بسم الله الرحمن الرحيم
الناس معادن كمعادن الذهب والفضة والحديد، يخالط الإيمان المعادن النفيسة، فيزيدها لمعاناً وصلابة وجمالاً، وتأتي المواقف العصيبة، والكوارث الشديدة، فتكشف عن أصلها الرائع، ومادتها القيمة، وتمر بها الحوادث الجسام فتظهر أريجها الفواح، وعبقها الندي، وعطرها الجميل، وصدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ يقول: \"تجدون الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا\".
فإذا جد الجد، وعزم الأمر، وتلبدت الأجواء، واكفهرت الأيام، تمايزت معادن الناس، وظهر بريق هذا، وخبا لمعان ذاك، وتباينت المواقف، فظهرت رجولات صلبة، وعزائم شامخة، وهامات سامقة، وتوارت رسوم وهياكل لأناس تعجبك أجسامهم، وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى\" يؤفكون (4) (المنافقون)، وانحدار هذا الصنف يكون لعنة على أمته وزمانه، والمعادن والجواهر الكريمة لها زاد تتغذى عليه، ولها وقود تضاء به، حرص القرآن الكريم والسنة المطهرة على تقديمه للمسلم حتى يظل متوهجاً مضيئاً، وصلباً كريماً، ومفكراً نجيباً.
وأول هذا الزاد: الصبر الجميل الصادق، الذي يوفي بالعهود، ويقف كالطود الراسخ أمام الحوادث، وقد عناه ربنا - سبحانه - في قوله: \"والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون\" 177 (البقرة).
والصبر قيمة وزاد، وقوة وعطاء عرفه العلماء بتعريفات عدة كلها تحمل هذه المعاني، فقال المناوي: \"الصبر: قوة مقاومة الأهوال والآلام الحسية والعقلية\".
وقال الراغب: \"الصبر: حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع\". (1)
وقد يطلق الصبر على مسميات عدة بحسب وروده في الأحوال: فإن كان حبس النفس لمصيبة، سمي صبراً، وإن كان في محاربة، سمي شجاعة، وإن كان في إمساك الكلام سمي كتماناً، وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً وإن كان عن شهوة الفرج سمي عفة\". (2) هذا، وقد ذكر الله - سبحانه - الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعاً، وقرنه بالصلاة في قوله - تعالى -: \"واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين\" 45 (البقرة). وجعل الإمامة والريادة موروثة عن الصبر واليقين فقال - تعالى -: \"وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون\" 24 (السجدة).
وسئل الشافعي - رضي الله عنه - فقال: \"يا أبا عبد الله أيهما أفضل للرجل، أن يمكَّن فيشكر الله - عز وجل -، أو يبتلى بالشر فيصبر\"؟ فقال الشافعي: لا يمكَّن حتى يبتلى، فإن الله - تعالى -ابتلى نوحاً وإبراهيم ومحمداً صلوات الله عليهم أجمعين، فلما صبروا مكَّنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة\". (3) هذا، وقد أبان القرآن الكريم أن في الصبر الخير الكثير..من ذلك:
1. أنه دلالة استحقاق رضاء الله ودخول جنته، وعلامة على صدق الإيمان، قال - تعالى -: \"أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين\" 142 (آل عمران).
\"والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار\" 22 (الرعد).
2. اختبار وامتحان ليميز الله به الخبيث من الطيب: \"لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور\" 186 (آل عمران).
\"ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين\" 155 (البقرة).
قد يكون الاختبار حصاراً اقتصادياً، وقد يكون حصاراً حربياً، في كل ذلك جوع وخوف ونقص في المال، وفتنة للناس وتأليب لهم على المصلحين، ولكن الصبر هو النجاة.. الصبر والعمل، والكفاح والتعب في وسط هذه الأجواء الصعبة، هو الخلاص.
3. التغلب على كيد الأعداء، بصبر الكفاح والجهاد والعمل قال - تعالى -: \"إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط\" 120 (آل عمران: 120).
فالقلوب الحاقدة، والتدبير السيء، لا يثبت أمام صبر الرجال وكفاحهم، نعم ستكون جراح وضحايا، ولكنهم يألمون كما نألم، ويخسرون كما نخسر، ولكننا سنربح ولا يربحون، ونفوز ولا يفوزون، وصبر الإيمان لا يحد، وجهاد أصحاب العقائد لا ينكسر، وهذا هو الطريق الذي لا بديل عنه، والذي سار فيه العاملون المخلصون فانتصروا: \"ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين\" 34 (الأنعام)، \"فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل\" (الأحقاف: 35).
والأمة اليوم تحتاج في تلك الأزمة الشرسة إلى الثبات والصبر الصادق الذي يزلزل الأعداء ويقوي السواعد، ويشد العزائم، ولئن كان المسلم مستباحاً اليوم أمام ترسانة الأسلحة المهولة التي لا قبل له بها، فإن كفاح الصابرين وثبات المجاهدين قد هزَّ كيان الباغي وعصف باستقراره، فصار يهزي ولا يعقل، ويضرب ولا يعي، ويقصف ولا يفكر، كأنه ملتاث أو مجنون، وإن أمة تفتقد إلى كل شيء، وضيعت كل شيء، يخرج منها اليوم قلة من المجاهدين الصامدين لا يهابون ولا يكترثون بهذا العدوان هنا وهناك، ويستطيعون تغيير سياسات دول كبرى، وتبديل مخططات وتوجهات قوى عالمية ويخوضون أعتى الأزمات في ظروف غاية في الصعوبة بكفاءة أربكت كل الأعداء، وكل الحسابات، لهي أمة واعدة إن صبرت وصابرت وائتمرت بأمر ربها، فاصبروا حتى\" يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين 87 (الأعراف) صدق الله العظيم.
___________________________
الهوامش
(1) مفردات الراغب، ص 527.
(2) بصائر ذوي التمييز 3-383.
(3) الفوائد لابن القيم، بتصرف.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد