بسم الله الرحمن الرحيم
ما زال موضوع دخول الإسلاميين من علماء ودعاة ومفكرين في معترك السياسة محل أخذ ورد أو تردد من قبل كثير من الباحثين أو المتحاورين.
سواء كان هذا المعترك انتخاباً أو وظائف عليا في مجال التنظيم (التشريع) أو التنفيذ أو القضاء.
والتردد في العمل السياسي قديم، ولا سيما في تولي القضاء، ولكن ذلك التردد ليس بين الحل والحرمة، ولكن بين الجواز والكراهة من منطلق الورع.
وأساس هذا الورع ـ فيما يبدو ـ أمران:
الأول: خطورة المنصب (القضاء) ذاته.
الثاني: أن ولاية القضاء متفرعة من الإمامة الكبرى التي كان يتعاقبها خلفاء متفاوتون في العدالةº إلا أن الغالب عليهم الفسوق بعد الخلافة الراشدة، الأمر الذي جعل كثيراً من أهل العلم والورع يزهدون في كل منصب يرتبط بأولئك الخلفاء حذراً وخوفاً من إقرارهم على ظلمهم، أو لأن الرزق الذي يأتيهم عن طريق أولئك ليس حلالاً صرفاً في ظنهم.
بيد أن عدداً لا يستهان به من أهل العلم والفضل لم يترددوا في تولي تلك الولايات تغليباً للمصلحة.
وإذا ما انتقلنا إلى واقعنا المعاصرº سيبدو لنا واقع مختلف عن واقع العصور الإسلامية السابقة، ويتجلى هذا الواقع بطغيان العلمانية على مسرح الحياة بحيث اختلفت النظرة والتعامل مع الدين الإسلامي، فبعد أن كان الدين له الهيمنة الكاملة أو شبه الكاملة على تصرفات الأفراد والمجتمع، أصبح لا يكاد يتجاوز تصرفات الأفراد، إذا ما استثنينا بعض المجتمعات المسلمة، كمجتمع شبه الجزيرة العربية، هذا مع الاختلاف النسبي بين تلك المجتمعات أو الدول من حيث التزامها بالتشريع الإسلامي، أو عدم الالتزام.
وعلى رغم أن العلمنة (فصل الدين عن الحياة) منهج غريب على الأمة المسلمة، إلا أنه شاع فكراً وتطبيقاً، حتى أصبح الالتزام بتطبيق الشريعة أو الدعوة إلى التطبيق سبة أو تهمة تلصق بأهل الإسلام، وشارك في الترويج لهذه الفكرة جملة من مثقفي المسلمين.
من هنا اختلفت نظرة كثير من الإسلاميين نحو هذا الواقع المضطرب، وتكييفه، من ناظر إلى هذه المجتمعات بمؤسساتها وأفرادها على أنها انحرفت عن سبيل الهدى، وأن التصحيح لابد أن يكون جذرياً عن طريق التغيير السياسي، ثم هل يكون ذلك بالانقلاب مثلاً، أو بالمنافسة الحادة في العمل السياسي؟
أو يكون بإحداث الشغب وبث الرعب في قلوب الساسة وأعوانهم؟
وقد يكون في بعض هؤلاء من استولى عليه اليأس من صلاح الأمة وعودتها إلى طريق الحق، فآثر العزلة الفكرية، أو شارك بفكر سلبي، لبوسه اليأس والوهن.
ومن ناظر إلى هذه المجتمعات على أنها مازالت على سبيل الرشد والاستقامة، سواء في ذلك سلوك الأفراد أو المؤسسات والدول، فانبرى يصحح الواقع ويبرره، ويدين كل دعوة أو خطوة يقوم بها دعاة الإصلاح، وربما أصدر أحكاماً صارمة لا هوادة فيها، تحت ذريعة (الابتداع، أو الشذوذ، أو الخروج) ولم يفرق هؤلاء بين دولة ودولة، أو مجتمع وآخر، ولعل أقسى السيوف التي رفعت في وجه بعض الدعاة سيف (التكفير والتبديع)º فاضطربت الأقوال والأحكام، وضاع الحق بين ذلك.
ومن ناظر إلى هذه المجتمعات بأنها أرض خصبة صالحة للدعوة والإصلاح، مع ما فيها من الوهن، لكن كيف السعي إلى إصلاحها؟
قد يرى بعضهم أن الإصلاح يكون بالتربية وبث الوعي، وقد يرى آخرون أنه يكون بالمشاركة السياسية، وهكذا...
لذا لا نستغرب إذا ما اختلفت رؤية أهل العلم والفكر، أو مواقفهم نحو المشاركة في الانتخابات البرلمانية.
وقد يصعب على الباحث تحديد كل رؤية أو موقف على وجه الدقة، مع معرفة الأدلة بالتفصيل.
تلك مقدمة لابد منها قبل الدخول في الموضوع (مشاركة الإسلاميين في الانتخابات البرلمانية).
وموضوعنا كما يبدو له شقان:
الأول: حكم المشاركة في الانتخابات.
الثاني: حكم الانتخابات.
ولا يتصور الجواب عن الشق الأول إلا بعد تصور الشق الثاني، الأمر الذي يفرض تقديم الحديث عن الأخير قبل الأول.
والحديث عن الموضوع برمته يتطلب تقديم قواعد تمهيدية قد تكون من عوامل تقريب الموضوع إلى الذهن والخروج به من كثير من مواطن الاشتباه، أو مفترقات الطرقات.
وأهم هذه القواعد:
القاعدة الأولى: الإسلام كلُّ لا يتجزأ، وأحكامه سلسلة متصل بعضها ببعض.
فالعبادات والمعاملات متداخلة، ويصعب الفصل بينها، وجذورها متصلة بالعقائد والأخلاق، وذلك مما لا شك فيه.
القاعدة الثانية: أن الولايات العامةº كالإمامة الكبرى، والقضاء، والوزارة، والإمارة، والحسبة، وما إليها، كلها ذات طابع ديني، أي أنها شرعيةº حتى وإن كانت لتنظيم شؤون الحياة الدنيا، كالمواصلات، والاتصالات والصحة والطاقة... وغيرها.
ولهذا قال العلماء في تعريف الخلافة أو الإمامة: إنها \" موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا\" [الأحكام السلطانية للماوردي ص 5]
ويقول الإمام ابن تيمية: \"يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدينº بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها... فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات\" [مجموع الفتاوى 28/390].
القاعدة الثالثة: انتقال الولايات إلى غير الأمناء لا يسلبها الشرعية، وذلك أن (الشرعية) صفة ملازمة لتلك الولايات، فالقضاء مثلاً هو ولاية شرعية جليلة، فإذا كان قد تحول في بعض البلدان الإسلامية إلى قضاء قانوني صرف، وتولاها علماء القانون دون أهل الشريعة، فهذا الوضع لا يغير من أهمية القضاء وشرعيته شيئاً.
وواجب على المسلم الذي يتولى هذا المنصب أن يعدل فيه ويحكم وفق الشرع المطهر، ولا يجوز له أن يتخلى عن هذا المنصب إذا كان باستطاعته أن يحكم بالتنزيل.
القاعدة الرابعة: أن العلماء مسئولون عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، مسلمهم وكافرهم، وعن المجتمع المسلم بوجه خاص، سواء من حيث أفراده، أو من حيث مؤسساته.
وأساس هذه المسؤولية، هو وجوب التبليغ عليهمº فهم أمناء الرسل، ونوابهم في تبليغ الرسالات، (وَإِذ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِم وَاشتَرَوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَبِئسَ مَا يَشتَرُونَ)[آل عمران: 187].
وفي الحديث: (ليبلغ الشاهد الغائب) متفق عليه، وهذه مهمة شريفة وشاقة إلا على الربانيين منهم، قال - سبحانه -: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ, أَن يُؤتِيَهُ اللَّهُ الكِتَابَ وَالحُكمَ وَالنٌّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُم تُعَلِّمُونَ الكِتَابَ وَبِمَا كُنتُم تَدرُسُونَ)[آل عمران: 79].
يقول الإمام الطبري مبيناً حقيقة الرباني: \"فالربانيون إذاً هم عماد الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا، ولذلك قال مجاهد: وهم فوق الأحبار، لأن الأحبار هم العلماء، والرباني الجامع إلى العلم والفقه البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية وما يصلحهم في دنياهم ودينهم\"º (ويراجع تفسيره للآية ففيه كلام نفيس).
كما أن الحكام والقائمين على مصالح الدنيا مسئولون أيضاً، وفي البخاري عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: \" كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته قال: وحسبت أن قد قال: والرجل راع في مال أبيه ومسئول عن رعيته وكلكم راع ومسئول عن رعيته\".
القاعدة الخامسة: إن الأحكام الشرعية نوعان في الجملة:
الأول: الأحكام المفصلة، وهي التي جاء بها الشارع مفصلة ومبينةº كالتوحيد أو العقيدة، والعبادات، والفرائض، وأحكام الأسرةº كالنكاح والطلاق والنفقات والحضانة، وكالحدود والقصاص والديات.
الثاني: الأحكام المجملة، وهي التي جاء الشارع بها بطريقة الإجمال، كالمعاملات المالية، والتنظيمات الاجتماعية مثل السياسة والإدارة والتعليم ومثل العقوبات التعزيرية.
أما النوع الأولº فهو من الثوابت التي لا تتغير، سواء ثبت بالنص، أو بالإجماع، ولا فرق في ذلك بين ما هو قطعي، أو ظني، والخلاف في بعض جزئياتها ـ وهو موجود قطعاً ـ محدود، ولا ضير فيه ما لم يؤد إلى النزاع والشقاق.
وأما النوع الثانيº فهو مما يقبل التغير والتطور بحسب الأحوال والظروف المكانية والزمانية، ما لم يكن في ذلك تجاوز للقواعد والأصول المقررة فيها.
فالشركات ـ على سبيل المثال ـ هي نموذج لتغير الشكل والصورة عن نظام الشركات المعروف عند الفقهاء المتقدمين.
فإذا كانت متفقة مع أصول المعاملات الشرعيةº فهي صحيحة وإن ظهرت باسم آخر، أو قالب آخر، أو جمعت بين عدد من الشركات المعروفة فقهياً.
القاعدة السادسة: إن النظام السياسي في الإسلام منه المجمل ومنه المفصل، وإن كان الأول هو الغالب.
ومن المفصلº الحقوق المشروعة لكل من الراعي والرعية، والواجبات على كل منهما.
ومنه أيضاً: موضوع الحكم، وهو ما يحكم به الحاكم سواء كان إماماً، أو قاضياً أو أميراً أو وزيراً أو غيرهم.
قال الحق - تعالى -: (وَأَنِ احكُم بَينَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِع أَهوَاءَهُم وَاحذَرهُم أَن يَفتِنُوكَ عَن بَعضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيكَ) [المائدة: 49]، وقال: (ثُمَّ جَعَلنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ, مِنَ الأَمرِ فَاتَّبِعهَا وَلَا تَتَّبِع أَهوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعلَمُونَ) [الجاثية: 18]º فالوحي إذاً هو موضوع الحكم، ولا يتنافى مع ذلك وجود قوانين (أنظمة) إجرائية وتنظيمية، وإذا رتبت هذه الأحكام الشرعية في أبواب وموضوعات معينة فلا ضير في ذلك.
أما الجانب المجمل في النظام السياسي ـ وهو الكثير ـº فهو عموم الإجراءات التنظيمية، وأساليب التنفيذ، مما يعد تفسيراً وتفصيلاً لقواعده، كالشورى، والبيعة، والنصيحة، والعدل، والرفق، والوفاء بالعهود.
يستوي في ذلك ما ينظم شؤون الحياة داخل بلاد الإسلام، وما ينظم العلاقات الخارجية. \"وعلى هذا فالتعاليم المنظمة لشؤون المجتمع في كل مجالات السياسة والاقتصاد والدفاع والثقافة والتعليم والمجالات المشابهة هي تعاليم مرنة تقبل تطور الأسلوب التنفيذي لها، فهي وإن كانت ذات هدف واضح ثابت لا يتغير ولا يتبدل، إلا أن طريق تحقيق هذا الهدف ترك مرناً قابلاً للتغيير والتبديل في ضوء ظروف كل مجتمع وزمان\" [الدولة وسياسة الحكم في الفقه الإسلامي ـ للدكتور أحمد الحصري 1/91].
القاعدة السابعة: أن جملة التراتيب (التنظيمات) الإدارية اجتهادية، وليست توقيفية.
وآية ذلك أن التراتيب لم تكن تجري على وتيرة واحدةº بل كانت متغيرة من زمان إلى زمان، بل من دولة إلى أخرى، فالتراتيب في عهد الخلفاء الراشدين كانت غيرها في عهد النبوة، وغيرها في العهد الأموي، ثم العهد العباسي... وهكذا.
ومعروف أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - هو أول من دون الدواوين، وأنه عدل عن أحكام في عدد من القضايا كان أبو بكر - رضي الله عنه - يراها.
وعلى هذا فسوابق تراتيب الدولة الإسلامية يؤخذ منها ما يناسب العصر وتقتضيه المصلحة، ومالا يناسب يعدل عنه إلى غيره من تراتيب أخرى.
هذه في نظري من أهم القواعد التي ينطلق منها حوارنا في موضوع الانتخابات والمشاركة فيها ـ صغتها بأسلوبي الخاص ـ وهي في زعمي محل اتفاق لدى أهل النظر والاهتمام بالنظم الإسلامية.
فإذا تقررت هذه القواعد نأتي إلى الموضوع نفسه متسائلين أولاً: هل أسلوب الانتخابات ثم المشاركة فيه يمكن أن يعد ترتيباً من الترتيبات أو التنظيمات الإدارية؟
وبصيغة أخرى: هل تولي الولايات العامة من الإمامة والقضاء وعضوية مجالس الشورى أو البرلمانات له أسلوب محدد لا يتغير؟ وما هو؟
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد