عن إذنك بعض عمرك


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

كلمّا وقعت نازلة - وما أكثر النوازل- تجيء زرافات ممن يفترض أنهم طلاب علم إلى أهل العلم بمطلب غريب، فليس الطلب هو بيان الحكم الشرعي الذي يراه في النازلة، أو بيان أمر أشكل عليه.

ولكن خلاصة الطلب: أيها الشيخ اختر واحداً مما يلي: إما أن تتبع أقوال المخالفين، ومن ثم ترد على جميع شبههم، أو تصوب أقوالهم وتبدي موافقتهم، أو على الأقل تسكت عن مخالفتهم! وإن لم تفعل ذلك ففي مشيختك نظر مع احترامنا للسنوات التي قضيتها بين طيات الكتب، ودفات الدفاتر! ربما لم يكن أسلوب الطلب بهذه الصورة، ولكن هذه هي المحصلة.

فالمطلوب من الشيخ حتى يثبت أنه شيخ فعلاً، أن يؤيد كل ناعق، أو يترك دروسه ومشاريعه، ويخرج عن استراتيجيته التي ارتضاها في التعليم والبناء ليتعامل بردود الأفعال فيتتبع أقوال المخالفين قولاً قولاً، ومن ثم يقوم بتفنيدها ودحرها فقرة فقرة، ثم عليه أن يتابع الجديد ليكون دائماً صاحب الرد الأخير، أو يسكت رغم مخالفته فلا يبين الحكم الذي يرتئيه، وعندها فقط يثبت للجموع أنه العالم الشهير والعلامة النحرير!

وفي الحقيقة يمكن صياغة الخيارات الماضية على نحو آخر:

إما أن تصرف عمرك في الرد على الشبه وجواب الردود، أو تبين الحكم أو المنهج الذي ينبغي أن يسلكه السائل، ومن ثم تنصرف للتعلم والتعليم.

وقد أصبح صاحب الخيار الأخير ليس من أهل العلم عند بعض خزائن الأخطاء ومحصلات الشبه!

ويتسع الخرق عندما ينشغل بالردود بعض طلاب العلم، فيقطعهم الرد عن الطلب، فبحر الردود ساحله بعيد وقعره سحيق، قلَّ أن يدخله أحد بغير آلة محكمة ثم يخرج منه سالماً.

ولأن بعض الناشئة استفزه التخيير الذي أشير إليه، فلا تعجب إن رأيته يسرد الأدلة ويذكر الأقوال والنقول في حكم مسألة من نوازل العصر، ربما جمع لها عمر أهل بدر، وربما أحجم كبار أهل العلم عن الخوض فيها، وبالمقابل لو سألته عن شروط بعض العبادات أو المعاملات التي تمر عليه في يومه وليلته مرات لما أحسن الجواب، وهذه نتيجة طبيعية لمن قطع طريق الطلب، وفضل أن يدور ويصول داخل حلبات أشباه المتعلمين التي يكثر مشاهدوها ومشجعوها ومصفقوها!

ويزداد الأمر سوءاً عندما يدخل في معمعة الأخذ والرد من ليس في العير ولا في النفير، ولكنه رجل كما أن غيره رجال! وأهم ما يميز هذا الصنف الأخير، هو (شجاعته) التي تقحمه المعامع بغير آلة، ومثل هذا مهما قررت له، فلن يستفيد كثيراً، خاصة وأنه لا يملك الآلات، ولعل هذا ما حدى بالحسن عندما جاءه ذلك الرجل، فقال: يا أبا سعيد، إني أريد أن أخاصمك، أن يقول: إليك عني فإني قد عرفت ديني، وإنما يخاصمك الشاك في دينه (1)، وقال الآخر: أمسك الشمس أكلمك! ولعله من المناسب اختصار جوابيها في عبارة \"لن أدخل الحلبة\".

والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يصر كثيرون على دخول، بل على إقحام غيرهم في هذه الحلبات؟ ولماذا يصفق الكثيرون لروادها؟ ما الذي أحدث هذا الفهم، بل(عدم الفهم)؟

لاشك أن من أسباب ذلك عدم أخذ العلم عن أهله العاملين أو جفاؤهم والبعد عنهم.

ولكن ليس هذا هو السبب الوحيد، بل ربما وجدت أسباب يتحمل بعض أهل العلم أعباؤها، ومن أهمها: صد الطالب وزجره عند السؤال بدون تبرير أو بيان يرشده إلى المنهج الحق، غير مفرقين في ذلك بين من يريد معرفة أمر من أمور دينه أشكل عليه، وبين المجادل المليء بالشبه، صاحب الأغراض والأهواء، الذي جاء ليثبت نفسه، أو يدخل معركة في حلبة جديدة.

فهذا سبب من أسباب هذه الظاهرة، كما أن الاسترسال في جواب بعض الطلاب أو الدخول في بعض الحلبات سبب آخر، خاصة مع أولئك الذين يحتاجون إلى بناء قاعدة صلبة ينطلقون منها لفهم النصوص، وقد قيل: الحسنة بين سيئتين، وخير الأمور أوسطها، وشر السير الحقحقة.

ولو تأملنا حال سلفنا - رضوان الله عليهم - لوجدنا حسن تربيتهم لطلابهم على منهج وسط، فلا إغفال لتعليم الناس ما أشكل عليهم، ولا استرسال أو استغراق وتضييع للأوقات، وأيضاً لا صد أو جفاء بغير تبيين للمنهج الأرشد الذي ينبغي أن يسلكه الطالب، فهذا إمام دار الهجرة يلحقه رجل متهم بالإرجاء، وهو يقول: اسمع مني!

فقال: أحذر أن أشهد عليك.

قال: والله ما أريد إلا الحق، فإن كان صواباً فقل به.

قال: فإن غلبتني؟

قال: اتبعني.

قال: فإن غلبتك، قال: اتبعتك.

قال: فإن جاء رجل فكلمنا فغلبنا؟

قال: اتبعناه.

فقال مالك: \"يا هذا إن الله بعث محمداً - صلى الله عليه وسلم - بدين واحد وأراك تتنقل\" (2).

وتنقل مثل هذا أمر طبعي، فمن لم يثن ركبتيه عند أهل العلم، فمن أين يتعلم تخريج المسائل؟

ولهذا أثر عن عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - قوله: \"من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل\"(3).

وأمثال هذه الآثار يكثر السلف من ذكرها في بدء تآليفهم حول المسائل التي خالف السلفَ فيها أهل الأهواء، وكأنهم ينبهون الطالب إلى العناية بمنهج التأصيل وأهمية التحصيل، ويحذرونه من التعامل مع أصحاب الشبه ودعاة الاسترسال في الجدل والردود، فإن عاقبة من كانت هذه حاله ألا تستقر له حال، فهو متنقل بين المذاهب والأقوال، أحسن أحواله أن يصدق فيه قول القائل:

وأنت فمجوال على كل مذهب         كما جال في فضل البساتين ضفدع!

ولكن مع ذلك أبت خلوف إلاّ أن تخالف طريق السلف، فكانت النتيجة أنه لا علم استفادوا ولا شبه انتقلوا عنها، ومن انتقل فما أسرع أن يتحول لينتقل من جديد، يقول ابن قتيبة:\" وكنت أسمعهم يقولون: إن الحق يدرك بالمقايسات والنظر، ويلزم من لزمته الحجة أن ينقاد لها، ثم رأيتهم في طول تناظرهم وإلزام بعضهم بعضاً الحجة في كل مجلس مرات لا يزولون عنها ولا ينتقلون\"(4).

ولما غفل الناس عن هذا غدا ما ذكره ابن قتيبة واقعاً يشاهده الناس، فهذه بلاد الإسلام وتلك جماعاتها التي ارتضت مناهج متباينة في التغيير والإصلاح، رجالاتها بين أخذ ورد، طالت المناظرات، وضاعت السنوات، ومضت الأعمار، وطلابهم لا يعرف أحدهم أركان الصلاة وشروطها فضلاً عن بقية العبادات وسائر المعاملات، ومع ذلك قد يجادل أحدهم فيما يخرج به غيره عن الدين! وبعد ذلك كله الحال هو الحال، لم تندمج الجماعات، بل التشعب والتصدع والانقسامات في ازدياد.

وإذا اشتغل الناس بالهدم، وتركوا البناء، فما الذي يرجى غير هذا؟

أخي الكريم مهما استرسلت في جواب الشبه فلن تأتي إلاّ على نزر يسير، ولن تكون صاحب الرد الأخير، ابن تيمية – وهو شيخ الإسلام- كاد ألا يوجد له كلام في فرق كاملة كان لها انتشارها الواسع كالماتوريدية مثلاً، ولم يقل أحد أنه قصر في واجبه!

وبالمقابل ما أعظم غبنك إن جهلت ما ينفعك وتركت العمل بما يرفعك عند الله درجاتº لتخوض مع الذين خاضوا.

أخي طالب العلم:

إذا جاءك سائل، فقال بلسان الحال: عن إذنك بعض عمرك! فاقرأ له سورة العصر، فإن رأيت علامات التعجب تتعالى، أو أبدى لك عدم الفهم، فقل له: كان بعض الفضلاء يؤنب ابنه ببيت ابن هبيرة:

الوقتُ أنفسُ ما عنيتَ بحفظه    وأراه أسهلَ ما عليك يضيعُ 

فإن لم يفهم وأصر على جدالك، فقل: \"كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً\".

 

-----------------------------------------------------

(1) اعتقاد أهل السنة 1/128.

(2) سير أعلام النبلاء 8/106.

(3) سنن الدارمي 1/102 رقم (304).

(4) تأويل مختلف الحديث ص63.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply