بسم الله الرحمن الرحيم
ثمة عدد قليل من الدراسات التي تناولت الارتباط النحوي بالفقه الإسلامي، ومنها هذه الرسالة العلمية التي جاءت تحت عنوان: التوجيه الإعرابي في الدليل الفقهي··· حروف الجر والعطف نموذجاً، التي نال بها الطالب أيوب صالح هارون درجة الماجستير في اللغة العربية وآدابها في جامعة الكويت، وأشرف عليها الأستاذ الدكتور سعد مصلوح·
وتعالج هذه الرسالة العلمية جانباً مهماً من الفقه الإسلامي يتصل بالدليل واستنباط الحكم الشرعي، على نحو يقوم على فقه السنَّة النحوية للدليل، واختلاف الأحكام باختلاف التوجيه والتأويل·
وهذا البحث النحوي ـ على خطورته ـ لا يزال بحاجة إلى دراسة علمية تعرض الأدلة الفقهية التي اعتمد فيها على القواعد النحوية والإعراب، لمناقشتها ومن ثم محاورة النحاة في أقوالهم، وصولاً إلى الراجح نحواً، ثم النظر إلى موافقته للدليل الفقهي من عدمه، والعمل على توجيهه، ليوائم الرأي الفقهي الراجح ويناصره·
وهدف هذا البحث العلمي من بين أمور أخرى إلى الإجابة عن التساؤلات التالية:
ـ هل العلم بالنحو شرط لاستنباط الحكم الشرعي الفقهي والترجيح والإفتاء؟
ـ هل الأرجح نحواً، هو الراجح فقهاً؟ أي هل الأرجحية النحوية مرتبطة بالأرجحية الفقهية أو لا؟
ـ ما الأصول الفقهية التي تحكم الترجيح النحوي في الدليل الفقهي لاستنباط الحكم؟
ـ ما العمل عند تعارض دليل نحوي بدليل فقهي راجح؟
العلاقة بين النحو والفقه
جاءت الرسالة العلمية في مقدمة وثلاثة فصول، وخاتمة، وتناول الباحث في الفصل الأول العلاقة بين النحو والفقه، إذ برهن على العلاقة العضوية والتأثير المتبادل بين هذين العلمين، وكيف يقضي كل منهما إلى الآخر؟ إضافة إلى أهمية الحروف عند الفقهاء، وكيف يتوصل بالإعراب إلى فهم مراد المخاطب وإلى صحيح الأحكام ومقاصد الشريعة في كثير من أحايينه؟
واستعرض الباحث في الفصل الثاني حروف الجر في الدليل الفقهي مستهلاً إياه بذكر معنى كل حرف وأقوال النحاة، ثم ذكر اختلاف الفقهاء في الحكم الشرعي الذي كان هذا الحرف هو السبب أو كان مشاركاً في الخلاف فيه·
وفي الفصل الثالث والأخير تناول الباحث الحروف التالية:
الواو، الفاء، ثم، أو، إما، مستعرضاً أيضاً معنى كل حرف وأقوال النحاة ثم ذكر اختلاف الفقهاء في الحكم الشرعي الذي كان هذا الحرف هو السبب أو إذا كان مشاركاً في الخلاف فيه، ثم تحرير المسألة النحوية وصولاً إلى توجيهه ليوائم الرأي الراجح فقهياً·
النحو والإعراب والعلوم الإسلامية
أما أهم ما توصلت إليه الأطروحة، فيمكن إيجازه في النقاط التالية:
ـ ضرورة ربط النحو والإعراب بالعلوم الإسلامية الأخرى، والنأي عن التعقيدات والتأويلات المتعسفة انتصاراً للرأي النحوي، حتى يعود الدرس النحوي إلى مكانته الطبيعية في قلوب جميع الباحثين·
إن حروف المعنى تجيء للمعنى الأصلي الذي وضع لها أساساً، ولا مانع أن تجيء كذلك لمعان أخرى، وهذه الحقيقة تأكدت من خلال دراسة عدد من الحروف منها حرف الباء حيث تجيء للصلة وللتبعيض· فإذا كان جمهور النحاة يرون أن الباء في قوله - تعالى -: (وامسحو برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) صلة، فإن الباحث توصل إلى أنها في الآية نفسها للتبعيض ليس غير، خلافاً لما عليه الجمهور، وقد أفادت الدراسة بأن الباء تجيء للتبعيض ويؤكد ذلك أدلة واضحة من الكتاب والسنة، وبشهادة عدد من النحاة في القديم والحديث·
ـ رجحت الأطروحة أن من تفيد الغايتين المكانية والزمانية خلافاً لما عليه جمهور النحاة الذين رفضوا بشدة أن تجيء لغير الغاية المكانية·
ـ وتوصل البحث إلى أن في تجيء حقيقة ومجازاً، الأمر الذي يؤكد المذهب الفقهي الذي يرى جواز إخراج الزكاة من الذمة، دون حصرها في العين·
ـ توصلت الأطروحة كذلك إلى أن الواو خلافاً لما عليه جمهور النحاة تفيد الترتيب على الحقيقة في بعض حالاتها· وقد أقر بذلك خلق من نحاة البصرة والكوفة والفقهاء، منهم الإمام الشافعي وابن قيم الجوزية· وحجتهم في ذلك الآيات والشواهد الشعرية والنثرية·
ـ تأكيد أهمية السياق الذي يُراد فيه الحرف، وضرورة اللجوء إليه لاستكشاف الترابط العضوي بينه وبين المعاني الخفية التي تحملها، مع ترجيح الرأي الكوفي الذي يرى قبول فكرة تعدد معاني الحروف، على أن يكون ذلك بمعونة من القرينة، لأن القول: إن لكل حرف وضعاً خاصاً به لا يمانع أن يفيد غير ذلك، إذا سمح السياق الذي ورد فيه· وهذا ما أكده الزجاجي غير مرة في كتابه الإيضاح في علل النحو ·
ـ أكدت الأطروحة ضرورة التفريق بين آيات الأحكام والآيات التي لا تتضمن أي حكم شرعي، في معالجتنا وتقعيداتنا النحوية، لارتباط الأولى بالحقوق والعقود والعهود والمعاملات والجزاءات وغير ذلك، ولخلو الثانية من كل أولئك· فإذا كان القرآن الكريم معجزة خالدة في معناه ومبناه، فإن الحاجة إلى تدبر آياته التي تجمع بين الإعجاز والأحكام أشد·
وتوصلت إلى خطورة التسليم بأوائل الأقوال النحوية في الحروف والأدوات غفلاً·
ـ أكدت ضرورة قبول الرأي النحوي الذي يتفق والحكم الشرعي، وإن كان أقل حظاً وأندر أنصاراً، ومن فوائد هذا أن يبتعد الدرس النحوي عن التكلف والتعليلات المتعسفة، مع استبصار البعد الشرعي والفقهي في كل تقعيد أو حكم ندرسة أو نعممه·
والعناية بضرورة ربط النحو والإعراب بشقيقاتهما من العلوم الإسلامية الأخرى، والنأي عن الانتصار لرأي نحو على حساب حكم فقهي أو شرعي مهما كانت قوته·
إن هذا البحث جاء كمحاولة جادة ليحق للدرس النحوي حقه، ويعيده إلى محرابه، وينصف في الوقت نفسه الحروف التي لم تنل إلا حظاً قليلاً من الدراسة والتفتيش· استجلاء لدورها وكشفاً لأسرارها ووقوفاً على إعجازها·
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد