إصلاح التعليم عموما والتعليم الشرعي خصوصا


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

تمتاز الثقافة الإسلامية والحضارة العربية الإسلامية عن بقية الحضارات والثقافات في المنهج والوسائل والغايات والأهداف، وإذا كانت الثقافة هي مخزون تراكمي لتجارب الأمم والشعوب، تتوج بحضارة راقية. فإن الثقافة الإسلامية استمدت وقودها من الوحي الإلهي، وتبلورت بالوسائل النبوية، فكانت خير حضارة عرفتها البشريةº علماً وعملاً، وسلوكاً وأخلاقاً، ورقياً وتقدماً.

 

كيف لا، وهي ربانية المنهج، إسلامية الوسائل، إنسانية الهدف، بل قل: كونية الغاية.

 

فإذا ما وجدت هذه العلاقة، وجدت الحضارة الراقية، المبدأ والمنبع من خالق الكون والحياة، والغاية والهدف نفعُ الخلائق أجمعين، دون تعصب لفئة أو تحيّز لطائفة، بل هي شاملة لكل المخلوقات، ((الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله)) أخرجه أبو يعلى والبزار والطبراني، كنز العمال: (6/16056).

 

ويوم أن كان المسلم يسير على هذه القواعد صار العزيز القوي، ويوم أن تخلى عن المنهج الرباني، واستسلم للمنهج الأرضي، انتكست حياته إلى الذلة والهوان، والضعف والتخلف والتمزق والتشرد.

 

لذاº كان لزاماً علينا أن نفتش أحوالنا، ونتبيّن سبب انتكاسنا، وأن نجد البلسم الشافي لأدوائنا نحن المسلمين.

 

ولا يكون الإصلاح والدواء إلا بالبحث عن جذور الداء، والتفتيش عن أصول العلة، وعن المحرك الأساس لنهضة المسلمين الأولى، والحقيقة أن أصل ذلك كله، وبدؤه كان في أول كلمة من هذه الرسالة الموجهة من الخالق الحكيم إلى البشر أجمعين {اقرأ باسم ربك}سورة العلق: [الآية: 1].

 

 تعلّم وتَرَقَّ مع الارتباط بالمعلّم المربي، والمرشد المزكي، فالآية تفيد معنى التربية والرعاية بالإضافة إلى طلبها لزيادة العلم والثقافة.

 

وكلمة (اقرأ) حُذِف منها المفعول لتفيد العموم، إذ المطلوب قراءة لهذا الكون بكل ما فيه من عوالم، ليستفيد الإنسان ممن حوله فيعيش سعيداً.

 

ومثل ذلك في قوله - تعالى -: {وقل ربِّ زدني علماً}سورة طه: [الآية: 114].

 

 فقد جاءت كلمة (علم) في هذه الآية نكرة غير محددة لتفيد الترغيب في كل أنواع العلوم، وجعلت الارتباط بالله - تعالى - ومنهجه سبباً لزيادة العلم.

 

ولذلك فأول خطوة لإصلاح التعليم عموماً هي الاهتمام بالتربية من خلال القرآن الكريمº (قراءة وتجويداً، وحفظاً وتفسيراً، وإدراكاً وفهماً) ثم بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (اطلاعاً ومعرفة، وتطبيقات عملية). كل ذلك جنباً إلى جنب مع العلوم الأساسية في المراحل الأولى، إلى أن ينمو الوازع الديني في قلب الطالب فيكون محرضاً له للتقدم وزيادة العلم واستخدامه في خدمة أمته.

 

والسبب في عدم الاستغناء عن القرآن والسنة بداية هو كونهما يحويان مفهوم الحياة الصالحة في الدنيا والآخرة، وخلاصة المطلوب من العبد ومهمته فيهما، كي لا يصل الإنسان إلى مرحلة العلم للعلم، بل لابد أن يكون العلم للمعرفة والعمل الإيجابي، وإذا أهملنا التربية وركزنا على العلم فقط فيمكن أن يتوجه العلم للعمل السلبي، وهذا يمكن أن يلحق الأذى بالإنسانية.

 

ولا بأس هنا من قراءة آية واحدة نلمح من خلالها أصناف العلوم وأنواع المعارف المطلوبة كنموذج عن غيرها في تحفيز القرآن للمسلم، لينطلق إلى ما ينفعه ويفيده.

يقول الله - عز وجل -: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء}(سورة فاطر: [الآية: 27]).

 

وفي هذا إشارة إلى العلوم الفلكية وصلة السماء بالأرض، وأحوال المناخ وتقلبات الطقس، وتحول المياه المالحة - عن طريق التبخر - إلى مياه عذبة، وغير ذلك من العلوم.

 

ثم قال - تعالى -: {فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها} وفي هذا إشارة إلى علم النبات وما يتعلق به من معرفة أنواع الخضار والفواكه المختلفة في الشكل واللون والحجم [علم الزراعة].

 

ثم قال عز من قائل: {ومن الجبال جُدَدٌ بيضٌ وحُمرٌ مختلفٌ ألوانها وغَرَابيبُ سُود} وفي هذا إشارة إلى علم طبقات الأرض، وما يتصل به، وهو ما يسمى علم [الجيولوجيا].

 

ثم قال - سبحانه -: {ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك} وفي هذا إشارة إلى علم الإنسان، وإلى علم الحيوان أو قل علم الحياة والأحياء عموماً، ودراسة الكائنات الحية على اختلافها.

 

وختم ذلك كله بقوله: {إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ إن الله عزيز غفور}سورة فاطر: [الآية: 28].

 

 وفي هذا إشارة إلى عموم مفهوم العلماء، لتشمل كل عالم بالكون وآياته، ودقائقه وأسراره، خبير بمعارف الإنسان، بصير بعلوم الأرض، فكلمة العلماء لا تعني علماء الشريعة فحسب.

 

وإذا ما بدأنا بإصلاح التعليم من خلال ربط آيات القرآن بواقع الحياة وحاجات العصر، ودقائق العلوم، نكون قد وضعنا أنفسنا على الطريق القويم، والمنهج السليم.

 

والنتيجة من ذلك، أن هذا المثقف المتعلم، وبعد أن يوسع دائرة علمه وثقافته لن ينسى ما مرّ معه من تأصيل المعارف في ذهنه عن طريق حفظه لكلام الله والعمل به.

 

والتاريخ أمامنا شاهد على صدق هذا المنهج، وصلاحية هذا الأسلوب: الجمع بين علوم القرآن وعلوم الحياة.

 

فهذا ابن سينا، والرازي، والفارابي، والخوارزمي، وغيرهم، كيف كانت بداية دراستهم!!

 

فالمناهج التي يجب وضعها للدارسين ينبغي أن تكون:

 

- موافقة للفطرة السليمة.

 

- محققة للعبودية لله من خلال تسخير العلوم المختلفة لإبراز عظمة الخالق، ودقة صنعه، وتفرده.

 

- منمية للشخصية الإسلاميةº علماً وحكمةً وتزكية، من خلال فتح آفاق التوسع في العلم، والتجربة، والاختراع، والاكتشاف، والإبداع.

 

كما يجب التنبه إلى ناحيتين مهمتين لهما أثر كبير في تحقيق النتائج المرجوة من وجود المواد الشرعية في المؤسسات التعليمية، وأول هاتين الناحيتين أن تكون مادة التربية الدينية -بعد تعديلها بما يناسب الطرح السابق- مادةً أساسية في المناهج فيتاح لها عدد أكبر من الساعات الدراسية، ولا تستثنى علامتها من المجموع العامº مما يجعل الطلاب يولونها اهتماماً أكبر.

 

والأمر الثاني هو أن أي مادة علمية لا يمكن أن تعطي ثماراً صالحة إلا من خلال وجود المدرس المؤهل علمياً وأخلاقياً لتدريسها، ولذلك لا بد من الاعتناء باختيار المدرسين من خلال تقويم علمي وعملي سليم يضمن تحقيق الآثار الإيجابية، إضافة إلى تحقيق توازن عادلٍ, بين ما يقدمه، وبين الأجر المقدم له..

 

ثم إنه لا ينكر وجود التخصص في كافة مجالات الحياة، ومنها التعليم حيث للتعليم الشرعي نصيب في ذلك.

 

ولقد عَرَف الإسلام المؤسسة التعليمية التربوية منذ اللحظة الأولى لبدء نزول الوحي على قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ كانت دار الأرقم بن أبي الأرقم أول تلك المؤسسات، حيث تلقى فيها الصحابة علمهم وتربيتهم وتزكية نفوسهم.

 

ثم تطورت في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المدينة حيث مقر الإدارة العليا للمؤسسات التعليمية، وفيه تم تخريج المعلمين الذين نشروا الإسلام في الآفاق هداية وتعليماً، وثقافة وأخلاقاً.

 

فالمدارس والمعاهد والكليات التي تدرّس العلوم الشرعية هي مصانع لتكوين الدعاة والمصلحين، وينبغي أن تكون هي صاحبة الريادة في المجتمعº إذ تقع على عاتقها مسؤوليات منها:

 

- الوصول بالإنسان لمرحلة العبودية لله - عز وجل -، وفي هذا يقول الإمام الغزالي: يجب أن يكون هدف المتعلم: التقرب إلى الله - تعالى - دون الرياسة والمباهاة إحياء علوم الدين 1/56.

 

- تنمية العلوم الإسلامية لتكون ملائمة لأحوال الناس، فالحركة التعليمية ينبغي أن تكون منبثقة من المجتمع وللمجتمع، دون أن تكون منعزلة أو منطوية، بحيث يكون العلم في وادٍ,، والمجتمع في واد آخر.

 

- تثبيت معالم الحضارة الإسلامية، وإبراز رونقها وجمالها، وتنقية المعلومات من كل الشوائب والأخطاء، والأخذ من الثقافات الأخرى بما يتناسب مع روح التشريع الإسلامي وأهدافه.

 

- تنمية مواهب الدارسين بحيث لا تكون الشهادات الممنوحة لهم غاية في ذاتها، والامتحانات الدورية وسيلة للترقي فحسب، ولابد من متابعة الأمر ومواصلة الدرس لتحقيق الأهداف الكلية للإسلام.

 

ولتحقيق النجاح في هذه المسؤوليات، لابد من أن يكون رائد هذا العمل هو آية من القرآن الكريم وهي: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}سورة البقرة: [الآية: 129].

 

وفي آية أخرى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}(سورة الجمعة: [الآية: 2]).

 

فهيكل النظام التثقيفي الإسلامي لبناء الحضارة الإسلامية له أركان ثلاثة:

 

- العلم.

 

- التزكية.

 

- الحكمة.

 

أولاً: العــلــــم:

ويعني تزويد المتعلمين بالعلوم، ونقل المعلومات إلى عقولهم وقلوبهم، ليدركوا ويعملوا بمقتضاها، ولتحقيق مرضاة الله، والوصول إلى الحق، لا من أجل الشهرة والسمعة، أو الرياء أو التكبر. ففي الحديث: ((من طلب العلم ليجاري به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجود الناس إليه، أدخله الله النار))رواه الترمذي، (2654).

والعلم لا يحدّ بزمان أو مكان، لذا، لابد من زرع هذه الفكرة في أذهان المتعلمين، وهي قوله - عز وجل -: {وقل رب زدني علماً} سورة طه: [الآية: 114].

 

 بحيث يتمثل المتعلم ذلك ويتابع تحصيله ودراسته.

وأن يكون العلم نافعاً، فكم من علوم يقرؤها طلاب العلم لا صلة لها بواقع الحياة، فيصرف من وقته وجهده في تحصيلها قدراً لا يتناسب مع أهميتها، ثم لا يحقق منها فائدة تذكر.

 

كما ينبغي مراعاة التوازن في تقديم الأولى فالأولى من العلوم، والأهم فالأهم من المعارف، بما يتناسب مع متطلبات الزمان والمكان.

 

لذا، ينبغي إعادة النظر في المناهج التعليمية، وضرورة تعديلها لتكون متطورة مع الحياة والأحياء.

 

ونضرب أمثلة على ذلك:

 

فمادة تفسير القرآن الكريم:

 

تُدرَّس فيها أقوال السابقين في معاني كلام الله، وهذا جيد والأجود منه متابعة هذه المادة ليكون التفسير ملائماً للعصر، بحيث يعيش الدارس مع آيات القرآن الكريم، وكأنها الآن أنزلت، فلكل زمان تفسير وفهم، وصدق ابن مسعود في بيانه عن القرآن: [لا يَخلَق - لا يبلى - عن كثرة الردّ].

 

وعوضاً عن أن تكون مادة التفسير حشواً للذاكرة بالمعلومات، وأقوال المفسرين المختلفة فقط، تكون هذه المادة متلائمة مع حياة المسلمين في كل زمن، وتوجههم للعمل والدعوة والحياة السعيدة.

 

مادة مصطلح الحديث:

وإصلاحها يكون بإدخال الجانب التطبيقي إلى جانب المعلومات النظرية، فأنواع الحديث وأقسامه كثيرة حسب اصطلاح العلماء، يحفظها الطالب ويتقدم للامتحان ثم ينساها، والمطلوب تنمية هذه المادة لتكون عملية، بحيث يتمكن الطالب -في المراحل العليا- من الوصول إلى تخريج وتدقيق السند، والحكم عليه قبولاً أو رفضاً.

 

إضافة إلى الاستفادة من الوسائل الحديثة التي وفرها الحاسب الآلي، والأقراص المضغوطة للبحث السريع، والحكم على الحديث من خلال عدد أكبر من المصادر.

 

مادة السيرة النبوية والتاريخ:

 

تعتمد هاتان المادتان حالياً على قراءة النصوص، والروايات التاريخية، وتعددها، ومحاولة الترجيح بينها، وقليلاً ما يصل الأمر إلى التحليل والاستنباط، ومقارنة الحاضر مع الماضي، للاستفادة، وفي الإصلاح لا بد من صياغة السيرة على ضوء واقع الحياة:

 

أ - من حيث التعامل مع النفس، وقدوتُها صاحب الرسالة والسيرة العطرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذها بالصبر والمصابرة، والجد والاجتهاد والعزيمة، والطاعة والعبادة لله.

 

ب- من جهة التعامل مع الآخرينº رحمة ورأفة، وقوة وصموداً، وحلماً وأناةً، ومودة ومحبة.

 

إضافة إلى فهم قوانين الله في صعود وهبوط الأمم، وظهور وفناء الحضارات.

 

مادة العقيدة الإسلامية:

 

يدرس الطالب فيها عقائد وفرق مرت عبر مراحل التاريخ الإسلامي ومضى زمنها، ولم يعد لها سوى الاسم والذكر، والمفروض إصلاح مفردات هذه المادة بحيث يطالع فيها الدارس أحوال الفرق والتيارات المعاصرة، لا التي البائدة البالية.

 

وتبنى فيها العقيدة على أدلة الكتاب والسنة، ونبتعد فيها عن روح التعصب والحقد التي تنتشر في آثار التعصب المقيت التي فرّقت الأمة شيعاً، وتعصبت للفروع، التي كان ينبغي أن يعذر بعضنا بعضاً فيها.

 

مادة الفقه الإسلامي:

 

يتلقى الدارس هذه المادة، وهي أقوال الفقهاء وآراؤهم واختلافاتهم، ويصل الأمر ببعض المتعلمين بجعلها كلمات محكمة لا تقبل المناقشة، مع أنه في إصلاح التعليم لا بد من التمييز بين الحكم الشرعي والحكم الفقهي.

 

فالحكم الشرعي هو خطاب الله - تعالى - المتعلق بأفعال المكلفين.

 

أما الحكم الفقهي: فهو فهم الفقهاء للحكم الشرعي -للخطاب الإلهي- وهذا الفهم محكوم ببيئة وظروف الحياة والفقيه، ولا يُنكر تغير الحكم الفقهي بتغير الزمن، أما الحكم الشرعي فثابت لا يتغير.

 

إذاً لا بد من ربط الأحكام بأدلتها ومصدرها، ومعرفة دليل كل فهم، وكل مسألة، والدليل إما منطوق أو مفهوم، فالمنطوق الصريح الواضح جليّ لا يتغير، والمفهوم لا نلزم به كل المسلمين وفي كل زمان.

 

ومن الإصلاح: أهمية تدريس مادة بعنوان: مقاصد الشريعةº بحيث تكون محرّكة لذهن الدارس، محرضة له لاكتساب المعرفة بعد حفظ العلم.

 

ومن إصلاح التعليم في مادة الفقه:

 

-إعطاء أهمية واضحة لمادة المعاملات في الفقه الإسلامي، فالعبادات أشبعت بحثاً، والمسلم في المعاملات يظن أنها غير موجودة، أو أنها بعيدة عن الواقع، فلا بعد من صياغة جديدة لفقه المعاملات المالية.

 

ومن إصلاح التعليم، تزويد طالب العلم الشرعي بمعارف عامة عن الطب والفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعية وغيرها، ليتوافق ما يعرفه من أحكام الشريعة مع حقائق العلوم، بدل أن يتحدث في أشياء تتعارض مع حقائق العلم الحديث.

 

ولا يُعدّ هذا خروجاً عن تخصصه، بل هو من صميم فهمه للقرآن الكريم في آيات الإعجاز العلمي في القرآن، وكذا الحال في السنة.

 

إضافة إلى إدخال مناهج تتواكب مع التقنيات الحديثة، والتطور الكبير الذي يعيشه العالم اليوم، وخاصة ما يتعلق بالحاسب الآلي (الكمبيوتر) والشبكة العالمية للمعلومات (الإنترنيت) وإتقان إحدى اللغات العالمية.

 

وأخيراً في إصلاح التعليم لا بد من العمل بمقتضى العلم حتى لا يقع المعلم أو المتعلم تحت قول الله - عز وجل -: {كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}سورة الصف: [الآية: 3].

 

فالعلم إمام، والعمل تابعه، وأول من يجاء يوم القيامة، ويعذب في النار عالم لم يتنفع بعلمه، يذكِّر الناس ولا يتذكر، ينصح ولا يتعظ، يعلّم ولا يعمل، يقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه.

 

وللوصول إلى العمل مع العلم لا بد من الأخذ بالركن الثاني:

 

ثانياً: التزكية:

وهي تعبير قرآني لا يختلف فيه اثنان، وإن كان بعض العلماء قد ذكر مضمون هذا التعبير بألفاظ ومسميات أخرى، دار الخلاف والجدل فيها بين قابل ورافض، ومؤيد ومنكرº فكلمات القرآن و مصطلحاته لا تُحدِث مثل تلك المشاكل والخلافاتº فالتزكية في مضمونها وحقيقتها هي حسن الصلة بالله، ودوام الاستعانة به، وهذه هي حقيقة العبادة، وإذا كانت بعض العبادات مرتبطة بزمان أو مكان، فإن عبادة الذكر مطلقة عن الزمان والمكان.

 

وهذا الذكر يجعل القلب مطمئناً، ويفيض عل الروح نوراً، ولا بد من تنور القلب والروح، مع تنور العقل لتحصيل المعرفة بالله - تبارك و تعالى -.

 

أما إهمال الجانب الروحي والسلوكي فإنه يجعل من العلوم الشرعية مجرد أقوال وآراء تقال، وعبارات وألفاظ للجدال والمناقشات، دون أن يكون لها في دنيا الحياة تأثير، وترك هذا الركن: يعزل نشاط العالم والمتعلم ويحنّط آماله ومستقبله، فهو يجد بأن العلم وسيلة لكسب المال وبلوغ المراتب الدنيوية، وينسى بأن يحمل أشرف العلوم وأعظمها.

 

وإذا كان علم اللسان يُصلح العقل والفكر، فإن التزكية والسلوك تصلح النفس والقلب.

 

فالإخلاص والصدق والخشوع والتوكل وغيرها ألفاظ لمعاني لا تُعرف إلا في القلب، ولا تكون إلا في الممارسة.

 

وكذلك الكِبر والعجب، والرياء والغرور، والحقد والحسد والنفاق، ألفاظ لمعاني محلها القلب، ولا يبتعد الإنسان عنها بمجرد العلم بها والقراءة عنها، بل لا بد من تزكية نفسه ومجاهدتها.

 

هذاº وإن صلاح الإنسان متوقف على إصلاح قلبه وشفائه من الأمراض الخفية والعلل الكامنة، ففي الحديث ((ألا وإنَّ في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب))رواه البخاري، في كتاب الإيمان، ورواه مسلم في كتاب المساقاة.

 

فإذا كان صلاح الإنسان مرتبطاً بصلاح قلبه، فيتعيّن عليه العمل في الإصلاح بتخلية قلبه من الصفات المذمومة، وتحليته بالصفات الحسنة.

 

وركن التزكية من أهم الأركان، وهو فرض عين، بدليل قول الله - تعالى -: {قل إنما حرّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن} سورة الأعرف: [الآية: 33].

 

 وقوله - تعالى -: {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن}سورة الأنعام: [الآية: 151].

 

والفواحش الباطنة كما قال المفسرون هي: الحقد والرياء، والحسد والنفاق.. الخ

 

وما وصل المسلمون إلى هذا الدرك من الانحطاط والضعف، إلا حين فقدوا روح الإسلام وجوهره، ولم يبق فيهم إلا اسمه ومظاهره، وكذا موضوع العلم بدون تزكية، فهو شبح ومظهر، والتزكية هي روح العلم.

 

وسبيل التزكية: مجاهدة النفس والهوى، ففي الحديث: ((المجاهدُ مَن جاهد نفسه في الله)) أخرجه الترمذي في كتاب فضائل الجهاد، وقال: حديث حسن صحيح.

 

 وزاد البيهقي في شعب الإيمان: ((والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب)) مشكاة المصابيح، للتبريزي، كتاب الإيمان: رقم (34).

 

وليس المراد من مجاهدة النفس استئصال صفاتها، بل المراد تصعيدها من سيئ إلى حسن، ومن حسن إلى أحسن، وتسييرها على مراد الله - تعالى - وابتغاء مرضاته.

 

ثالثاً: الحكمة:

لا يكفي للدارس والمتعلم أن يحفظ العلوم، ولا يكفي المتعلم المزكّى أن يكون طيب القلب، بل لا بد مع ذلك من الحكمة والتي هي فقه الأسباب والمسببات.

 

والإسلام لا يقبل بين صفوفه الحمقى والمغفلين ولا السفهاء والجاهلين.

 

وعندما أخذ المسلمون الأوائل بالحكمة قولاً وعملاً، ومنهاجاً وسلوكاً، فتحوا نصف العالم القديم، وأقاموا دولة العلم والإيمان والسعادة والإخاء.

 

فأين الحكمة في مناهج التعليم الشرعي؟ والسؤال يفترض جواباً، إذ لا بد من وجود مقرر دراسي يتلقى فيه الدارس موضوع الحكمة علماً ومعرفة، وعملاً وسلوكاً.

 

والحكمة في بعض تعريفاتها هي: الإصابة في القول والعمل، وهي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها، والإقدام محل الإقدام، والإحجام في موضع الإحجام.

 

والحكمة هي مادة نجاح الناجحين، وسر فلاح المفلحين، وصف الله - عز وجل - كلامه بها فقال: {يس والقرآن الحكيم} سورة يس: [الآية: 1].

 

 ووصف أنبياءه ورسله بها، فقال: {وكلاً آتينا حكماً وعلماً} سورة الأنبياء: [الآية: 79].

والعالم الذي تزكت نفسه يكون حكيماً، يميل إلى محاسن الأخلاق، ويجتنب ما يورثه عاراً، ويكسبه سوء سمعة، ويحسن مداراة الناس، ويتدبر عواقب الأمور.

 

والحكمة مطلب في الدعوة لا بد منها، وقد جعلها الله - عز وجل - أول الأمور بقوله: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة...} سورة النحل: [الآية: 125].

 

هذه هي أركان التعليم إن أردنا النهوض بالأمة نهضة إيمانية:

 

(علم وتزكية وحكمة)

 والحمد لله رب العالمين

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply