بسم الله الرحمن الرحيم
بين الفينة والأخرى يطالعنا بعض مفكرينا الإسلاميين المحسوبين على التيار السلفي ببعض الأطروحات التي تحاول أن تطيح ببعض القناعات، وتكلف المطالعين لها وقتا وجهدا كي يدركون ما يريده الكاتب المحترم.
ثم قد تجد القبول، وقد لا تجد، وعلى إثر هذا الطرح غير المحسوب تنشأ المطاحنات الفكرية على صفحات الشبكة العنكبوتية بين أصحاب المنهج الواحد. فما لهؤلاء القوم؟. وإذا كانت النوايا حسنة، والمقاصد سليمة فلم هذه الأفكار تُلقى على عواهنها قبل أن يتدارسها الكاتب الكريم مع إخوانه من أهل العلم والفكرº فإن صلحت جاء بها فألفت آذاناً صاغيةً، و عقولاً واعيةً، وأقطعُ أنها ستؤتي أكلها كل حين بإذن ربها لأنها كلمة طيبة.
وإن كانت الفكرة لم تختمر، ولم تجد من إخوانك العلماء والمفكرين إشادة ومدحا، فخيرٌ أن لا ترى النور، ولا مسوغ لقول البعض: الأفكار لا بد أن تجد من يبعثها، ولو بعد حين، ثم يُمثّلَ بعلم شيخ الإسلام ابن تيمية، وأنه انتشر بعد موته!!. وهذا كما يقول الأصوليون: قياس مع الفارق، والقياس مع الفارق غير معتبر.
وهذه الظاهرة التي تزعج الغيورين على وحدة الجهود، تحتاج إلى توصيف، يكشف عن مراميها، ويجلّي أمرها، حتى نجد تفسيرا لهذا الطرح الفكري غير المنضبط بسمات المنهج، ومعالم الطريق الحق.
ولعلي أتنبأ في هذا المقال بأمر واحد فقط، وأتمنى من غيري المساهمةَ في البقية الأخرى. وهذا الأمر: هو المعايشة والمخالطة لغير أهل المنهج الحق، والأفكار تسري في النفوس، وتتشربها الأفئدة كقطعة الإسفنج إذا سقطت في ماء كدر. ولا غرابة حين تظهر هذه الأفكار من بعد على شكل مقالات تحمل الغلط، وتثير اللغط.
جاء في سياق حديث القرآن عن المنافقينº قوله - تعالى -: (لَو خَرَجُوا فِيكُم مَا زَادُوكُم إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوضَعُوا خِلَالَكُم يَبغُونَكُمُ الفِتنَةَ وَفِيكُم سَمَّاعُونَ لَهُم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) {الآية(47) من سورة التوبة}. في هذه الآية: أربعة معاني تصور خطر أعداء المنهج الحق، ثلاثة في خصوم هذا المنهج، والرابعة في أتباع المنهج. الأولى: (مَا زَادُوكُم إِلَّا خَبَالًا): والخبال: الفساد، وتفكّك الشيء الملتحم الملتئم، فأُطلق هنا على اضطراب الجيش واختلال نظامه.
الثانية: (وَلَأَوضَعُوا خِلَالَكُم): الايضاع سير الإبل يُقال: أوضعتِ الناقةُ تضع إذا أسرعت وأوضعتها أنا إذا حملتها على الإسراع، والخلال جمع خلل وهو الفرجة استعمل ظرفاً بمعنى بين ومفعول الإيضاع مقدر أي النمائم بقرينة السياق، وفي الكلام استعارة مكنية حيث شبهت النمائم بالركائب في جريانها وانتقالها وأثبت لها الأيضاع على سبيل التخييل، والمعنى ولَسعوا بينكم بالنميمة وإفساد ذات البين.
الثالثة: (يَبغُونَكُمُ الفِتنَةَ): بغيته كذا: طلبته له، وأبغيته كذا: أعنته على طلبه. والمعنى: يطلبون لكم الفتنة في ذات بينكم بما يصنعونه من التحريش والإفسادº وقيل الفتنة هنا الشرك.
الرابعة: (وَفِيكُم سَمَّاعُونَ لَهُم): أي مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير.
وقال مجاهد وزيد بن أسلم وابن جرير: {وَفِيكُم سَمَّـاعُونَ لَهُم} أي عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم، وهذا لا يبقى له اختصاص لخروجهم معهم بل هذا عام في جميع الأحوال والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين.
قال ابن القيم - رحمه الله -: \"... فإذا كان جيل القرآن كان بينهم منافقون، وفيهم سماعون لهم، فما الظن بمن بعدهم، فلا يزال المنافقون في الأرض، ولا يزال في المؤمنين سماعون لهمº لجهلهم بحقيقة أمرهم وعدم معرفتهم بغور كلامهم.. \".
ولعل بعض مفكرينا السلفيين قد أصاخ سمعه للغط هؤلاء حول شريعة الله - تعالى -، فأورثه ذلك شذوذا في طرحه، وقد جاء في ترجمة أبي الوفاء علي ابن عقيل الحنبلي، قوله: \" وكان أصحابنا الحنابلة يريدون مني هجران جماعة من العلماء. وكان ذلك يحرمني علمًا نافعًا!! \".
قال الإمام والعالم الرباني ابن رجب - رحمه الله - كما في الذيل على طبقات الحنابلة معلقا على زعم ابن عقيل السابق: \" والأذية التي ذكرها من أصحابه له، وطلبهم منه هجران جماعة من العلماء، نذكر بعض شرحها. وذلك: أن أصحابنا كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد، وابن التبان شيخَي المعتزلة. وكان يقرأ عليهما في السر علم الكلام، ويظهر منه في بعض الأحيان نوعُ انحرافٍ, عن السنة، وتأوّلٌ لبعض الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات - رحمه الله -\".
وقال ابن رجب - رحمه الله -: \" وكان يخونه قلة بضاعته في الحديث. فلو كان متضلعًا من الحديث والآثار، ومتوسعًا في علومهما لكملت له أدوات الاجتهاد. وكان اجتماعه بأبي بكر الخطيب، ومن كان في وقته من أئمة الحفاظ، كأبي نصر بن ماكولا، والحميدي، وغيرهم أولى وأنفع له من الاجتماع بابن الوليد وابن التبان. وتركه لمجالسة مثل هؤلاء هو الذي حرمه علمًا نافعًا في الحقيقة. ولكن الكمال لله\".
وهذه حقيقة مهمة وهي: أنه بقدر الإقبال على أصحاب الأهواء ومعايشتهم، والإعراض عن العلماء الربانيين، يبتعد المرء مهما كان ذكاؤه - كابن عقيل- عن فقه الكتاب والسنة، ويحرم التوفيق والتسديد. والله - تعالى -أعلم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد