الإسلاميون بين دولة ضائعة وفرصة سانحة ( 2 ـ 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحركات الإسلامية وسيلة تجديدية، أفرزها المجتمع المسلم للمرة الأولى لمواجهة الظرف الطارئ، والذي مرت به الأمة أيضاً للمرة الأولى في تاريخها عندما طُويت مظلة الخلافة الإسلامية، وصارت معظم البلاد الإسلامية تُحكم بغير الإسلام، وانطلقت هذه الحركات في مدة تربو على سبعين عاماً، تنافح من أجل إعادة الخلافة، وكانت النتيجة أن الأمل في تحقق هذا الهدف السامي تلاشى تدريجياً، حتى يمكن القول بأن دولة الخلافة ضاعت مرات، كانت الأولى في تركيا منذ أكثر من سبعة عقود، ثم فقدت الحركة الإسلامية عبر تاريخها الطويل فرصاً نادرة ـ في أكثر من بلد ـ لإعادتها من جديد، وإن كانت الحركة قد اقتربت من تحقيق الهدف حلماً وواقعاً قبل عهود الاستقلال، ثم اقتربت منه حلماً وفارقته واقعاً في السبعينياتº فقد فارقته حلماً وواقعاً في نهاية القرن الميلادي العشرين، ولمدة لا يعلمها إلا الله.

 

وقد عايشت فترة السبعين عاماً التي هي عمر الحركة الإسلامية أحداث جسام مرت بها الأمة، ويمكن خلالها أن نلحظ دورتين تاريخيتين للعمل الإسلامي، بدأت الأولى في إثر سقوط الخلافة، وتحديداً عندما أسَّس الشيخ حسن البنا جمعية «الإخوان المسلمون»، وانتهت عندما غلب المد القومي إبان فترة الاستقلال، وتسلق على أكتاف الإسلاميين في دول مثل: مصر وسوريا وتونس والجزائر. وبدأت الثانية في حقبة السبعينيات عندما اكتسح المد الإسلامي الشعبي فلول القومية والناصرية، وانتهت في السنوات الأخيرة بالكيفية التي ذُكرت في المقال السابق، وإن كانت قـد انتهـت مبكـراً عـن ذلك ـ الثمانينيات ـ في بعض البلدان مثل سوريا.

 

والتعرض لهاتين الدورتين بالدراسة والتحليل مطلب لا تراجع عنه، فإضافة إلى أن التاريخ يعيد نفسهº فالحركة الإسلامية تعيد إنتاج أخطائها بصورة متجددة، وتهمل قراءة واقعها المعاصر على ضوء تجاربها الماضية، وفي هذا المقام لا يسعنا أن نستوعب سرد وتحليل وتقويم التجربة الإسلامية في دورتيها، ولكن حسبنا أن نقتطف أهم الخبرات التي نحتاج إليها في موضوعنا موزعة على كلتا الدورتين، ونبدأ بأولاهما:

 

■ الدورة التاريخية الأولى من العمل الإسلامي:

مرت الحركة الإسلامية في هذه الدورة، وتحديداً في مصر، بثلاثة مراحل: النشأة والتكوين، ثم التوسع والانتشار، ثم ما قبل التمكين. وقدمت الحركة في هذه الفترة تجـربة ثرية لا تزال أدبيات العمل الإسلامي تتعيش عليها إلى يومنا هذا، ونسلط الضوء هنا على بعض الإشكاليات وجوانب القصور التي رافقت الحركة الإسلامية في مراحلها الثلاث ـ ونؤكد هنا أن ذلك طرح اجتهادي يحتمل الصواب والخطأ ـ:

 

- إشكالية الفكر والحركة هي أول ما يعرض لنا في هذه الفترة، والوضعية المثالية تقتضي أن يكون للفكر دوماً بادرة السبق على الحركة، كما تقتضي التوازن بينهما، فلا يتسع الفكر ليجول في سياحات نظرية، ولا ينطلق العمل بلا رؤية ضابطة وموجهة، وعندما ينشأ بينهما فراغ زمني يحدث الخلل، فلا يمكن للعمل الإسلامي أن ينطلق برشد دون إطار فكري واضح ينشط خلاله. واختل التوازن بين الفكر والحركة في هذه المرحلة التاريخيةº لأن العمل الإسلامي وقتها كان على غير مثال سابق، وهذا يعني أن رصيد التجربة السابقة يساوي صفراً، ولا أحد يتحمل المسؤولية هنا لأن ذلك من لوازم السبق، وأيضاً فقد اتسع نطاق العمل محققاً طفرات لم يستطع الإطار الفكري التمدد لاستيعابها بسرعة كافية، وأصبح هناك تفاوت بين المنهج الحركي الدعوي الذي ينظم الجماعة من الداخل، والمنهج الفكري الذي يقودها ويوجهها من الخارج، وظهرت دلائل ذلك في ضعف القدرة على استغلال الإمكانات المتاحة لتحقيق الأهداف المطلوبة، وهو ما أدى في النهـاية إلى تـسلق القـوميين ـ الأضعف ـ على أكتاف الإسلاميين ـ الأقوى ـ.

 

- يدفع حسنُ الظن الإسلاميين إلى الثقة بشخصيات أو جهات علمانية أو ذات تاريخ مشبوه أو غامضº دون تمحيص أو تدقيق لحيثيات مختلفة في كل مرحلة تاريخية، وقد ظل أشخاص مثل عبد الناصر وخالد محي الدين ـ زعيم حزب التجمع الشيوعي في مصر ـ منتظمين كأعضاء محوريين في التنظيم الخاص للحركة لأكثر من ثلاث سنواتº في الوقت نفسه الذي كانوا فيه أعضاء في ـ حدتو ـ أبرز المنظمات الشيوعية وقتها، وغيرها من الجهات المشبوهة.

 

- تنشأ كثير من السلبيات مع نشأة أي حركة، ولكن عند إهمال المعالجة حتى تصل الحركة إلى مستوى متقدم من النمو والانتشارº يصبح تدارك الخلل بالغ الصعوبةº لأنه نما وتداخل مع نسيج العمل، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك عدم توفر طاقات بشرية ذات كفاية قادرة على ملاحقة النمو السريع للحركة في ذلك الوقت، فتولى غير القادر ما لا يقدر عليه، وتولى القادر ما يتجاوز حدود مقدرته كماً أو كيفاً.

 

- تميزت هذه الفترة بعدة أمور ينبغي اختزانها في الذاكرة لمقارنتها تلقائياً بما يقابلها في الدورة التاليةº حيث يضيق المقام عن التفصيل فيها، وهي: تفرد حركة واحدة بالعمل ـ القيادة آسرة ومتفردة ذات جماهيرية داخــل الحركة وخارجها، ولا توجد رؤية واضحة لقيادات بديلة ـº لأن البداية كانت واضحة ومحددةº فقد أثمرت واقعاً أكثر انضباطاً وانتظاماً وأقلَّ أخطاء وتجاوزات ـ في مرحلة الانتشار الأولى كان رد الفعل من قِبَل الرافضين هو الغفلة وعدم الاكتراث، وعندما تجاوزت الحركة الخطوط الحمراء تمثل رد الفعل في التضييق ثم التصفية ـ ارتباط حدة المواجهة باقتحام الحركة للعمل السياسي ثم الجهادي في حرب 1948م بفلسطين.

 

■ الدورة التاريخية الثانية من العمل الإسلامي:

قبل التعرض للخبرات المستقاة من هذه الدورةº نحتاج إلى بلورة منهجية لعملية تقويم الحركات الإسلامية نظراً لقرب عهدها، ولكونها أكثر إثارة للجدل وتفاوت وجهات النظرº مما يجعل التعرض للتقويم مطلباً صعب التنفيذ والإرضاء، ولا يُتخيل أن يحظى تصور في هذا المجال بمطلق التأييد أو حتى غالبيته.

 

فالحركات الإسلامية إضافة لكونها جاءت على غير مثال سابقº فإنها تخوض في مجال اجتهاد رحب لا يحده إلا قليل من الثوابت الشرعية، تختلف بدورها من تيار إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى داخل التيار الواحد، وبعض هذه الثوابت قابل للنظر الاجتهادي، أيضاً فهذه الحركات الإسلامية تمارس عملاً طويل الأجل لا يعلم إلا الله متى تتحقق أهدافه، وقد لا يؤتي ثماره إلا بعد عشرات السنين.

 

لهذا كله نقول إن التعرض لتقويم مسيرة الحركات الإسلامية يتطلب استخدام أطر فكرية واسعة ومرنة، ترتكز على عنصرين رئيسين:

 

- الثوابت الشرعية المتفق عليها.

 

- التجربة أو النتاج النظري والعملي التاريخي للحركة الإسلامية.

 

ونتناول في هذا المقال البعد التاريخي في التقويم، وقد تناولنا هذا البعد في المقال السباق باعتبار: قدرة الحركات الإسلامية على تحقيق أهدافها المعلنة في فترة زمنية نحسبها كافية لذلك، أو بعبارة أخرى مستوى التطابق بين ما تهدف إليه الحركة وما حققته بالفعل، وقد خلصنا إلى أن أغلبها قصر عن تحقيق أهدافه في فترة زمنية متوسطها 30 عاماً، وهو ما دفع إلى القول بانتهاء دورة تاريخية كاملة للعمل الإسلامي.

 

وفي هذا المقال نتناول البعد التاريخي في التقويم باعتبار آخر، وهو: مستوى التقدم الذي حققته الحركات الإسلامية في ميدان العمل الإسلامي، ويمكن أن نلحظ هنا ثلاثة مستويات: تراجع ـ ثبات ـ تقدم. وتنبع أهمية هذا الاعتبار في التقويم من أن غالبية الجماعات الإسلامية تفتقر إلى معايير دقيقة لقياس الأداء، وهذا ينشأ عنه التباسات ذهنية متعددةº بحيث يمكن أن تجد من يتفاوت تقويمهم لأداء حركة إسلامية ما بين التراجع والثبات والتقدم في الوقت نفسه، ونحسب أن المعيار العلمي الدقيق لتقويم الأداء يعتمد على ثلاثة عناصر: الزمن ـ الظرف ـ أحد مفردات نشاط الحركة والذي يُقوَّم أداؤها من خلاله.

 

فبالنسبة للزمن، يتم تحديد عدة نقاط في النطاق الزمني الذي يراد تقويم الأداء من خلاله، وهو في حالتنا هذه 30 عاماً تقريباً، أو عمر الحركة، أيهما أقل، ثم تتم المقارنة بينها لتحديد المنحنى العام لأداء الحركة.

 

أما الظرفº فنعني به التأكد أن النقاط الزمنية المختارة ذات ظروف معتادة تتوافق مع السياق الطبيعي للأحداثº بعيداً عن الأزمات العابرة أو الحوادث الوقتية التي يمكن أن يكون لها تأثير مؤقت في أداء الحركة.

 

وأما مفردات النشاط، والتي تُستخدم كأساس للتقويمº فتختلف حسب التقسيم المنهجي للحركات الإسلامية إلى ثلاثة تيارات: سلفية ـ سياسية ـ جهادية. فمع التيارات السلفية يمكن استخدام مفردات مثل: عدد المساجد والخطباء - الرموز العلمية البارزة ـ الرموز الدعوية الجماهيرية - عدد المنتظمين في طلب العلم الشرعي ـ مستوى الانتشار عددياً وجغرافياً.. إلخ.

 

وأما التيارات التي تجمع بين النشاط السياسي والدعويº فيمكن بالإضافة إلى ما سبق استخدام مفردات مثل: مستوى المشاركة النيابية ـ مستوى المشاركة في الهيئات والنقابات والاتحادات الطلابية ـ المؤسسات المعترف بها والتي يُمارس من خلالها العمل السياسي - المنابر الإعلامية.

 

أما التيار الجها

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply