بسم الله الرحمن الرحيم
يدرس المنهج التواصلي اليوم كذلك في علم اللغة الحديث بوصفه المنهج الأمثل لدراسة اللغة وتدريسها، لما يتيحه من حياة المادة اللغوية نطقًا وسماعًا وأداء، وفي هذا السياق تدرس اللغة بوصفها أداة للتواصل الإنساني ويتم تدريب المتعلمين على فنيات التواصل والتحاور مع الآخرين، أي توظيف اللغة عمليًا في مواقف الحياة المتنوعة، ما يكسب المتعلم القدرة على التحدث والنطق السليم، ويعلمه آداب الاستماع والمحاورة والرد، ويزيل كثيرً ا من المشكلات التي يواجهها المتعلمون في هذا المجال كالخجل أو التلعثم أو اضطراب التفكير...إلخ.
الحوار والعمليات العقلية:
إن التحاور يولد الكلمات والجمل، ويدفع بها العقل إلى اللسان، ومعنى التوليد هنا أن العقل يستعمل المخزون لديه من مفردات اللغة وصور تراكيبها في توليد معان جديدة بإعادة تركيب تلك الكلمات وفق أصول الإسناد (أي قواعد تركيب الكلام) التي تعودها واختزنها. ففي اللغة العربية على سبيل المثال يكتسب الإنسان دائمًا صورًا وأنماطًا للجملة تختزنها الذاكرة، وحين يحتاج المتكلم إلى أداء معنى تسعفه الذاكرة بكلمات يعيد تركيبها وفق أنماط العربية كأن يبدأ باسم أو فعل أو حرف ثم يبني عليه ويكون جملة ثم فقرة. وقد لوحظ أنه في أثناء عملية التحاور أو التخاطب «تزداد نسبة تسميع الكلمات التي تتلقاها الذاكرة، ويزداد ترددها على الذهن، ويتكرر استرجاع مجموعات كبيرة منها ربما لفترات طويلة ومستمرة بحسب الفرص المتاحة لهذا التخاطب أو التحاور، وهذا لا يعمل فقط على تمكين الفرد من نطق هذه الكلمات نطقًا سليمًا، وإدراك ما تنتجه حروفها أو ترتبط به أصواتها من إيقاعات مختلفة التأثير، وإنما يزيد أيضًا من ثبات هذه الكلمات في الذاكرة ويسهل على مكتسبها استرجاعها من هذه الذاكرة واستحضارها عند الحاجة إليها دون بطء، ما يؤثر إيجابًا في تطور الطلاقة اللغوية أو نموها لديه (1)».
تآزر الحواس في الأسلوب الحواري:
إن مؤازرة الحواس بعضها بعضًا في التعلم أسلوب أمثل أثبتت الدراسات العلمية جدواه. إنه يبقي المادة العلمية حية في النفوس والعقول، والحوار تُستعمل منه على الأقل حاستا السمع والبصر، وهما أهم الحواس عند الإنسان، إضافة إلى الحركات الجسمية المصاحبة، كإشارات اليد والرأس والعين، فإذا شارك الطالب مشاركة عملية في الحوار أو قام بإجراء التجربة المعملية بنفسه زادت لديه نسبة الاستيعاب، لأنه يشارك في صنع الحدث التعليمي. لقد أثبتت الدراسات أن الناس يتذكرون «خمسة عشر بالمئة مما يسمعونه، وخمسين بالمئة مما يرونه، نضيف إلى ذلك الحقيقة التي أثبتها البحث، وهي أن الناس يتذكرون حوالي ثمانين في المئة مما يفعلونه» (2).
المناقشة التعليمية صورة حوارية
يذكر أساتذة التربية المعاصرون «المناقشة» ضمن أكثر طرق التدريس قبولاً وجدوى في مجال التعليم. والمناقشة «تقوم في جوهرها على الحوار، وفيها يعتمد المعلم على معارف التلاميذ وخبراتهم السابقة فيوجه نشاطهم بغية فهم القضية الجديدة، مستخدمًا الأسئلة المتنوعة وإجابات التلاميذ لتحقيق أهداف درسه» (3). وقد أكدت الأبحاث من خلال حساب تواتر المناشط اللغوية أن المحادثة تأتي في المرتبة الأولى من حيث أهميتها، ثم القراءة والكتابة. وفي دراسة لحصر المناشط التربوية التي يحتاج إليها الإنسان في حياته توصل البحث إلى أن هناك ثلاثة وسبعين منشطًا لغويًا تجمعها تسعة أنواع رئيسة تمثل المواقف الوظيفية في الحياة، وهي: المحادثة والمناقشة الجماعية وكتابة الرسائل والمذكرات والتقارير وإلقاء الكلمات في المناسبات المختلفة وقص القصص، وتوجيه التعليمات والإرشادات والتفسيرات (4).
ويذكر علماء التربية كذلك «الطريقة الحوارية» ضمن طرق التدريس، وهي «طريقة الحوار والنقاش بالأسئلة والأجوبة للوصول إلى حقيقة من الحقائق، وتنسب هذه الطريقة إلى سقراط الذي كان يستعمل تلك الطريقة مع غيره متظاهرًا بالجهل ليرشد المتعلم حتى يصل إلى الحقيقة» (5).
وتبادل الأسئلة والأجوبة يعتمد على «لون من الحوار الشفوي بين المدرس والتلميذ يؤدي في النهاية بالتلميذ في الفصل إلى التوصل إلى المعلومات والمفاهيم الأساسية» (6).
ضبط الاستعمال اللغوي:
إن الحوار والمناقشة يمكنان المتعلم من الاستعمال اللغوي السليم للمفردات والتراكيب اللغوية في التعبير عن أفكاره ومشاعره، والاستعمال اللغوي السليم يتأتى من السماع قبل الضبط الكتابي كما هو معلوم، والدليل البين على ذلك أن دارسًا لو قرأ علم التجويد أو علم النحو على سبيل المثال دون ممارسة عملية فلن يتقن التلاوة أو الضبط النحوي. ومن خلال تجربتي في تعلم العربية وتعليمها أجد أن بعض ألفاظها لا يتقنه المتعلم إلا بالسماع، خصوصًا حين تكون الألفاظ غير دائرة في لغة الحياة اليومية أو وسائل الإعلام، ولهذا كله اهتمت المعاجم العربية المتنوعة بالضبط التام للكلمات، بل إن بعضها ـ كالقاموس المحيط ـ كان يوضح الكلمة الغريبة أو غير الشائعة بإيرادها على وزن كلمة مألوفة لتسهيل النطق، كقوله: «والحبيس من الخيل: الموقوف في سبيل الله، كالمحبوس، والمحبس كمكرم، وفنون بنت أبي غالب بن مسعود الحبوس كصبور: محدثة» (7). فكلمتا محبس وحبوس غير شائعتين في العربية، ولذا وضحهما بإيراد كلمة مشابهة لوزن كل منهما.
وهذا العمل المحمود من واضعي المعاجم لا تتم فائدته إلا بالسماع والمشافهة، وهو ما تفتقده عملياتنا التعليمية المعاصرة كثيرًا حين تعتمد على العين فقط من خلال القراءة.
إن السماع أصل من أصول تعلم هذه اللغة، وخير مثال على ذلك لغة القرآن الكريم التي لا يمكن إتقانها إلا بالسماع أولاً ثم القراءة، وهكذا في الأدب القديم نحتاج إلى إسماع الطلاب شواهد حية منه لتترسخ لديهم ملكة السماع والكلام بالفصحى، يقول ابن قتيبة: «وكل علم محتاج إلى السماع وأحوجه إلى ذلك علم الدين، ثم الشعر لما فيه من الألفاظ الغريبة واللغات المختلفة والكلام الوحشي، وأسماء الشجر والنبات والمواضع والمياه» (8).
إتقان القواعد النحوية
لا يخفي أن أهم أسباب ضعف الطلاب في النحو عدم الممارسة التطبيقية والوظيفية للقواعد التي يتعلمونها، وذلك لا يتم إلا من خلال التعامل الشفاهي باللغة، خصوصًا الحواري، إنه أفضل كثيرًا من تعليم القواعد من خلال النصوص المكتوبة. إن ضعف أبنائنا في الممارسة اللغوية السليمة نطقًا وكتابة مرده إلى تلقيهم المادة العلمية غالبًا بصورة كتابية من خلال المواد المقروءة، وإن وقت التعلم الشفاهي في المحاضرة والحصة المدرسية غير كاف لإتقان الحوار وإثارة المادة شفاهيًا، ولذا ننادي بضرورة الاهتمام بهذا الجانب التواصلي الشفاهي في عملية التعليم، كما توصي بذلك الدراسات العلمية الحديثة.
التدريب العملي على النطق الصحيح لأصوات اللغة:
وهذا لا يتم إلا بالمحادثة الشفاهية، لأن الرمز الكتابي الواحد ينطق بطرق متعددة بحسب اللهجات، ويكون الحوار بما فيه من ضبط ومراجعة أهم صور الممارسة الشفاهية للغة، ويتضح ذلك جليًا في تعلم لغة القرآن الكريم وفنون التجويد والأداء.
الحوار يساعد على الحضور الذهني للطلاب:
ويحميهم من الحالة السلبية المتمثلة في التلقي من جانب واحد، وما يستتبع ذلك من شرود الذهن أو الذهول أحيانًا عن الحدث التعليمي أو بعض أجزائه، ولكن الحوار والسؤال وتوقع كل طالب في المجموعة أن يكون هو المسؤول، كل ذلك يشجعه على الحضور الذهني، والتفاعل مع الحدث التعليمي.
الحوار يساعد على بناء الشخصية:
وينمي الجرأة المحمودة للطلاب، ويوسع المدارك، ويعلم الطلاب كيفية استعمال الحركة الجسمية المناسبة، وهو كذلك «يشجع على مشاركة التلاميذ في عملية التعلم ويجعل مواقفهم أكثر إيجابية من موقف المتفرج أو المستمع، فمما لا شك فيه أن دورهم هنا أكثر إيجابية منه في أسلوب المحاضرة مثلاً، فالتلاميذ يتوصلون هنا إلى الأفكار والمعلومات بأنفسهم بدلاً من أن يدلي بها إليهم المدرس» (9).
الحوار يساعد على ثبات المعلومات واسترجاعها:
في سياق المعلومات المدروسة، مما يساعد على ثباتها في أذهانهم. وكم من معارف يقرؤها المرء ثم تختزنها الذاكرة، ولا يسترجعها إلا حين يسأل عنها وربما وجدها، وربما ضعفت الذاكرة فيحتاج إلى الرجوع إلى مصادرها!
وثبات المعلومات ذات الطابع الحواري أمر مجرب، ولعل كلاً منا يلحط أنه يتذكر ما قيل في لقاء حواري حضره بعد انتهاء اللقاء!! جاء في لسان العرب «قال معاوية بن أبي سفيان لدغفل بن حنظلة ـ وكان عالمًا فصيحًا ـ بم ضبطت ما أرى؟ قال: بمفاوضة العلماء، وقال: وما مفاوضة العلماء؟ قال: كنت إذا لقيت عالمًا أخذت ما عنده وأعطيته ما عندي، ثم قال ابن منظور: المفاوضة: المساواة والمشاركة، وهي مفاعلة من التفويض، كأن كل واحد منهما رد ما عنده إلى صاحبه، أراد محادثة العلماء ومذاكرتهم في العلم» (10).
الحوار يشيع الثقة بالنفس:
والأنفة من تكرار الخطأ أو إهمال المادة العلمية الذي يسبب للطالب حرجًا متكررًا أمام زملائه إذا تعود الإهمال وعدم المتابعة، هذا إضافة إلى السعادة التي يحسها الطلاب في أنفسهم لمشاركتهم في الحديث التعليمي. والغريب أن جامعاتنا العربية لا تعطي هذا الجانب أهمية تذكر، ولا تمارسه بصورة علمية متقنة في مصر ـ فيما أعلم ـ سوى الجامعة الأمريكية بالقاهرة!
وفي مناهج التعليم الغربية يتم تدريس مادة الجدل Argumentation منذ الصغر ليتعلم الطلاب فنون الحوار والقدرة على المناقشة الحرة.
النجاح الحواري يثير السعادة ويحفز الهمم:
خصوصًا حين يجيب الطالب إجابة صحيحة أو يعرض المادة العلمية بصورة سليمة. وما زلت أذكر شغفي حين كنت في الصف السادس الابتدائي بمادة التاريخ فحفظت ـ قبل أن يشرح المدرس ـ أسباب الحملة الفرنسية على مصر وأسباب فشلها، وحين سأل المدرس أجبت بطلاقة ففرح وجعل التلاميذ يصفقون لي (على عادة قومنا) ومنذ تلك الواقعة صرت متفوقًا في مادة الأستاذ إلى حين!!
وقد كان الرسول [يمارس ذلك اللون الحواري التعليمي مع أصحابه، ومن ذلك ـ وهو كثير ـ حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب أن رسول الله [قال: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وهي مثل المسلم، حدثوني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البادية، ووقع في نفسي أنها النخلة، قال عبدالله: فاستحييت، فقالوا: يا رسول الله، أخبرنا بها، فقال رسول الله [هي النخلة، قال عبدالله: فحدثت أبي بما وقع في نفسي فقال: لأن تكون قلتها أحب إليّ من أن يكون لي كذا وكذا» (11).
ونلاحظ هنا مدى تحسر الأب على أن ولده لم يذكر الجواب الصحيح الذي كان سيعد مفخرة له بين علية القوم، وهو الشاب الحدث!!
من شروط نجاح الحوار التعليمي:
أن تكون الأسئلة جيدة الصياغة واضحة، وقصيرة تستخدم فيها الألفاظ المألوفة، وتدور حول فكرة واحدة، وأن يكون صوت المتحاورين مسموعًا لكل التلاميذ، مع إعطاء التلاميذ فرصة للتفكير قبل اختيار أحدهم للإجابة ليشارك الجميع في التفكير، وأن يكون الاختيار عشوائيًا لإثارة جميع الطلاب (12).
---------------------------------------------
الهوامش:
1ـ د. أحمد محمد المعتوق: الحصيلة اللغوية: 263 ـ 264 سلسلة عالم المعرفة (212) الكويت، ربيع الأول 1417هـ ـ أغسطس 1996م.
2ـ فن التحدث والإقناع: وليم، ج. ماكولاف: 81، ترجمة: وفيق مازن. ط3 دار المعارف 1999م.
3ـ د. حسن شحاته: تعليم اللغة العربية بين النظرية والتطبيق: 31، ط1 الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 1412 هـ ـ 1992م.
4ـ انظر: بابكر أحمد البشير: الحوار في تعليم العربية لغير الناطقين بها، أهميته وطرق تدريسه، مجلة معهد اللغة العربية، جامعة أم القرى ـ مكة المكرمة، العدد الثاني، 1404هـ ـ 1984م.
5ـ د. حسن شحاته: مرجع سابق: 35.
6ـ د. إبراهيم بسيوني عميرة، د. فتحي الديب: تدريس العلوم والتربية العملية: 241، ط14، دار المعارف، القاهرة 1997م.
7ـ القاموس المحيط للفيروز أبادي: 691 (حبس) ط2 مؤسسة الرسالة ـ بيروت 1407هـ ـ 1987م.
8ـ الشعر والشعراء: 32، ط2 دار الكتب العلمية، لبنان 1405هـ ـ 1998م.
9ـ تدريس العلوم والتربية العلمية: 215.
10ـ اللسان: فوض.
11ـ رواه البخاري في كتاب العلم من صحيحه، الحديث (131) ط: دار السلام بالرياض (مجلد الكتب الستة) وفي بعض روايات الحديث أن عبدالله استحيا لكونه أصغر القوم سنًا.
12ـ انظر: تدريس العلوم والتربية العملية: 211 (بتصرف يسير).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد