بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وبعد:
مواصلة للحوار حول ما يثار من اعتراضات وشبهات على هذا المنهج العظيم - منهج السلف الصالح، منهج أهل السنة والجماعة - ومنها وصف الدعوة السلفية بأنها تثير الخلاف والفرقة، وتعيش في جو الصراعات والردود، وأنها بعيدة عن البناء والتوحد، فنقول وبالله التوفيق:
أولاً: يجب التسليم بأن المفارقة لأهل الباطل والرد عليهم أصل من أصول الإسلام، لأن القرآن والسنة مملوءان بالرد على المخالف، والإنكار والتشنيع عليه، بحيث يقطع الواقف على ذلك ببداهة هذا الأمر.
ثانياً: ويجب التسليم كذلك بأن الوحدة والألفة والأخوة والاجتماع أصل آخر عظيم من أصول الإسلام، وثابت من ثوابت منهج وعقيدة أهل السنة والجماعة.
ثالثاً: يجب أن يعلم كذلك أن من أصول أهل السنة والجماعة الأخذ بالأصول كلها والثوابت جميعها، والتوفيق بين الأدلة على وجه يعمل بها كلها، وأن لا يكون شيء منها مهجوراً، وهذا من أعظم الأصول التي أكرم الله بها أهل السنة ووفقهم لها بحيث تستقيم طريقتهم، وتتآلف أصولهم، وتوزن أحكامهم على المخالف بميزان العدل والقوة معاً.
رابعاً: إذا فهم هذا فإنه يجب إعمال أصل المفارقة، والرد على المخالفات، ويجب في نفس الوقت إعمال الأصل الآخر وهو الحرص على الوحدة والائتلاف، ولا يجوز تدمير أحدهما بالآخر، وهذا يحتاج إلى فقه التنزيل من وجوه عديدة منها:
1) الحفاظ على التصور الشامل لكلا الأصلين عند التطبيق والانطلاق منهما معاً حتى لا يطغى أحدهما على الآخر إما بتغليب المفارقة والوحشة من المخالف، أو بتغليب جانب العقل المعيشي وأخلاقية المداهنة والمجاملة على حساب الدين والمبدأ.
2) عند التأمل في هذين الأصلين يظهر في كل أصل منهما عند التزاحم مسائل تندرج في قائمة الأصول التي قد لا تقبل التنازل لحساب المسألة الأصلية الأخرى، وبعضها قد يقبل ويظهر أيضاً في كلا الأصلين مسائل فرعية يمكن أن تتنازل إحداهما للأخرى، وكذلك مسائل الأصول حين تتعارض مع مسائل الفروع فيحتاج المجتهد إلى الموازنة في التعامل مع تزاحم هذه الأصول مع الفروع، ومع بعضها البعض، وتقديم الأهم فالأهم، والأعظم فالأعظم، ولو على حساب فوات ما هو أدنى، لأن هذه هي قاعدة تزاحم المصالح والمفاسد كما بينها المحققون من أمثال العز بن عبد السلام، وابن تيمية، وابن القيم وغيرهم، وليس المراد الإسقاط الدائم والإلغاء التام لهذه الأصول والفروع من قبل بعضها البعض فإن هذا لا يجوز في أصل ولا فرع، وإنما المراد أيهما يقدم في التطبيق عند التزاحم والآخر ينتظر به حتى الوقت المناسب له.
3) ليست هذه الأصول على أهميتها وثباتها أصولاً لا تقبل إلا الصرامة في التنفيذ الجاف في كل حال وفي كل مكانº بل تطبيقها خاضع للقوة والضعف من كلا الجانبين الراد والمردود عليه، والمنكر والمنكر عليه، وحال المخالف من كونه متقبلاً أو معانداً، عالماً أو جاهلاً، مؤدباً أو سفيهاً، قاصداً للحق أو مثيراً للشغب، ينفع معه اللين أو يناسب له التغليظ، وهذا الاختلاف في التنزيل والتطبيق يرجع إلى البصيرة في الدعوة التي أمر الله بها في قوله تعالى: (( قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ))، وهذه البصيرة تشمل الشدة والتشنيع على المخالف في الموقع المناسب كما قال تعالى: (( جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ))، وقال (( وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً))، وفي المقام الآخر (( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ))، وقال تعالى: (( فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ))، وقال في بيان اعتبار حال المخالف (( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ))، فجعل للظالم منهم حكماً ولغير الظالم حكماً آخر، وقال تعالى: (( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعاً عليماً )).
والخلاصة: أن مثل هذه الأمور ترجع إلى أصل عظيم من أصول أهل السنة وهو:
هل يمكن أن يجتمع في الشخص الواحد ما يحب من أجله وما يبغض من أجله، فيحب من جهة ويبغض من جهة، ويوالى من جهة ويعادى من جهة، مع التزام العدل له وعليه؟!!
قال أهل السنة نعم يمكن ذلك، والدليل على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - للذي لعن شارب الخمر بعد أن أقيم عليه الحد: ( لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله )، فجعله محباً لله ورسوله من جهة ما يعرف عنه من محافظته على شعائر الإسلام، ومناصرته للرسول، وحبه له، وولائه لأهل الإسلام، وأقام عليه الحد والتعزير من جهة ارتكابه لتلك المعصية، إذا علم هذا فإنه يقال على هذه الشبهة ليس إثارة الخلاف والفرقة والعيش في جو الصراعات مع المخالف مذموماً دائماً، ولا هو من المعايب بإطلاق، لأنه لو كان كذلك لكان تبني الخلاف من قبل المسلمين مع الكفار مذموماً، وهذا معلوم البطلان بالضرورة، فإن الخلاف معهم مطلوب شرعاً ما داموا على كفرهم، وهو واقع كوناً لا مفر منه ولا يمكن رفعه ولو اجتمع من بين أقطارها، لأن الخلاف معهم فارق ظاهر بين الهداية والضلالة، وبين المهتدين والضالين قال تعالى: (( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ))، فمدحهم لمخالفتهم لأهل الباطل، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (خالفوا المشركين ) وهذا أمر بالمخالفة العامة إلا ما كان من الأمور المشتركة الدنيوية التي ليست من خصائص المخالفين (المشركين)، وجاء في الحديث (ومحمد فرق بين الناس، وفي لفظ فرَّق بين الناس)، وقد قال المشركون عنه أنه أتى بدين يفرق به بين الوالد وولده، وقال تعالى مبيناً أن هذا أمر كوني لا يتصور رفعه: (( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ))، وهذا محمول على المخالفة في الأصول، فيدخل فيه الخلاف مع الكفار، وأهل البدع كل بحسبه.
فإن قيل المراد إثارة الخلاف والفرقة بين المسلمين!! قيل: وإن كان الخلاف بين المسلمين مذموماً في الجملة لكن ليس إثارة الخلاف بين المسلمين مذموماً دائماً، فإن المخالف من المسلمين قد يكون مرتكباً لظلم، أو لفسق، أو لبدعة، أو لمنكر من المنكرات، وقد يكون من المتنفذين المستكبرين الذين تتجمع حولهم عصابات المصالح والمنافع، فالواجب ردعه وزجره، وحشد الناس وتحريضهم عليه، وإثارة الخلاف معه وضده، والأخذ علي يده بالقوة والغلظة، إذا كان لا ينفع معه من الأساليب إلا ذلك حتى يقف عند حده، والتجمعات الحزبية المعاصرة، وغير الحزبية - الشرعية منها، وغير الشرعي - من أصرح الأمثلة على ذلك، إذ لولا مسائل الخلاف التي بينهم والتي لا يمكن أن يتنازلوا لبعضهم بعضاً فيها لما وجدت تلك التجمعات أصلاً، ولكانوا فريقاً واحداً، والواقع أن كل فريق يرى أن من أعظم الوسائل التي تجمع الناس عليه وتقنعهم بأفكاره ورؤاه وسيلة التنفير عن المخالف له، وبيان مزالقه وأخطائه، وأنه يجب عليه شرعاً أن يحذر من تلك الأخطاء احتساباً وابتغاءً لوجه الله، وصيانة للأمة وللبلاد من تلك التجاوزات والأخطاء.
وأيضاً ليس إثارة الخلاف بين المسلمين سمة السلفيين وحدهم، أو الدعوة السلفية وحدها، إذ ما من دعوة ولا فرقة إلا ولها خصائص تميزت بها وفارقت غيرها فيها، وخالفت من أجلها، وهذه فرق المسلمين على البسيطة كلها تصرح بمخالفتها لغيرها، وبمخالفتها لبعضها البعض، فالمعتزلة يخالفون أهل السنة في مسائل، والشيعة يخالفونهم أيضاً في مسائل، ويظهرون مخالفتهم لهم، ويثيرون الخلاف إلى حد اعتباره مصيرياً، وأحسنهم من يريد أن يُعترف به، ويَعترف بالآخرين، وكذلك الحركات الإصلاحية المعاصرة ما منها فرقة ولا حركة إلا ولها ملاحظتها على الأخرى، بحيث يصبح توجيه اللوم على فئة واحدة منها فقط وتحميلها مسؤولية إثارة الخلافات بين المسلمين تعنتاً فكرياً، وظلماً اجتماعياً لا يجوز السكوت عنه.
إذ لا يلتفت إلى هذه الشبهة ولا كرامة، ولكن ينبغي أن يُنصح السلفيون وغير السلفيين عموماً بأن يقدروا المسائل قدرها، ويتحلوا بالعلم الراسخ، والأخلاق الجمة، والأسلوب الحكيم، والرحمة الشاملة، والبعد عن الهوى والعصبية بغير حق، والحرص على حصول الإنكار مع الحفاظ على البناء والتوحد، والاجتماع مع بعضهم ومع غيرهم، ومراعاة المصالح والمفاسد في مسائل الخلاف، وأما الخلاف فلا بد منه، والشدة أحياناً لا غنى عنها، وإن كان الرفق هو الأصل.
والله الموفق والهادي وإلى لقاء آخر،،
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد