العلم والتعليم


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله المبتدئ بالنعم بارئ النسم، الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ نبينا محمد عبده ورسوله الأمي الذي علم المتعلمين فكانت الأمية في حقه شرفاً ومدحاً وفي حقِّ غيره عيباً وذماًº لأنَّ الله أراد له أن يتلقى العلم منه فيكون علمه ربانياً إلهياً لا شبهة فيه بتعليم بشر (وَلَقَد نَعلَمُ أَنَّهُم يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلحِدُونَ إِلَيهِ أَعجَمِيُّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيُّ مُبِينٌ)، - صلى الله وسلم عليه - وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فغداً تستأنف رحلة العلم وتبدأ مسيرة الفكر وتتجدد عزيمة الطلاب وتفتح حصون التعليم وتهيأ قلع المعرفة.

غداً تكون انطلاقة رجال العلم وإشراقة حملة الفكر، وميدان رواد التربية، ولقاء مشاعل الهدى، ووضاءة مصابيح الدجى جعلها الله انطلاقة رشيدة وبداية حميدة ورحلة سعيدة.

يبرق فجر ذلك اليوم والناس أمامه أصناف والمستقبلون له ألوان بين محب وكاره، ومتقدم ومحجم، ومتفكر ومتحير، ومتفائل ومتشائم، وسعيد وتعيس.

بداية طريق العلم والتعليم تثير في النفس أفكاراً متعددة وخواطر متنوعة، ولا أمتع من العلم وأخباره والفكر وثماره والبحث وأسراره والفقه وأنواره.

دعونا نتأمل وإياكم شيئاً من أخبار العلم ومنزلته في ديننا إنها المنزلة العظمى والمرتبة الأسمى والدرجة العليا.

تعالوا بنا اليوم لنعيش مع العلم ومنزلته والعلماء وفضلهم لعل في ذلك تحريكاً للنفوس وشحذاً للهمم وتذكيراً للقلوب واستلهاماً للماضي وإعماراً للحاضر وإدراكاً للواجب واعترافاً بالتقصير واستدراكاً للتفريط، قال الإمام العلامة ابن القيم - رحمه الله -: \"العلم هادٍ, وهو تركة الأنبياء وتراثهم وأهله عصبتهم ووراثهم وهو حياة القلوب ونور البصائر وشفاء الصدور ورياض العقول ولذة الأرواح وأنس المستوحشين ودليل المتحيرين وهو الميزان الذي به توزن الأقوال والأعمال والأحوال وهو الحاكم المفرق بين الشك واليقين والغي والرشاد والهدى والضلال، به يعرف الله ويعبد ويذكر ويوحد، ويحمد ويمجد، به اهتدى إليه السالكون، ومن طريقه وصل غليه الواصلون، به تعرف شعائر الأحكام، ويتميز الحلال من الحرام، به توصل الأرحام، وبه تعرف مراضي الحبيب، وبمعرفتها ومتابعتها يوصل إليه من قريب.

 

هو إمام والعمل مأموم، وهو قائد والعمل تابع، وهو الصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والأنيس في الوحشة، والكاشف في الشبهة، والغنى الذي لا فقر على من ظفر بكنزه، والكهف الذي لا ضيع على من أوى إلى حرزه.

مذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذله صدقة، مدارسته تعدل الصيام والقيام، والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام\".

 

العلم سلم قصد المجد كم سطعت *** بنوره من كيانات iiوبلدان

والعلم في ديننا عنوان روعته *** وفي هدى المصطفى تحضى ببرهان

واقرأ عن العلم في القرآن تلمحه *** في قصة الخضر مع موسى بن عمران

إن ديننا الإسلامي دين العلم والتعليم والهداية والإرشاد والنور والبرهانº ولذلك نرى أن انطلاقة الوحي وإطلالة النور ونزول القرآن إعلان لأهمية العلم وقيمة القلم وشأن القراءة فتهبط الآيات الأولى على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - مستهلة بقوله – تعالى -: (اقرَأ)، فلا أمية بعد اليوم ولا استسلام للجهل ولا ركون للظلام والضلال، (اقرأ) فإنَّ هذا الدين عنوانه القراءة ودستوره القرآن وروحه العلم وآلته القلم وآفته الجهل (اقرَأ بِاسمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِن عَلَقٍ, (2) اقرَأ وَرَبٌّكَ الأَكرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَم يَعلَم).

 

ويقسم الله - تبارك وتعالى - بالقلم إعلاءً لشأنه فالقلم هو طريق العلم والتعلم (ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعمَةِ رَبِّكَ بِمَجنُونٍ,).

وهذا الدين يرفع شأن العلم وأهله (يَرفَع اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجَاتٍ,)، ويمقت الجهل وأهله (فَلا تَكُونَنَّ مِن الجَاهِلِينَ)، (قُل هَل يَستَوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعلَمُونَ)، ويقصر معرفة الله حقَّ المعرفة وخشية الله عين الخشية على العلماء (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، هذا الدين يدعو إلى العلم قبل العمل (فَاعلَم أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ).

وهذا إمام العلماء وخاتم الرسل والأنبياء يدعو أمته إلى نور العلم ودوحة القراءة وميراث النبوة وينبوع الحكمة ونفض غبار الجهل (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنهُم...الآية).

وها هو يملأ الأسماع والقلوب بأحاديثه العطرة التي يبين فيها أهمية العلم وبركته ونوره يقول - صلى الله عليه وسلم -: \"من سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك الله به طريقاً من طرق الجنة، وإنَّ الملائكة لتضع أجنحتها رضىً لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر\" أخرجه أبو داود والترمذي.

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \" لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها\" أخرجه البخاري.

العلماء هم ورثة الأنبياء وقدوة الأتقياء وأولى الأولياء بهم تستضيء البلدان ويدعى إلى الإيمان ويدل على الرحمن.

أعظم الناس خشية للعلام وأكثرهم بركة على الإسلام عملوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط الحلال والحرام، هم في الأرض كالنجوم في السماء وكالدواء للداء، وكالضياء في الظلماء.

نقلهم ظاهر، وسلطانهم قاهر، ودليلهم باهر، يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويبصرون من هم على الأذى، يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من تائه قد هدوه، ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، هم سرج الأزمنة، فكل واحد منهم مصباح زمانه، وسراج ميدانه، هم أرحم بأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من آبائهم وأمهاتهمº لأنَّ الآباء والأمهات يحفظون أبنائهم من نار الدنيا وأوصاب الحياة، والعلماء يحفظونهم من نار السعير ومن تعاسة المصير.

لم يورث الأنبياء درهماً ولا ديناراً إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر، فيا لله ما أعظم الورث وما أسعد الوارث، إنه أنس المجالس، وبهجة المُجالس، ما ظنك بقوم استشهد بهم المعبود على أعظم مشهود، فقال -جلَّ من قائل-: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُوا العِلمِ قَائِماً بِالقِسطِ... الآية.

فلم يستشهد بذوي الجاه ولا بذوي النسب العريق، ولا بذوي المال العريض، ولا بذوي السلطان الكبير، إنما استشهد بذوي العلم وحملة المعرفة فالعلماء كنز الملة، وحفَّاظ السنة، وحملة الشريعة.

أهل الجاه يذهب قدرهم بذهاب جاههم، وأهل المال تموت قيمتهم بموتهم، أما العلم فلا ينتهي سببه ولا ينقطع نسبه، ولا ينقضي خيره، ولا يخفض صيته، ولا ينقطع أجره عن أهله، وأهله في درجات عالية في الدنيا والآخرة، [يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).

وجدوا أنسهم وسعادتهم في تنقيح العلم وتأمل المسائل فهم منار سبيل الجنان، وأقرب الناس إلى الديان، وأعدى أعداء الشيطانº لأنَّ الشيطان لا يستطيع التلبيس عليهم، هم في الخير قادة، وفي الهدى سادة، يُقتدى بأفعالهم وأقوالهم، وتُقص آثارهم، وترقق أعمالهم، وترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تحفهم وكل رطب ويابس يستغفر لهم، فكفى بذلك شرفاً وفخراً.

 

فأين المشمرون؟ وأين الجادون المخلصون؟ وأين الواردون الناهلون؟

 

ومع إقبال سنة دراسية جديدة تتجدد طروحات ماكرة وأفكار سيئة تُنشر في بعض الصحف ووسائل الإعلام: من مقالات وتصريحات تتهم التعليم الديني الشرعي بتفريخ الإرهاب والغلو والتطرف، وهذه مكابرة ومحاولة مكشوفة لاستغلال الأحداث المحلية والدوليةº لأنَّ كثيراً من هؤلاء الذين يطرحون أمثال هذه الأفكار قلوبهم مريضة حاقدة على الخير وأهله يريدون تقليص العلم الشرعي والذي هو خير مانع في الحقيقة لكل غلو وتطرف وشطط ولكنَّ هؤلاء يكرهون الدين أصلاً علماً وعملاً ويريدون للمجتمع أن يكون لا دينياً ويأبى الله ذلك بحوله وقوته ومشيئته ويطرح هؤلاء ضرورة تغيير المناهج الدينية بحذف أشياء نصَّ عليها الكتاب والسنة رغبة في إرضاء الغرب واستجابة لإملاءاتهم وقد أخبرنا الله عن الكافرين فقال: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).

فهل يريد هؤلاء أن نتبع ملتهم حتى يرضوا عنَّا؟

ومما يطرحه هؤلاء الكتاب أنهم يرون أنَّ المدارس والمعاهد والجامعات لا يصلح أن يكون فيها توعية إسلامية ولا برامج تربوية ويزعمون أنَّ في هذا اختطافاً للتعليم كما يعبرون، وأنَّ في هذا تعليماً لما يسمونه بالمنهج الخفي فهل يسوغ هؤلاء أن يرشد الطلاب إلى دينهم وأن يوجهوا للمحافظة على إسلامهم وأن يربوا على القيم والأخلاق والفضيلة أم يريد هؤلاء الكتاب -هداهم الله- أن تكون برامج الأنشطة رقصاً وموسيقى واختلاطاً بل وأن يوجه المدرسون طلابهم إلى أفكار شيوعية أو قومية أو علمانية بدلاً من الأفكار الإسلامية، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟

ومع بداية عام جديد تبدو الحاجة ملحة والضرورة ماسة إلى أن يتدخل المسؤولون على أعلى المستويات أن يتدخلوا لحل معضلة القبول في الجامعات والكليات بتوسيع الجامعات والكليات القائمة، وتزويدها بالأمكنة والإمكانيات، وفتح مزيد منها دون تردد ولا إبطاء ولا تأخير لاستيعاب الأعداد المتزايدة من الطلاب فهل يُعقل أن يبقى عشرات الآلاف من شبابنا وأبنائنا وطلابنا بلا تعليم جامعي لضيق الفرص أمامهم ليتلقفهم الفراغ والضياع والتشرد وليكونوا من رواد الشوارع والبطالة وما تولوه من مفاسد ومشكلات تقض مضاجع الطلاب وأسرهم والمجتمع بعامة.

إنَّ بلادنا وأمتنا بحاجة إلى هؤلاء الشباب لتعليمهم وتدريبهم في التعليم الشرعي والعلمي والمهني والتقني وغير ذلك مما ينفع الأمة ويغنيها عن الآخرين ويوفر مصدر دخلٍ, لهؤلاء، واستغلالٍ, لشبابهم ووقتهم، وإزالةِ معاناة قاسية مرَّة عنهم وعن أسرهم، نسأل الله أن يكون ذلك قريباً.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply