بسم الله الرحمن الرحيم
تأملت في الآيات التي وردت فيها تصاريف لفظة \"كثرة\" في الكتاب العزيز فوجدت عجباًº وجدت كثرة الناس في القرآن في الغالب مذمومة في مثل قوله - تعالى -: {وإن كثيراً من الناس لفاسقون} (المائدة: 49)، وقوله - تعالى -: {وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون} (يونس: 92)، وفي قوله - تعالى -: {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} (يوسف: 38)، وقولـه - تعالى -: {ومـا أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنيـن} (يوسف: 103). وتلقى المسلمون عتاباً من الله - جل وعلا -º لأن كثرتهم أعجبتهم في معركة حنين، وفي هذا تربية لهم ودرساً ألا يتكلوا على الكثرة، وأنها لا تغني عن العبد شيئاً، وليست ذات قيمة عند من أنار الله بصيرته.
وهذا يقودنا إلى التفكير في مسألة توجه الجماهير نحو فكرة معينة أو حماسهم لقضية ما: هل تدل بحد ذاتها على صحة هذه القضية أو سلامة تلك الفكرة أم لا ؟ وهل رفضهم لمبدأ دليل على بطلانه، وقبولهم لرأي عنوان على الحق الذي لا مرية فيه، أم لا ؟
إن النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرهط، وآخر يأتي ومعه الواحد، بل إن من الأنبياء (صلوات الله وسلامه عليهم) من يأتي وليس معه أحد، فهل هذا حجة على بطلان دعوتهم؟ حاشا وكلا.
إن في الكلمة الخالدة \"اعرف الرجال بالحق، ولا تعرف الحق بالرجال\" منهجاً ينبغي على الموفقين السير عليه، فالمبادئ والأصول هي المرجع والحاكم، وليس أهواء الناس وتصرفاتهم ورغباتهم..صحيح أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولكن المقصود من هذا هو إجماع أهل الرأي، وليس العامة.
نحزن عندما نرى الجموع تؤيد الفكرة الباطلة، وتضيق صدورنا عندما نرى الجماهير تتدافع لنصرة الباطل والظلم، وتدافع عن الانحراف، وتقف أحياناً سداً أمام المصلحين، وتهون من شأن المنكرات، وقد يجد اليأس طريقه إلى قلوب أناس ظنوا أن الكثرة معيار لحق أو باطل، ولكننا عندما نتأمل الحديث الذي رواه أبو داود (وهو في صحيح الجامع) عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"يوشك الأمم أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها\" فقال قائل: من قلة نحن يومئذ؟ قال: \"بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن الله في قلوبكم الوهن\" فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: \"حب الدنيا وكراهية الموت\".
ندرك أن الكثرة لم تكن في حس الدعاة قضية، بل إن الاغترار بها قد أورد المهالك في قديم الزمان وحديثه. ولذا فإن الدعاة إلى الله- عز وجل - لا يُسألون: \"كم\" استجاب للدعوة ومشى في ركاب الأنبياء؟ ولكن يسألون عن: \"هل بذلوا الوسع في تبليغ الدعوة؟ وهل اجتهدوا في تقديمها للناس في أبهى حلة أم لا؟
وعندما تستقر هذه الحقيقة يصبح الداعية إلى الله في قمة نشاطه في السراء والضراء، والعسر واليسر، وبذا تعيش النفس في أجواء العلم النافع والعمل الصالح مهما اشتد سواد الليل وطال زمانه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد