أضواء على المصطلح


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الإدراك العميق لدلادلات بعض المفاهيم والمصطلحات أولا، ثم الاتفاق على حدٍ, أدنى من معاني تلك المصطلحات، يمهد السبيل لحوار فعال ومنتج حول الكثير من الأفكار والطروحات ذات العلاقة بتلك المصطلحات. من هنا تأتي هذه الزاوية لتساهم في تسليط أضواء توضيحية على كثير من المصطلحات والمفاهيم المستخدمة في عالم الفكر والحركة اليوم.. وخاصة منها تلك التي ترد في أدبيات مركزنا هذا وإصداراته، لا بهدف تحديد التعريف الجامع المانع، فليس هذا موقع ذلك التحديد الذي يحتاج الوصول إليه جهدا علميا جماعيا متكامل الاختصاصات، وإنما الهدف أن يكون حوارنا في هذه المصطلحات المدخل الصحي إلى ما سواه من الطروحات والأفكار. مع الإشارة إلى أن بعض هذه الإشارات ستُطرح بمنهج مقارن يُلمِحُ إلى الفارق في تعريف المصطلح بين حضارتين: الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية.

 

الدين:

 الدين في تعريف الحضارة الغربية اليوم هو رافد من روافد الثقافة البشرية العامة، يعتمد الغيبية والدوغماتية في تأكيد وظيفته القيمية بين الناس، وهو لذلك قليل التأثير والدور في عصر الحرية والعلم الذي لا يملك فيه أحد حق ادعاء المرجعية لتحديد القيم.

 

أما الدين في الحضارة الإسلامية فإنه الإطار المعرفي المرجعي الحاكم للوجود الإنساني على الأرض بجميع خصائصه ومكوناته، ولجميع فعاليات ذلك الإنسان ونشاطاته.

 

وتكمن المفارقة بين التعريفين، والتي تسبب العديد من الإشكاليات، في النظر إلى قيمة الدين المرجعية وإلى موقعه في حركة الإنسان وحياته على هذه الأرض. فالدين يُنظر إليه من وجهة النظر الغالبة على المنظومة الغربية على أنه ملحق بالأساطير والخرافات وفي أحسن الأحوال بالتقاليد والعادات الفولكلورية الشعبية، وهو لذلك بعيد عن (العلمية) و (العقلانية) ولا يمكن السماح له بأن يحكم نمط النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.. وأقصى ما يستحقه لمن يرغب من الأفراد هو أن يحكم جانبا من حياته الخاصة على الصعيد الأخلاقي البحت.

 

في حين يُعتبر الدين في أصوله وثوابته من وجهة النظر الإسلامية المصدر الأول والأساس لكل فعاليات الحياة البشرية على الأرض. ويسري ذلك على الجماعات والأفراد كما يسري على جميع جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية والثقافية..

 

من هنا، يختلف مدلول المصطلح تماما بين التعريفين. ويصبح ضروريا التفريق بين استعمال المصطلح في الكتابات الغربية أو بعض الكتابات العربية التي تستلهم التعريف الغربي وتقتطعه من سياقه الثقافي والتاريخي الخاص ثم توظفه بذلك المنطق في أدبياتها الخاصة، وبين المدلول المرجعي والقيمي الذي يصاحب استعماله في المفهوم الإسلامي الأصيل.

 

العلم:

العلم في تعريف الحضارة الغربية هو كل ما توصل إليه الإنسان بعقله وجهده من معرفة وخبرةومن قدرة نظرية وعملية على تسخير الطبيعة من حوله للوصول إلى أهدافه وغاياته.

 

أما في تعريف الحضارة الإسلامية فالعلم هو فرع قابل للصواب والخطأ عن علم الله الشامل الكامل المنزه عن الخطأ بالسنن والقوانين الناظمة للوجود الكوني الطبيعي وللوجود البشري على حد سواء.

 

وتتأتى الإشكالية في الفارق بين التعريفين أولا من حيث الافتراض في وجهة النظر الغربية بحتمية صحة النتائج التي يصل إليها ذلك العلم البشري رغم النقص والقصور الذين يتصف بهما صاحب ذلك العلم وهو الإنسان، وهو مابدأ بعض أهل العلم حتى في الغرب بالاعتراف به والإعلان عنه، رغم إصرار ومكابرة الكثيرين من أهلنا في المشرق على رفض تلك الحقيقة.. وثانيا في الافتراض بِسَرَيَانِ قوانين البحث والتجريب العلمي - التي أصابت شيئا من النجاح في ميادين المادة والعلوم الطبيعية - على العلوم الاجتماعية التي موضوعها الإنسانُ نفسه، وتجاوُزِ أثر حيوية الروح والعواطف والانفعالات والعقائد والغيبيات وغيرها من مكونات النفس البشرية في النتائج التي تخلُصُ إليها تلك الدراسات، بل ومحاولتها تحديد قوانينَ صلبة وحتمية تُفسر وتحدد أشكال وأقنية الوجود البشري أفراداً ومجتمعات، واضعةً لها المقاييس والمعايير ومنطلقةً في ذلك من تجربتها التاريخية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية الخاصة، بشكلٍ, يتجاوز إلى حد كبير المفهوم الإسلامي للسنن والقوانين التي وضعها الخالق - سبحانه - لتحكم حياة البشر.

 

وأخيرًا، تتمثل الإشكالية في استخدام مصطلح العلم والعلمية والإشارة إليه في بعض الأحيان بشكل مُبالغٍ, فيه بغرض تأكيد الحسم والجزم والقطع النهائي لكثير من الأفكار والطروحات دون اعتبارٍ, لعوامل النسبية والخطأ والقصور التي يغلب وجودها على الدوام.

 

والذي ينبغي الانتباه إليه في هذا المجال هو التفريق بين العلم بِكونِهِ إحاطةً دقيقةً وكاملةً بِكُنهِ الأشياء وذاتها لا تقبل الخطأ أو التجريب أو الاحتمال، وهذا هو العلم الإلهي المنيثق عن كونه خالق وموجد تلك الأشياء، سواء كانت ظاهرةً محسوسةً مثل الجماد والنبات والإنسان أو كانت قوانينَ وسنناً تحكُمُ وجود وحركة تلك المخلوقات. أما العلم الإنساني فإنما هو - مهما بلَغ - فرعٌ عن علم الله - سبحانه - ذاك، وهو محكومٌ بنقص الإنسان وقصوره وحدود إمكاناته، كما أنه قابل على الدوام للتقلب بين الخطأ والصواب وخاضع باستمرار للتجربة والنسبية.

 

وتفاديا من الوقوع في فخ (فكر المقابلات) الذي يمكن أن يَفهم في التحليل السابق انتقاصاً من قيمة العلم البشري وإنجازاته الإنسانية الضخمة، ودعوة للانصراف الكامل عنه، والرضى بالواقع الحضاري المتخلف لأمتنا، فإن من الواجب التأكيد أن ذلك الفهم المتوازن لدلالة مصطلح العلم، والذي يستصحب نسبيته وقصوره المتعلق بالقصور البشري والناتج عنه – ولا يدعي أحد أنه قصور كامن في ذات العلم - أن ذلك الفهم إنما يحفظ معطيات العلم في توجهاتٍ, تحقق الخير للإنسان، فتفرز الخير والحق والعدل والجمال دون أن يكون ممزوجاً بالفساد والشر والدمار والظلم والعدوان.كما أنها تفتح المجال واسعاً أمام حضارةٍ, عالميةٍ, تنبثق من تجارب وخبرات الشعوب جميعا، بدل أن تكون إفرازاً يحملُ فقط ملامح خصوصيةٍ, تاريخية معينة وتجربةٍ, ثقافية خاصة..

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply