بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام، على قائد الغر المحجلين، نبينا محمد، وآله، ومن تبعه إلى يوم الدين، أما بعد:
فهذه قصة أعجبتني ذكرها الخطيب البغدادي - رحمه الله - قال ـ تاريخ بغداد 11/407 ـ:
أخبرنا الحسين بن محمد أخو الخلال حدثنا الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن العباس بالري أخبرنا عبد الله بن محمد الإيجي حدثنا محمد بن الحسن الأزدي أخبرنا أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني قال:
ورد علينا عامل من أهل الكوفة لم أر في عمال السلطان بالبصرة أبرع منه، فدخلت مسلما عليه، فقال لي: يا سجستاني من علماؤكم بالبصرة؟
قلت: الزيادي أعلمنا بعلم الأصمعي،
والمازني أعلمنا بالنحو،
وهلال الراي أفقهنا،
والشاذكوني من أعلمنا بالحديث،
وأنا رحمك الله أنسب إلى علم القرآن،
وابن الكلبي من أكتبنا للشروط،
قال: فقال لكاتبه: إذا كان غد فاجمعهم إلي،
قال: فجمعنا، فقال: أيكم المازني؟ قال أبو عثمان: هأنذا يرحمك الله، قال: هل يجزئ في كفارة الظهار عتق عبد أعور؟
فقال المازني: لست صاحب فقه رحمك الله أنا صاحب عربية،
فقال يا زيادي: كيف يكتب بين رجل وامرأة خالعها على الثلث من صداقها؟
قال: ليس هذا من علمي هذا من علم هلال الرأي،
قال يا هلال: كم أسند ابن عون عن الحسن؟
قال: ليس هذا من علمي هذا من علم الشاذكوني،
قال: يا شاذكوني من قرأ (يثنوني صدورهم)؟
قال: ليس هذا من علمي هذا من علم أبي حاتم،
قال يا أبا حاتم: كيف تكتب كتابا إلى أمير المؤمنين تصف فيه خصاصة أهل البصرة، وما أصابهم في الثمرة، وتسأله لهم النظر والنظرة؟
قال: لست رحمك الله صاحب بلاغة، وكتابه أنا صاحب قرآن،
فقال:
ما أقبح الرجل يتعاطى العلم خمسين سنة لا يعرف إلا فنا واحدا حتى إذا سئل عن غيره لم يجل فيه، ولم يمر، ولكن عالمنا بالكوفة الكسائي لو سئل عن كل هذا لأجاب.
وانظر: كتاب الأذكياء لابن الجوزي ص89 والمنتظم 9/172 ووفيات الأعلام لابن خلكان 2/432.
فليكن لنا معشر الأحبة عبرة من هذه القصة، ولا يعمد أحدنا إلى فن واحد يفني فيه كل وقته، أو معظمه، وهو بعد ذلك لن يحيط به! بل قد لا يحسنه!
فما أجمل بطالب العلم أن يكون ملما، ومطلعا على أكثر الفنون كـ: القرآن وعلومه، والحديث وعلومه، والعقيدة، والفقه وأصوله وقواعده، والعربية بفنونها المختلفة، والتاريخ وأخبار وسير الأوائل، والسلوك والزهد والآداب....
ولا يعني هذا نبذ التخصص لا، بل كما قيل:
خذ علما مِن كلِ علم ** ومن علمٍ, كل علمِ
وهذه المشكلة كما ترى قديمة جدا، وانظر ما قال ابن الجوزي ـ التحقيق في أحاديث الخلاف 1/22 ـ:
قال:.. كان السبب في إثارة العزم لتصنيف هذا الكتاب أن جماعة من إخواني و مشايخي في الفقه كانوا يسألوني في زمن الصبا جمع أحاديث التعليق وبيان ما صح منها و ما طعن فيه و كنت أتوانى عن هذا لشيئين أحدهما اشتغالي بالطلب، والثاني: ظني أن ما في التعاليق في ذلك يكفي فلما نظرت في التعاليق رأيت بضاعة أكثر الفقهاء في الحديث مزجاة يعول أكثرهم على أحاديث لا تصح ويعرض عن الصحاح ويقلد بعضهم بعضا فيما ينقل ثم قد انقسم المتأخرون ثلاثة أقسام:
القسم الأول: قوم غلب عليهم الكسل ورأوا أن في البحث تعبا و كلفة فتعجلوا الراحة واقتنعوا بما سطره غيرهم
والقسم الثاني: قوم لم يهتدوا إلى أمكنة الحديث وعلموا أنه لا بد من سؤال من يعلم هذا فاستنكفوا عن ذلك
والقسم الثالث: قوم مقصودهم التوسع في الكلام طلبا للتقدم والرئاسة واشتغالهم بالجدل والقياس ولا التفات لهم إلى الحديث لا إلى تصحيحه ولا إلى الطعن فيه وليس هذا شأن من استظهر لدينه وطلب الوثيقة من أمره ولقد رأيت بعض الأكابر من الفقهاء ويقول في تصنيفه عن ألفاظ قد أخرجت في الصحاح لا يجوز أن يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال هذه الألفاظ ويرد الحديث الصحيح ويقول هذا لا يعرف و إنما هو لا يعرفه ثم رأيته قد استدل بحديث زعم أن البخاري أخرجه وليس كذلك ثم نقله عنه مصنف آخر كما قال تقليدا له ثم استدل في مسألة فقال دليلنا ما روى بعضهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كذا و رأيت جمهور مشايخنا يقولون في تصانيفهم دليلنا ما روى أبو بكر الخلال بإسناده عن رسول الله و دليلنا ما روى أبو بكر عبد العزيز بإسناده و دليلنا ما روى ابن بطة بإسناده و جمهور تلك الأحاديث في الصحاح وفي المسند وفي السنن غير أن السبب في اقتناعهم بهذا التكاسل عن البحث و العجب ممن ليس له شغل سوى مسائل الخلاف ثم قد اقتصر منها في المناظرة على خمسين مسألة وجمهور هذه الخمسين لا يستدل فيها بحديث فما قدر الباقي حتى يتكاسل عن المبالغة في معرفته فصل و ألوم عندي ممن قد لمته من الفقهاء جماعة من كبار المحدثين عرفوا صحيح النقل وسقيمه وصنفوا في ذلك فإذا جاء حديث ضعيف يخالف مذهبهم بينوا وجه الطعن فيه وإن كان موافقا لمذهبهم سكتوا عن الطعن فيه وهذا ينبيء عن قلة دين وغلبة هوى. اهـ.
وانظر: ما كتبه العلامة حَمدُ بنُ سليمان الخطابي في مقدمة كتابه معالم السنن.
والكلام يطول، ويتشعب وفي المذكور إشارة فيها غنية للبيب.
وفي صيد الخاطر لابن الجوزي ص159:
فصل التخطيط لتحصيل العلوم النافعة:
رأيت الشَرِهَ في تحصيلِ الأشياءِ يفوتُ الشَرَهُ عليه مقصوده.
وقد رأينا من كان شرها في جمع المال = فحصل له الكثير منه، وهو مع ذلك حريص على الازدياد.
ولو فهم علم أن المراد من المال إنفاقه في العمر، فإذا أنفق العمر في تحصيله فات المقصودان!
وكم رأينا من جمع المال ولم يتمتع به، فأبقاه لغيره، وأفنى نفسه، كما قال الشاعر:
كدودة القز ما تبنيه يهدمها * وغيرها بالذي تبنيه ينتفع
وكذلك رأينا خلقا يحرصون على جمع الكتب فينفقون أعمارهم في كتابتها، وكدأب أهل الحديث ينفقون الأعمار في النسخ والسماع إلى آخر العمر ثم ينقسمون:
1- فمنهم من يتشاغل بالحديث وعلمه وتصحيحه، ولعله لا يفهم جواب حادثة ولعل عنده للحديث \" أسلم سالمها الله \" مائة طريق.
وقد حكي لي عن بعض أصحاب الحديث أنه سمع جزء بن عرفة عن مائة شيخ، وكان عنده سبعون نسخة.
2- ومنهم من يجمع الكتب ويسمعها ولا يدري ما فيها من صحة حديثها، ولا من فهم معناها فتراه يقول الكتاب الفلاني سماعي، وعندي له نسخة، والكتاب الفلاني والفلاني، فلا يعرف علم ما عنده من حيث فهم صحيحه من سقيمه.
وقد صده اشتغاله بذلك عن المهم من العلم فهم كما قال الحطيئة:
زوامل للأخبار لا علم عندها * بمثقلها إلاّكعلم الأباعر
لعمرك ما يدري البعير إذا غدا * بأوساقه أو راح ما في الغرائر
ثم ترى منهم من يتصدر بإتقانه للرواية وحدها فيمد يده إلى ما ليس من شغله، فإن أفتى أخطأ، وإن تكلم في الأصول خلط.
ولولا أني لا أحب ذكر الناس لذكرت من أخبار كبار علمائهم، وما خلطوا ما يعتبر به، ولكنه لا يخفى على المحقق حالهم.
فإن قال قائل: أليس في الحديث: \"منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا\".
قلت: أما العالم فلا أقول له اشبع من العلم ولا اقتصر على بعضه.
بل أقول له: قدم المهم فإن العاقل من قدر عمره وعمل بمقتضاه، وإن كان لا سبيل إلى العلم بمقدار العمر غير أنه يبني على الأغلب.
فإن وصل فقد أعد لكل مرحلة زادا، وإن مات قبل الوصول فنيته تسلك به.
فإذا علم العاقل أن العمر قصير وأن العلم كثير فقبيح بالعاقل الطالب لكماله الفضائل أن يتشاغل مثلاً بسماع الحديث ونسخه ليحصل كل طريق وكل رواية وكل غريب.
وهذا لا يفرغ من مقصوده منه في خمسين سنة خصوصا إن تشاغل بالنسخ.
ثم لا يحفظ القرآن.
أو يتشاغل بعلوم القرآن ولا يعرف الحديث.
فإن قال قائل: فدبر لي ما تختار لنفسك.
فأقول: ذو الهمة لا يخفى من زمان الصبا.
كما قل سفيان بن عيينة: قال لي أبي - وقد بغت خمس عشرة سنة - إنه قد انقضت عنك شرائع الصبا فاتبع الخير تكن من أهله، فجعلت وصية أبي قبلة أميل إليها ولا أميل عنها.
ثم قبل شروعي في الجواب أقول: ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من التقصير الممكن دفعه عن النفس.
فلو كانت النبوة مثلا تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية.
أو تصور أن يكون مثلا خليفة لم يحسن به أن يقتنع بإمارة.
ولو صح له أن يكون ملكا لم يرض أن يكون بشرا.
والمقصود أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن لها في العلم والعمل.
وقد علم قصر العمر وكثرة العلم فيبتدىء بالقرآن وحفظه وينظر في تفسيره نظرا متوسطاً لا يخفى عليه بذلك منه شيء.
وإن صح له قراءة القراءات السبعة، وأشياء من النحو وكتب اللغة، وابتدأ بأصول الحديث من حيث النقل كالصحاح والمسانيد والسنن ومن حيث علم الحديث كمعرفة الضعفاء والأسماء فلينظر في أصول ذلك.
وقد رتبت العلماء من ذلك ما يستغني به الطالب عن التعب.
ولينظر في التواريخ ليعرف ما لا يستغني عنه كنسب الرسول ? وأقاربه وأزواجه وما جرى له.
ثم ليقبل على الفقه فلينظر في المذهب والخلاف وليكن اعتماده على مسائل الخلاف فلينظر في المسألة وما تحتوي عليه فيطلبه من مظانه كتفسير آية وحديث وكلمة لغة.
ويتشاغل بأصول الفقه وبالفرائض وليعلم أن الفقه عليه مدار العلوم.
ويكفيه من النظر في الأصول ما يستدل به على وجود الصانع فإذا أثبته بالدليل وعرف ما يجوز عليه مما لا يجوز وأثبت إرسال الرسل وعلم وجوب القبول منهم فقد احتوى على المقصود من علم الأصول.
فإن اتسع الزمان للتزيد من العلم فليكن من الفقه فإنه الأنفع.
ومهما فسح له في المهل فأمكنه تصنيف في علم فإنه يخلف بذلك خلفه خلفاً صالحاً.
ثم يعلم أن الدنيا معبرة فيلتفت إلى فهم معاملة الله - عز وجل - فإن مجموع ما حصله من العلم يدله عليه.
فإذا تعرض لتحقيق معرفته ووقف على باب معاملته فقل أن يقف صادقاً إلا ويجذب إلى مقام الولاية.
ومن أريد وفق.
وإن الله - عز وجل - أقواماً يتولى تربيتهم ويبعث إليهم في زمن الطفولة مؤدباً ويسمى العقل.
ومقوماً ويقال له الفهم ويتولى تأديبهم وتثقيفهم ويهيء لهم أسباب القرب منه.
فإن لاح قاطع قطعهم عنه حماهم منه، وإن تعرضت بهم فتنة دفعها عنهم.
فنسأل الله - عز وجل - أن يجعلنا منهم ونعوذ به من خذلان لا ينفع معه اجتهاد. اهـ
قال العلامة ابن حزم: من اقتصر على علم واحد لم يطالع غيره = أوشك أن يكون ضحكة، وكان ما خفي عليه من علمه الذي اقتصر عليه أكثر مما أدرك منهº لتعلق العلوم بعضها ببعض، كما ذكرنا، و أنها درج بعضها إلى بعض كما وصفنا، ومن طلب الاحتواء على كل علم = أوشك أن ينقطع وينحسر ولا يحصل على شيء، وكان كالمحضر إلى غير غاية إذ العمر يقصر عن ذلك، وليأخذ من كل علم بنصيب، ومقدار ذلك معرفته بأغراض ذلك العلم فقط، ثم يأخذ مما به ضرورة إلى ما لابد له منه كما وصفنا، ثم يعتمد العلم الذي يسبق فيه بطبعه وبقلبه وبحيلتهº فيستكثر منه ما أمكنه، فربما كان ذلك منه في علمين أو ثلاثة أو أكثر على قدر زكاء فهمه، وقوة طبعه، وحضور خاطره، وإكبابه على الطلب، وكل ذلك بتيسير الله - تعالى -فلو بإرادة المرء كان، لكان ُمنى كل أحد أن يكون أ فضل الناس.
والفهم والعناية مقسومان كقسمة المال والحال:
* والحظ مقسوم فأجمل في الطلب*
ثم قال ص 83: وإن لم يكن للمرء الإحاطة بجميعها فليضرب في جميعها بسهم وإن قل.
ثم قال ص89: أما من طلب علما ما لم يفتح الله - تعالى -له في غيره، وهو مع ذلك معترف بفضل سائر العلوم، ونقص حاله إذا أقصر عنها، فهو محسن محمود فاضل قد تعوض الإنصاف والعدل والصدق مما فاته منها، فنعم العوض ما حصل عليه، ولا ملامة عليه فيما لم يفتح الله - تعالى -له فيه، وأما من أخذ من كل علم ما هو محتاج إليه واستعمل ما علم كما يجب = فلا أحد أفضل منهº لأنه قد حصل على عز النفس وغناها في العاجل وعلى الفوز في الآجل، ونجا مما حصل فيه أهل الجهل، ولم يستعمل ما علم من أضداد هذه الأحوال. اهـ
وقد جمع كثير من أهل العلم بين معظم العلوم، وتبحروا فيها، ولم يقتصروا على فن واحد، فهل لنا أن نقتدي بهم؟
أرجو من الله التيسير، والتوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد