بسم الله الرحمن الرحيم
يعيش في بيت الشاعر هر أليف..غاب هذا الهر عن المنزل شهراً كاملاً على غير عادته..وفي يوم من الأيام سمع الأطفال مُواءهُ على الباب فخرجوا متصايحين متدافعين ليفتحوا له الباب.. وخرج الشاعر يستقبله ويسأله:
ادخل رعاك الله يا هرٌّ *** طال الغياب وفي الجوى جَمرُ
فارقتنا شهراً.. وما أَلِفَت *** نفسي فراقاً طوله شهر.. !
ماذا دهاك؟ وهل لقيتَ أذىً *** حتى تركتَ البيتَ؟ ما السرٌّ؟
*** *** ***
أَتُرى وقعتَ بحب شاردةٍ, *** حسناءَ في ألحاظها أسر؟
صادفتَها عند الرصيفِ وقد *** مالت.. فمال القلب والثغر
ماءت.. فَمُئتَ ودار بينكما *** همسٌ... وهمس كِلَيكما جهر
فَمَشَت. وسِرت وراءها وَلِهاً *** وبشائر الآمال تفترّ
ألفيتَها في بيت سيّدها *** كحمامةٍ, يصطادها نسر
حتّى إذا ملَّت.. وقد وَجَدَت *** منك الفتورَ.. تحطّم الجسر
طردتك زاهدةً.. فعُدت لنا *** لولا الجفا.. ما عُدتَ يا هرَ
*** *** ***
أتُراكَ كنت بقصر ذي نَشَبٍ, *** رجلٍ, كريمٍ, مالُهُ وَفرُ
ووجدتَ أصنافَ الطعام فلا *** بُخلٌ يقترها ولا حظر
شتّان بين فُتاتِ مطبخنا *** الخاوي وما يُلقي به القصر
كم لاطفوك وأنت مغتبطٌ *** جذلانُ لا ضربٌ ولا نهر
وتنام فوقَ سرير سيّدةٍ, *** يحنو عليك بدفئه الصدر
حتى إذا رحلوا بنعمتهم *** أَضحَت همومكَ ما لها حصر
والجوع أبدى ناجذيه فلا *** لحمٌ تفوز به ولا فأر
فذكرتَ عند الجوع مطبخَنا *** لولا الطوى ما عُدتَ يا هرّ
*** *** ***
أَتُرى مواءك كان مرتفعاً *** رَفعُ المواءِ نتاجه ضرّ
ولربَّما بعضُ المواءِ له *** معنىً يُسيء لمن له الأمر
وضعوك في زنزانةٍ, غضباً *** ضاقت عليك كأنّها قبر
قد ذقتَ ألوانَ العذاب بها *** فاليومُ ضِمنَ سجونهم دهرُ
حتى إذا اكتشفوا البراءة من *** فحوى غبائكَ وانتهى الجورُ
فكوا قيودك ثُمّة اعتذروا *** فشكرتَهم وتكررّ الشكر
تلك السجون حَبَتكَ حكمتها *** أنّ المواءَ بأرضنا كفر
لو كنتَ مثلَ خروف جارتنا *** لسلمتَ لم ينزل بك الضيرُ
أُنظُر إليه في سعادته *** يغفو.. ويسترخي.. ويجتر
كم علّمونا في مداجنهم *** أنَّ السكوتَ على الأذى تِبرُ
ورجعتَ غيرَ مصدِّقٍ, أبداً *** لولا الدٌّعا ما عُدتُ يا هرّ
*** *** ***
أتراكَ أغضبتَ المرور هنا *** ومررتَ قسراً حينما مرّوا
وشرعتَ (بالتفحيط) لم تحفِل *** بإشارة التنبيه تحمرّ
وضعوكَ في سجن المرور وقد *** طال المُقام وضامك الأسر
وعزاءُ من يُلقَى بفندقهم *** أنّ المرور سجونُهُ حَشرُ
ونَسُوك.. لا همٌّ يؤرّقهم *** مَنّ أنت؟ لا شأنٌ ولا قَدرُ
لو كنتُ أعلم جئت ملتمساً *** ودعوتُ أصحابي وهم كُثر
ليوسِّطوا ذا الشأنِ صاحبهم *** فبهاتفٍ, يتضاءل الوزر
مَضَتِ الليالي لم يَبِن أَمَلٌ *** وكأنّ ليلك ما له فجر
وَجرَتَ دموعُك في محاجرها *** ممّا جرى.. وتبدّد الصبر
نظر الرقيب وقال حكمته *** وحنا عليك فناله الأجر:
اثنانِ لا تخرِق نظامهما: *** الدّينُ -يا فهمانُ- والسَّيرُ
ورجعتَ نحوَ البيتِ منطلقاً *** لولا الرضا ما عُدتَ يا هرّ
*** *** ***
أَتُرى غدوتَ تهيمُ في كرةٍ, *** جوفاءَ حيث الكرّ والفرّ
كرةٍ, بها الأنظار عالقةٌ *** فَهُمُ العبيدُ وطيشها حرّ
حَمِيَ الوطيسُ وثار ثائرهم *** فكأنّها اليرموكُ أو بَدرُ
شَغبٌ وتصفيقٌ وهمهمةٌ *** في جوِّها الغوغاءُ قد سُرّوا
حتى إذا انتصر الفريق طَغَت *** حُمّى الجنونِ وعربد الفخر
وحماسة الجمهور ترجمها *** صَدمٌ وضربٌ فيك أو عَصرُ
ورماك تحت نعالهم أَلَمٌ *** وإصابةٌ في الرأس بل عشر
واستقبل الإسعاف ما حملت *** سيارة الإسعاف و \" المكرو \"
وبقيتَ شهراً في معالجةٍ, *** إنّ العلاج أقّله شهر..
ورجعتَ نحو البيت منكسراً *** لولا الشفا ما عدتَ يا هرّ
*** *** ***
أَتُرى ذهبتَ إلى المطار وقد *** أغراكَ ما يلغُو به السَّفرُ
عن بلدةٍ, في الأرض قاصيةٍ, *** لكنّها للمشتهي شِبرُ..
فاض الجمالُ على شواطِئها *** ومِنَ الفنادقِ يشرقُ السحر
فحِسانُها في ساحها بحر *** وطريقها بحسانه نهر
دوّى برأسك بعض ما وصفوا *** والغِرٌّ بالأهواءِ ينجرّ
فحشرتَ نفسك في زحامِهمو *** وصعدتَ مستتراً فلم يَدرُوا
وجلستَ بين (العفش) مختبئاً *** والحرٌّ يصبر حين يُضطَرٌّ
واستقبَلَت (بَنكوكُ) فارسَها *** ومشى بها فانتابه كِبرُ
حَلُمَ الغبيُّ بأنّ مغنَمها *** سَهلٌ وأنّ عسيرها يُسرُ
سينال شهوتَهُ بلا حَرَجٍ, *** فهناك لا نَهيٌ ولا زَجرُ
*** *** ***
وَقَفَت أمامك هرةٌ تزهو *** بجمالها وسلاحها مَكرُ
فكأنَّ شعر جبينها زهرُ *** وكأنّ دورةَ وجهها بدر
ماءت فلم تَفهَم.. ومُئتَ فما *** فَهِمَت.. فغاض بوجهك البشرُ
\" وتعطّلت لغةُ الكلام \" فلا *** نثرٌ يوضّحها ولا شعر
نَظَرَت إليك فأبصرت ذَكَرَاً *** لا المالُ يرفعه ولا الذِّكرُ
ورأت وِفاضَكَ خالياً فَأَبَت *** أَن يعترِيها الفقرُ والعُهرُ
لو كنتَ مِن أهلِ الثراء لَمَا *** ضَنَّت عليك ونالك الخير
ما تبتغي بالفقر في بلدٍ, *** أجواؤهُ وتُرابُه فقر
قد أرخصوا أعراضهم طلباً *** للأصفر الرنّان كي يُثروا
فارحل فلا وَطَراً قضيتَ ولا *** شَرَفٌ يعزٌّ بمثلهِ الحرّ
ورجعتَ.. بل هم أرجعوك لنا *** لولا العصا ما عدتَ يا هرّ
*** *** ***
يا هرّ لي رأيٌ أبوح به *** فاسمع فإنّك جاهلٌ غِرّ..
سر في المكان أو الزمان كما *** تهوى.. مداك الكون والدهر
واسبر غوامضَها وقاصيَها *** وانظُر بما يأتي به السبر
ستعودُ يوماً ما لِتخبَرنا *** أَنَّ الحقيقةَ ما لها سِتر
التائهون لدى الخنا كُثُرٌ *** لكنّهم عند القنا صفر
قد نكّسوا راياتِ أمّتهم *** لا (خالدٌ) يغزو ولا (عمرو)
قد آثروا الخضراءَ في دِمَنٍ, *** فكأنّ نَتنَ فجورها عِطر
تلقاكَ تسقيك الهلاكَ كما *** لو تلتقي السكينُ والنحرُ
هذي هداياها تهاجمنا *** \" الإدزُ \" والأفيونُ والخمرُ
أين الحرائر قد سَمَت نسباً *** والحُسنُ يكسوهنَّ والطٌّهرُ
تُبدي الوفا والخبزُ بُلغَتُها *** والزيتُ والزيتونُ والتمرُ
أين البطولةُ في معاركنا *** وعدوّنا مستأسدٌ يَضرو
ساحاتها طِرسٌ نسطّرهُ.. *** ودماؤنا لسطورها حِبرُ
سترى إذا عهد الصبا ولّى *** وبدا خريف العمر يصفّر
وَغدت عروضُ البيع كاسدةً *** في السوق.. لم يُدفَع بها سِعر
وتهاوتِ الأوهامُ زائفةً *** وأتى النذير وأَمرُهُ الأمر:
أنّ الندامةَ لَسعُها جَمَرُ *** أنّ الخطيئةَ طَعمُها مُرّ..
طاشَت سهامُك هاهنا وهنا *** عَبَثاً رميتَ وأُفلِتَ الطيرُ
وتمزّقت منك الدّلاءُ.. فلا *** ماءٌ يبلّلها ولا قَطرُ..
وبقيتَ في تيهِ السرابِ.. له *** قَفرٌ وخلفَ قِفاره.. قَفرُ
مَن ذا الذي يَهدي خُطاك إلى *** برّ الأمان.. وقد مضى العُمرُ
العمرُ مثل البئرِ تنزله.. *** والموت يحفظه لك القعر..
*** *** ***
ُ
دخل هداك الله يا هرّ *** أرأيتَ أنّك جاهل غرّ؟
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد