المثقف بين تأريخه والبحث عن دوره


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لا يكاد محفل أو منتدى ثقافي غير رسمي, على امتداد رقع الجغرافيا العربية, إلا وترتفع أصوات مرتاديه بالجأر من الغبن الذي هم فيه, والشكوى المريرة من تهميش أدوارهم، ويرى كاتب السطور أن دور المثقف والمؤسسات الثقافية غير الحكومية عموماً في تراجع بمتواليات هندسية, كجزء من التردي العام الذي تعيشه منطقتنا العربية.

بل أذهب إلى أبعد من ذلك بأن المفكر أو المثقف بات يواجه أزمة تجاه ثورة المعلوماتية والاتصال، وتحديداً الإنترنت والفضائيات، والأخيرة جعلته أسيراً لأجندتها وأولوياتها طامعاً في الظهور والكارزمية المنبرية التي توفرها له الشاشة الملونة، ومضطراً لها لغياب مؤسسات العمل الفكري الأهلي المستقل.

ولا نخفي سراً بأن ثلة منهم بات يعاني من غربة في مجتمعه ووضع بائس كئيب بعد الانهيارات الثقافية والسياسية في العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي، التي انقسم فيها بين متعلق ومراهن على آيديولوجيا الدولة (دولة العسكر في الغالب)، وآخر انقلب إلى ممثل محلي للآيديولوجيات الأجنبية، دون أن يحاول أن يكون له أي امتداد أو توافق مع مجتمعه الذي ينشط فيه.

ولأن التأريخ شاهد, ومن ألفباءاته أن من يريد معرفة بوصلة الحاضر فعليه بقراءة ما سطّر. نذكّر هنا فقط بأولئك النفر من المثقفين الذين تورطوا بشكل مشبوه في دعم غربي، وافتضح أمرهم على الملأ كما حصل لمجموعة \"شعر\" (أدونيس ويوسف الخال) ومعهم ثلة ممن نصّبوا على منابرنا الإعلامية كأساتذة ومنظّرين, يبشرنا تلاميذهم في صحفنا بآرائهم التنويرية المبدعة، غير ناس ٍ,مجموعة مجلة \"حوار\" اللبنانية التي انكشف اتصالها بالمخابرات الأمريكية في نهاية الستينات، وتورط الآخرون الأكثر بؤساً في الدعم السوفييتي الفج في منظمات منقطعة كاتحاد كتاب آسيا وأفريقيا الذي انهار مع انهيار الشيوعية، فالتجأ مفكروه ورموزه يسترزقون على شاشات فضائيات البلدان التي كانوا يلعنونها في الأمس القريب ككوميديا سوداء, وصورة بشعة لمرتزقة المبادئ، ونهاية منطقية لكل من يبني مشروعه الفكري بعيداً عن أصوله الحضارية وواقع وآمال أمته ووطنه.

يلطمنا السؤال هنا بعد تلك الفجائع التأريخية للأسلاف: وما عساه فاعلاً الآن - هذا الكائن المسمى بالمثقف - بمعادلته العرجاء التي انجحرت بين ضميره وإملاءات ثقافته ـ وبين واقعه ووضعه الشاحب!؟. في تصوري المتواضع أن المثقف إذا أراد أن يلعب دوراً فعلياً في قضايا الأمة التي تموج من حوله, عليه أن يتصالح ابتداء مع مجتمعه وجذوره الفكرية, ويعمل في العلن ومن بوابة العمل المؤسسي تحت سمع المجتمع وبصره.

هذه المؤسسات الفكرية غير الرسمية يمكن أن تكون منبراً مؤثراً يستطيع إيصال صوت المثقف بطريقة بعيدة عن سوء المظان والشبهة، والمجتمع في تصوري في حاجة ماسة أكثر من ذي قبل إلى هذه المؤسسات التي ستكون محاضن رؤومة للأصوات الصادقة في النصح والإصلاح, وستقطع الطريق على الأصوات المتساعرة من الخارج, والتي تنوشنا وتزايد على وطنية مثقفنا المسكين وغيرته على مجتمعه وتلاحمه بقيادته. والفرصة متاحة الآن أكثر من ذي قبل لهذه المؤسسات للقيام بمثل هذا الدور, وهو دور ليس بالهين في ظل الأوضاع السياسية المضطربة حولنا، والتي تتطلب تكاتفاً وتلاحماً وطنياً بين كل الأطياف الفكرية من جهة، وبينها وبين ولاة الأمر من جهة أخرى..

هذه المؤسسات برأيي يجب عليها ابتداء الكف عن محاولات استزراع الرؤى الأجنبية فيها، من تجربة تأريخة شوهاء سلفت, وعليها بعدئذ إشاعة ثقافة المجتمع المدني والعمل على تحقيق التوازن المنشود والملحّ بين الرسمي والعمل الأهلي بعقد اجتماعي صارم وملزم.

ويبقى أخيراً - وأرجو ألا أكون قد أسرفت في تفاؤل ساذج - أن أعترف بأن ثمة عوائق تقف أمام مشروع كهذا, يأتي في مقدمتها ثقافة العمل المؤسسي المدني التي لم تترسخ بعد في مجتمعاتنا العربية، وعائق ضخم يكمن في العلاقة بالمؤسسة الرسمية والتي لا بد للمؤسسات الفكرية العربية والمثقفين من ورائها أن تبعث رسائل تطمئنها بأن دورها تكاملي مع دور الدولة، بعيداً عن أية مظان لانتهازية محتملة للظرف السياسي أو الاجتماعي بمكيافيلية تحاول تحقيق أغراض أيدلوجية أو سياسية غير مشروعة، وتلك لعمري العقدة التي لو حلّت لانفكت باقي العقد جميعها.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply