشروع أمة لا تزال تحاول القيام من عثرتها التاريخية. ولهذه الحركات الفضل في حمل الهم، وإن تنجح بعدُ في تحقيق الغايات المبتغاة. وهي بحاجة إلى أكثر من إقناع الناس، إنها تحتاج إلى الالتحام بالناس، وأن تكون من الناس والناس منها. فهذا هو سبيلها الوحيد لقيادة الأمة.

وأهم ما تحتاجه الحركات الإسلامية اليوم، ومن ضمنها حركة الإخوان المسلمين، هو إدراك الظرف التاريخي الدقيق والانتقالي الذي تعيشه الأمة اليوم، فإن هي بادرت إلى تدارك القصور في بنيتها وقيادتها وأدائها، وعلاقتها بالدولة والمجتمع والعالم، فستتحقق لها الريادة، وإلا فإن الأمة بدأت التحرك، ولن تنتظر أحدا. وقد بدأ يساروني شك في أن بعض الحركات الإسلامية العريقة سيطويها النسيان، بعد أن فشلت في مواكبة حركة الأمة، ولعل في ذلك خير: \"وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم\".

* ألا يمكن الحديث عن مرحلة ما بعد الجماعات، باعتبار أن التحديات والمسارات المستقبلية للأمة تتجاوز ضيق أفق الجماعات؟

** إذا كان المقصود الجماعات المتمحورة حول ذاتها، المفاخِرة برجالها وأشكالها، المتعالية على عموم أبناء الأمة، المغرمة بالجدل والمناظرات، السخية في توزيع الاتهامات..فهذه لا مستقبل لها، فقد تعبت الأمة من هذا النمط من الجماعات، وتراكمت تحديات كثيرة لا تستطيع هذه الجماعات التعاطي معها برؤاها الضيقة وأساليبها القاصرة.وإذا كان المقصود الجماعات التي تجمع الشمل، وتحدب على الأمة بكل مذاهبها ومشاربها، وتتعامل بالحسنى مع الجميع وترحمهم، وتتفهم العالم من حولها... فهذه ستبقى، بل هي طلائع التغيير والبناء القادم بإذن الله.

 

* في علاقتنا مع الغرب مفارقات كبيرة وكثيرة فنحن نشتمهم ونتوعدهم، ولكننا نستلهم تجربتهم في الديمقراطية وحقوق الإنسان.. ماسر هذه المفارقة؟

** السر في هذه الازدواجية أن الغرب \"يفتح متاجره أمام الآخرين أكثر مما يفتح مدارسه\"، كما قال الفيلسوف مالك بن نبي. فنحن أمام ظاهرة مزدوجة: هي \"الغرب في ذاته\" و\"الغرب في صلته بنا\". أما الغرب في ذاته فلديه بعض القيم التي تستحق الثناء حقا، وبالذات القيم السياسية التي ضيعها المسلمون منذ منتصف القرن الأول الهجري فضاعوا. وأما الغرب في صلته بنا فالاستعمار عنوانه والاستغلال هدفه. وكما قال لي بروفسور أمريكي صديق: \"المشكلة ليست في أن أمريكا لا تؤمن بحقوق الإنسان، المشكلة في تعريفها للإنسان\". فنحن لسنا داخلين في التعريف الغربي للإنسان حتى الآن. والإعلان العالمي لحقوق الإنسان تم إصداره في باريس عام 1949 في وقت تمتد المستعمرات الفرنسية على مسافات شاسعة من إفريقيا وآسيا، ويستعبد فيه الفرنسيون شعوب تلك الدول. وتلك هي الازدواجية الأخلاقية في أسمى معانيها!!. أنا لا أستغرب ازدواجية موقفنا من الغرب، لأن الغرب ظاهرة مزدوجة.

* صورة العربي والمسلم اليوم في الذاكرة الأميركية هي حبيسة التنميط الجنسي والنفطي وألف ليلة وليلة والرجل العنيف.. كيف يمكن للمقيم المسلم في الغرب أن يحسن من هذه الصورة؟

** كتب الصحفي البريطاني روبرت فيسك عن فضيحة سجن أبي غريب في صحيفة \"الاندبندنت\"، فقال: إن ما حدث للسجناء العراقيين \"جزء من ثقافة ترجع جذورها إلى أيام الحروب الصليبية، ثقافة ترى أن المسلم شخص قذر وفاجر، وحاقد على المسيحية، وغير جدير بأي عطف إنساني\".

تلك هي الصورة النمطية التي لا تزال راسخة في أذهان العديد من الغربيين، تغذيها آلة الإعلام والسينما بكل جديد. وقد قدم الدكتور جاك شاهين أستاذ الإعلام في جامعة كولومبيا الأميركية دراسة عميقة عن هذا الموضوع في كتابه المعنون: \"عربي التلفزيون\" The TV Arabومن أهم مهمات المسلمين في الغرب اليوم —خصوصا في أمريكا— التغلب على هذه الصورة النمطية العدوانية، وتقديم صورة أكثر إنسانية وإشراقا.. ولن يكون ذلك إلا بالتفاعل الإيجابي مع المجتمع المضيف، وإسماع الصوت غير ملجلِج.

لكن الأمر أكثر تعقيدا من مجرد حملة علاقات عامة: فصورة المسلم في الغرب ليست وليدة ما يفعله المسلم فقط، بل هي وليدة ما يُفعل به أيضا. وهذا الشق الأخير أهم وأقوى في اعتقادي. فالمعادلة ليست: \"غير صورة المسلم في الذهن الأمريكي تتغير سياسات أمريكا تجاه العالم الإسلامي\"، لكنها: \"غير سياسات أمريكا في العالم الإسلامي تتغير صورة المسلم في الذهن الأمريكي\".

إنها جدلية الفكر والواقع، وأيهما أعمق أثرا في الآخر. وفي حالتنا هذه أعتقد أن تغيير الواقع هو الذي سيقود إلى تغيير الفكر، لأن العقلية الأمريكية عملية جدا، يؤثر فيها تغير الوقائع على الأرض أكثر مما تؤثر فيها المواعظ والأفكار المجردة.

* أليس بإمكاننا استثمار الأصوات الحرة والعادلة في الغرب، بدلا من صيغة التعميم التي لا تزال تغلب على بعض المتحدثين؟

** أنا ممن يدعون إلى دراسة \"الخريطة الإنسانية\" لأمريكا، أقصد تركيبة المجتمع، وتنوعها الديني والعرقي والثقافي والسياسي، ودور الدين والمال والإعلام والتجربة التاريخية فيها.. الخ ففهم الخريطة الإنسانية لأي مجتمع هي التي تعين على حسن التعاطي معه. ولم تعد النظرة السطحية والمعلومات السياحية كافية في هذا المضمار.

ولو أن المسلمين استوعبوا خارطة المجتمع الغربي بشكل عام، والأمريكي بشكل أخص، لوجدوا لهم نصيرا في هذه المجتمعات، من ذوي النزعة الإنسانية الحرة، والنزعة الاجتماعية الطامحة إلى العدل، كما وجدها المسلمون الأوائل في شخص الزعيم القبلي أبي طالب، والملك المسيحي النجاشي، والأعرابي الشاعر معبد بن أبي معبد، والحاخام اليهودي مخيريق.. الخ

لكن الأمر يقتضي نظرة إيجابية متفائلة، متحررة من التعميم السهل، مستوعبة للتفاصيل والدقائق. ومرة أخرى أحيل القراء الأفاضل إلى مقال لي في الجزيرة نت بعنوان \"المشهد الأمريكي المركب\"، ففيه محاولة تحليلية للظاهرة الأمريكية، وتنبيه إلى ضرورة استيعابها، مهما يكن موقفنا منها.

هل المشكلة في ثقافة المسلمين أم في سياسة الغرب؟

هذا سؤال كبير وهو جوهر الخلاف في تفسير المواجهة والعداوة بين العالم الإسلامي والغربي. فالمسلمون يؤمنون أن المشكلة في سياسات الغرب، والغرب أو الحكومة الأمريكية على الأقل تؤمن بأن المشكلة هي في ثقافة المسلمين ولذلك تحاول تغيير المناهج الدراسية في الدول الإسلامية واستبدال الثقافة الإسلامية بثقافة غربية علمانية لكن هذا التفسير الذي تتبناه النخبة السياسية الأمريكية هو تفسير سطحي من الناحية الفكرية وغير نزيه من الناحية الأخلاقية فالذي جعل كثيرا من المسلمين في العالم الإسلامي ينظرون إلى أمريكا نظرة سلبية هو السياسات الأمريكية لا غير فمن طبيعة البشر أنهم يكرهون الظلم فالشيوعي والوثني الفيتنامي الذي لا دين له قاوم سياسة الأمريكية والاحتلال الأمريكي لبلده دون أن يكون مسلما ولا حتى متدينا بأي دين. وحتى لو نظرنا إلى التكوين الدراسي للذين خططوا ونفذوا هجمات الحادي عشر من سبتمبر فسنجد ما يكفي لنقض التفسير الأمريكي، فخالد شيخ محمد الذي هو مخطط العملية درس في كلية مسيحية معمدانية بولاية نورث كارولينا الأمريكية، ثم في جامعة تقنية أمريكية بنفس الولاية، وثلاثة من الطيارين الذين نفذوا العملية درسوا في جامعات ألمانية، ثم أخذوا شهادات الطيران من مدارس أمريكية وأحدهم درس في مدرسة كاثوليكية في لبنان ماذا يعني كل هذا؟ هذا يعني أن المدارس الإسلامية ليست هي المشكلة، وأن الذين يعادون أمريكا لا يعادونها بسبب تخرجهم من مدارس قرآنية أو كليات شرعية، بل يعادونها بسبب سياساتها.

فالمشكلة ليست في ثقافة المسلمين بل في سياسات الغرب. تلك هي الحقيقة المرة التي لا تريد النخبة السياسية الأمريكية الاعتراف بها لأن الاعتراف بها يتضمن إقرار بالذنب وتصحيحا للانحراف فهو أمر لا تريده هذه النخبة السياسية الآن على الأقل ومع ذلك ينبغي أن لا نيأس فالشعوب الغربية والشعب الأمريكي خصوصا ستدرك هذه الحقائق يوما ما، وستتوصل إلى أن التعاطي مع المسلمين بمنهج البر والقسط أولى من التمادي في العداء لهم، والذين يريدون توسعا في هذه النقطة يمكنهم الرجوع إلى مقالي على موقع الجزيرة نت الإنجليزي عن \"الجذور السياسية لعدم الأمن في أمريكا\" Political Roots of AmericanInsecurity.

* هل ترى أن العقيدة التي يتعامل بها الغرب مع المسلمين وثنية-مسيحية متصهينة؟

** للدين أثره العميق في تعاطي الغرب مع العالم الإسلامي، وهذا أمر يصدق على أمريكا أكثر من أي دولة أخرى. وما من شك في أن المسيحية الأمريكية لها خصائص مميزة، أهمها التأثير العميق للديانة اليهودية على المسيحية البروتستنتية. وهذا حديث طويل له خلفيات تاريخية عميقة ترجع إلى ما يعرف بالإصلاح في أوروبا، لما أعاد مارتن لوثر قراءة المسيحية وجعل للعهد القديم الذي يتضمن التوراة العبرانية أهمية أكبر من العهد الجديد الذي هو الإنجيل. ولذلك لا عجب أن كانت الدول البروتستانتية وهي أمريكا وبريطانيا وأستراليا أكثر خدمة لإسرائيل وعطفا عليها. وهو عطف أساسه مشاعر دينية عميقة عبر عنها الرئيس كارتر في كتابيه: \"مصادر القوة\" و\"دماء إبراهيم\"، كما عبر عنها كلينتون وبوش الأول وبوش الثاني كل بطريقته الخاصة قولا وفعلا. لكن ينبغي أن نتجنب التبسيط والتعميم. ففي أمريكا 60 مليون من الكاثوليك، وهم لا يشاطرون الأصوليين البروتوستانت رؤيتهم الصهيونية. وفي المذاهب البروتستانية نفسها يتفاوت التهود والتصهين من طائفة لأخرى.

فالطائفة المعمدانية Baptistلها رؤيتها وهي تختلف عن رؤية الطائفة المنهجية Methodistوعن الطائفة المشيخية Presbyterianوالطائفة التوحيدية Unitarian. وفي كل من هذه الطوائف يوجد الليبرالي المتحرر والمتدين المحافظ. وحتى هذا المحافظ المتدين قد يدفعه تدينه إلى إنصاف المسلمين والقرب منهم، وقد يدفعه تدينه إلى التعصب ضدهم والبعد عنهم. فلابد للمسلم المعاصر من أن يفهم الخريطة الدينية داخل الدول الغربية، وخصوصا أمريكا، ليدرك خلفيات المواقف السياسية التي تؤثر على العالم الإسلامي فلو أننا فهمنا هذه الخريطة الدينية والسياسية بتفاصيل مفرداتها لوجدنا دائما في هذه الشعوب الغربية من يمكن التفاهم معه ومن يؤمن بالعدل والإنصاف. أما التبسيط والتعميم فهو مضر من الناحية السياسية، وهو خطأ من الناحية الأخلاقية.

* هل تعتبرون حل الانقلابات العسكرية والثورات الشعبية العنيفة خيارا صالحا أمام الحركات التغيير الإسلامية؟

** الجمود على الوسائل ليس من شيم حركات التغيير الواعية، وإيمان الحركات الإصلاحية بالتغيير السلمي لا ينبغي أن يمنعها من الترحيب بأي تغيير عن طريق آخر، إذا انسدت منافذ التغيير السلمي. فقد عانت أمتنا كثيرا وطال انتظارها. والسياسة لا تتعاطى مع القوالب الذهنية المجردة، بل تتعاطى مع الواقع ضمن خيارات محدودة، وهي تفرض أحيانا كثيرة التغاضي عن بعض الشر تجنبا لما هو أشر. وقد أورد الحافظ الذهبي في \"سير أعلام النبلاء\" عن عمرو بن العاص -رضي الله- أنه كان يقول: \"ليس العاقل هو الذي يعرف الخير من الشر، ولكن هو الذي يعرف خير الشرين\".

 

ويبقى لدينا دائما أمل في التخلص من الظلمة ورجوع الحق إلى أهله. وينبغي ألا نفقد الأمل مهما ادلهمت الخطوب. فالله - تعالى -يبدل الأحوال ويأتي بالفرج من حيث لا نحتسب. لقد كان فرعون يفخر أن الأنهار تجري من تحته، ثم انتهى المطاف بجريان الماء من فوق رأسه، وجاء إخوة يوسف بقميصه وقد لوثوه بدم كذب، ثم جاءوا بعد ذلك بقميصه يحملون البشرى بسلامته. ولله الأمر من قبل ومن بعد.

* هل يجوز للمسلمين المشاركة في الانتخابات الأمريكية تصويتا وترشحا وترشيحا؟

** أحب لفت انتباه السائل الكريم إلى أمرين يحسن تأملهما، واتخاذهما أصلا ومرجعا في هذا المقام: أحدهما في القرآن الكريم، والآخر في السنة النبوية. أما الذي في القرآن الكريم فهو سؤال يوسف - عليه السلام - ملك مصر أن يكل إليه أمر المال العام ليعد خطة تحمي الناس من المجاعة: \"قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم\".. فلم ينظر يوسف - عليه السلام - إلى كون الملك كافرا مستكبرا، بل نظر إلى حاجة عامة الناس إلى من يقوم بمصلحتهم، ويحمي أرواحهم من الخطر الداهم. وأما الذي في السنة فقد ورد في قصة الهجرة إلى الحبشة الواردة في مسند الإمام أحمد عن أم سلمة - رضي الله عنها - أم المؤمنين وإحدى المهاجرات إلى الحبشة. فقد جاء في تلك الرواية قول أم سلمة: \"... وأقمنا عنده [أي عند النجاشي] بخير دار مع خير جار. قالت: فوالله إنا على ذلك إذ نزل به من ينازعه في ملكه، قالت: فوالله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزِنَّاه، وذلك تخوفا أن يظهر ذلك [الثائر] على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه. قالت: وسار النجاشي وبينهما عرض النيل، قالت: فقال أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟ قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا. قالت: وكان من أحدث القوم سنا. قالت: فنفخوا له قِربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم، ثم انطلق حتى حضرهم. قالت: ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده. واستوثق له أمر الحبشة... \". (مسند الإمام أحمد 5/291 ط مؤسسة قرطبة).

فأنت ترى أنه لما ثار على النجاشي ابنُ أخيه وحاول الإطاحة به، لم يقف المسلمون المهاجرون في الحبشة على الحياد، ولم يقولوا: ملك مسيحي يقاتل ابن أخيه المسيحي. بل لجئوا إلى الله في الدعاء للنجاشي \"بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده\"، وبعثوا رائدهم ليستطلع مآل المعركة. ولو كان عندهم ما يقدمونه غير ذلك لفعلوه. وهذا هو المنظور الذي ينبغي أن ينظر منه المسلم الذي يعيش في الغرب إلى موضوع المشاركة السياسية. فالمشاركة في الانتخابات الأمريكية بنية ترجيح كفة الخير وتوسيع دائرة العدل مطلوبة ومرغوبة، وليست هي من الولاء للشرك، ولا من العون على الظلم والعدوان. أما الحكم على البرلمانات بأنها مجالس كفر وشرك، فهو تبسيط لأمر مركب، وبيان ذلك أن الكونجرس الأمريكي — مثلا- ليس هيئة دينية، بل إن الدستور الأمريكي يحظر على الكونجرس سن أي قانون يدعم الدين، أو يقيد حرية الدين. بمعنى أن الكونجرس ليس مجلس كفر، وإن كان أعضاؤه كفارا، ولا هو مجلس إيمان بالطبع، حتى ولو وجد فيه مسلمون. بل هو ملزم بالحياد في أمور الدين بنص الدستور. فكل ما يعرض على الكونجرس أو يبادر به الكونجرس هو أمور ذات صلة بالمصالح العامة. ومشاركة المسلم في تحقيق المصالح العامة واجب شرعي، سواء كانت مصالح المسلمين في أمريكا أو خارجها، أو كانت مصالح غير المسلمين. فالمسلمون الذين يشاركون في الانتخابات الأمريكية لا ينبغي أن يشاركوا فيها بروح أنانية، أي لتحقيق مصالح الأقلية المسلمة فقط، بل لإنقاذ الأمة الأمريكية كلها من أمراض عقدية وخلقية واجتماعية مزمنة، تماما كما أنقذ يوسف الصديق من قبل أمة وثنية من المجاعة.

* ما هي صفات الفرقة الناجية في زماننا هذا حتى تكون مبرئة للذمة أمام الله تعالى؟

** إن أحاديث الفرق الهالكة والفرقة الناجية من الأحاديث التي أثارت جدلا واسعا قديما وحديثا، ودخلت التعصبات المذهبية والطائفية في تأويلها. رغم أن الأحاديث واضحة الدلالة في أن الفرقة الناجية تتعين بالوصف لا بالتعيين. فأغلب روايات الحديث فيها: \"قالوا: من هي يا رسول الله؟! قال: ما أنا عليه وأصحابي\" (صحيح الترمذي)، وبعض رواياته: \" \"قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: هي الجماعة\" (قال الألباني: إسناده حسن لغيره). وفي إحدى رواياته الضعيفة: \"كلهم على الضلالة إلا السواد الأعظم\".

وأنا لا أرى وجها لمحاولة كل من الأشاعرة وأهل الحديث في الماضي احتكار مسمى الفرقة الناجية لأنفسهم، كما لا أرى وجها لمحاولة بعض الجماعات السلفية اليوم احتكار هذه الميزة. فإن أي مسلم بذل جهده لإتباع ما كان عليه النبي- صلى الله عليه- وأصحابه فهو من \"الفرقة الناجية\". وليس من اللازم أن توجد هذه الفرقة في زمان واحد أو مكان واحد. بل قد تكون مجموع أناس عاشوا في قرون مختلفة. كما أن الرواية التي جعلت الفرقة الناجية هي \"الجماعة\" تعطينا الأمل أن أغلب المسلمين داخلون في معنى الفرقة الناجية. وهذا التأويل أحب إلي من التأويلات الطائفية السائدة.

* الديموقراطية تعني سيادة الشعب.. فما مدى مطابقتها لسيادة الإسلام وحكم الله تعالى؟؟

** اعتاد الناس في بلاد الإسلام أن يضعوا حكم الله مقابلا لحكم الشعب، وهذا مصدر اللبس في نظرة العديد من المسلمين إلى الديمقراطية بمنظار أسود. كما أن بعض المسلمين لا يميزون في الديمقراطية ما كان شكلا إجرائيا وما كان مضمونا قيَميا. والحقيقة أن حكم الأمة المسلمة لا يناقض حكم الله - تعالى -، وهذا معنى عصمة الأمة، وهو أيضا المعنى الأصلي للإجماع. فالإجماع الوارد في السنة مفهوم سياسي، قبل أن يتحول إلى مصطلح فقهي بعد ذلك كما بين العلامة علال الفاسي - رحمه الله -.

أما الديمقراطية ففيها ما هو شكل إجرائي، مثل التصويت، وحكم الأغلبية، وتشكيل الأحزاب.. الخ ومنها ما هو قيمي مثل نوع التشريع الذي يتم إقراره في البرلمان. أما الشكل فهو مفيد وهو خبرة بشرية متراكمة. وأما القيم فتختلف من مجتمع لآخر. فقد يصوت البرلمان البريطاني أو الأميركي على قانون يبيح عمل قوم لوط، بينما يصوت البرلمان الإيراني أو السعودي على قانون يحرم لك. وكلا العمليتين تمتا بصيغة ديمقراطية. فنتيجة الديمقراطية في مجتمع مسلم ستأتي بأحكام الإسلام من دون ريب، ونتائجها في مجتمع غير مسلم ستأتي بغير ذلك، ولا يتوقع منها غير ذلك. فالمعركة من أجل الديمقراطية اليوم هي جزء من المعركة من أجل الحياة الإسلامية، والديمقراطية هي الطريق إلى الإسلام، وليست انحرافا عنه. وللتوسع في هذا أرجو مراجعة مقالي على موقع الجزيرة نت بعنوان \"الشرعية قبل الشريعة\" فهو يوضح هذه الفكرة بتفصيل.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply