بسم الله الرحمن الرحيم
[1] وداعاً رمضان:
وا أسفاº فقد مضى رمضانُ! مَضَى بخيرِهِ وبَرَكتِهِ وبِرِّه..وقد كانت فيهِ الأيامُ تُزهِرُ والآمالُ تُومِضُ!
ومضَى الزمانُ وما انقضَى وَطَرِي بِكُم ** والنفسُ تأمُلُ والحوادِثُ تعرُضُ!
لقد مَضَى رمضانُ..بصِيامِهِ وقيامِهِ! وانقضت أيّامُهُ.. بروعةِ أنوارِهِا، وذهبت لياليهِ.. بحلاوةِ أسحارِها! لقد مضى سريعاً.. مثلَ طيفٍ, عابِر وكوكبٍ, غابِرٍ,! كأننا لم نلبث في دُنيا رمضانَ إلا ساعةً من نهار! فوا أسفاهُ على انقضاءِ شهرِ الرحمةِ والمغفرةِ والعتقِ من النار!
ولم أدرِ إذ وَدَّعـتُهُ كيف لم أمُت ** وكيف انثنت عند الفراقِ يَدِي مَعِي؟
فيا مُقلَتِي العَبرَى عليهِ اسكُبِي دماً ** ويا كَبِـدِي الحَرَّى عليهِ تَقَـطَّعِي!
[2] فرحة العيد:
من المعلومِ أنّ عيدَ الفطر الذي يُوافِقُ غُرَّةَ شوّالٍ, من كلِّ عامٍ, هجريٍّ, هو أحدُ العِيدَينِ اللَّذَينِ أقرَّهما الشرعُ الحنيفُ لأهلِ الإسلامº فهو يومٌ يُفطِرُ فيه الصائمون، ويُظهِر فيه المسلمون فرحتَهم بإتمامِ فريضةِ الصِّيامِ بالنهارِ وسُنَّةِ القيام بالليل. فعيدُ الفطرِ مَوسِمٌ للتعبيرِ عن السعادةِ والفرح بنعمةِ الله - عز وجل -، كما قال- تبارك وتعالى -: (قل بفضلِ اللهِ وبرحمتِهِ فبذلك فليفرَحُوا هو خيرٌ مما يجمعون).
[3] الفرح في الإسلام:
إنَّ الفرحَ في الإسلامِ أوسعُ معنىً وأبعَدُ مَدىً من مجرَّدِ الفرح الطبيعي بالأشياء الماديّة والأعراضِ الدنيويّةº فهو يتجاوز أحلامَ الدنيا وأعراضَ المادّةِ إلى أشواقِ الآخرة، كما روى الحافظان ابنُ أبي حاتم وابنُ كثير في تفسيرَيهما عن الحافظ أبي القاسم الطبراني بسندِهِ إلى أيفع بن عَبدٍ, الكِلابي قال: \"لما قدم خراجُ العراقِ إلى عمر - رضي الله عنه -، خرج عمر ومولى لهº فجعل عمر يَعُدٌّ الإبلَ فإذا هي أكثرُ من ذلك، فجعل عمر يقول: الحمدُ لله - تعالى -، ويقول مولاهُ: هذا واللهِ من فضلِ اللهِ ورحمتِهِº فقال عمر: كذبتَº ليس هذاº هو الذي يقول اللهُ - تعالى -: (قل بفضلِ اللهِ وبرحمتِهِ) الآيةº فهذا مما يجمعون\".
وما أصدقَ قولَ صاحبِ الظلال: \"لا شيء في هذه الحياةِ يَعدِلُ ذلك الفرَحَ الرٌّوحِيَّ الشفيفَ الذي نَجِدُه، عندما نستطيعُ أن نُدخِلَ العَزاء أو الرِّضَى، الثقةَ أو الأملَ أو الفرحَ إلى نفوسِ الآخَرِين! إنها لذةٌ سماويةٌ عجيبةٌ، ليست في شيءٍ, مِن هذه الأرض… إنَّ هذا لَهُوَ الفَرَحُ النَّقِيٌّ الخالِصُ، الذي يَنبُعُ مِن نُفوسِنا، ويَرتَدٌّ إليها، بِدُونِ حاجةٍ, إلى أيِّ عناصرَ خارِجيَّةٍ, عَن ذَواتِناº إنه يحمل جزاءه كامِلاًº لأنَّ جَزاءه كامِنٌ فيه! \"
[4] الفرح بإتمامِ العبادةِ وغُفرانِ الذٌّنوب:
فالمسلمون يفرحون بأداء العباداتِ كلِّها على التمامِ والكمالِ، ويستبشِرون بأجرِهم عند ربِّهم، كما قال اللهُ - عز وجل - عن المجاهدين: (فَرِحِينَ بما آتاهُم اللهُ مِن فَضلِهِ ويستبشِرون). ففي عيدِ الفِطرِ يفرحُ قومٌ زَيَّنوا الصِّيامَ وكمّلوا القِيامَ، وكَفٌّوا الألسُنَ، وعَفٌّوا الأبصارَ، وصَفَّوُا القلوبَ من الأكدار! فعادُوا كيومِ وَلَدَتهُم أمهاتُهم؟! فطُوبَى لكم معاشرَ الأخيار!
وليت شعري كيف لا يفرح المسلم بيومٍ, وَعَدَ الله فيه الصائمين القائمين بأن يغفرَ لهم هفواتِ العُمرِ كلَّها ويطهِّرَهم من ذُنوبِ السِّنين أجمعِهاº فقد أفلح في هذا اليومِ وأنجحَ مَن لم يفتهُ أجرُ الصيامِ وفضلُُ القيامº ويا سعدَ من صام رمضانَ إيماناً واحتساباً، كما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه)!
[5] الفَرَحُ بقدومِ عِيد الفِطر:
وقد أخرج البخاريٌّ - رحمه الله - في كتاب (الصوم) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (للصائم فَرحتان يفرَحُهما: إذا أفطر فَرِحَ، وإذا لقيَ ربَّهُ فَرِح بصومِهِ). قال القرطبي: \"معناه: فرح بزوالِ جوعِهِ وعطشِهِº حيث أُبيح له الفطرُ. وهذا الفرحُ طبيعيُّ، وهو السابق للفهم، وقيل: إنَّ فرحَهُ بفطرِهِ إنما هو من حيث إنه تمامُ صومِهِ وخاتمةُ عبادتِهِ وتخفيفٌ من ربِّهِ، ومعونةٌ على مستقبلِ صومِهِ\" وقد فرَّقَ ابنُ حجر بين من يستحضر هذه المعاني التي ذكرها القرطبي وبين غيره، فقال: \"فرحُ كلِّ أحدٍ, بحسبِهِº لاختلافِ مقاماتِ الناسِ في ذلك. فمنهم من يكون فرحُهُ مباحاً وهو الطبيعي، ومنهم من يكون مستحبّاً وهو من يكون سببه شيءٌ مما ذكر\".
[6] صَلاة العيد:
مِن روعةِ هذا الدِّين أنه يربط بخيوطِ النٌّورِ ما بين الشرائعِ والشعائر! (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيهِ اختلافاً كثيراً)، فالإسلامُ لا يقطع الصِّلاتِ ما بَينَ الحِكَم الشرعيّة والأحكامِ التربويّة في سائر العبادات!
فالعِيدُ وإن كان فرحةً نفسيّةً ـ تزدانُ في مظاهرِ السعادةِ وحُلَلِ السٌّرُورِ ـ وزينةً جسديّةً ـ من حيث العناية باستعمالِ الطِّيبِ وارتداءِ الثيابِ الجميلةِ ـ وسعادةً اجتماعيّةً لا تُغفِلُ استحبابَ الذهابِ إلى المصلَّى من طريقٍ, والعودةِ من آخرº فهو مع ذلك مُناسَبةٌ رُوحيّةٌ تُؤَدَّى فيها الصلاةº حيث يتوجَّهُ العبدُ المسلمُ في صباحِ العِيدِ إلى المُصَلَّى، يلهجُ لسانُهُ بتكبيرِ اللهِ وتسبيحِهِ وتعظيمِهِ على ما هداه، ويعمُر قلبُهُ بشكرِ اللهِ على نعمةِ صِيامِ رمضانَ وإتمامِ القِيامِ ونعمةِ الإفطار بعد الصيام.
وهكذا لا تخلو المناسباتُ الاجتماعية ـ كالأعياد ـ من ملامحِ التربيةِ ورُوحِ العبادةِ، كما يتمثل ذلك في أداءِ شعيرةِ الصلاةِ ـ التي تُفتتَحُ بالتكبيرِ سبعَ مرّاتٍ, في الركعة الأولى وخمس مرّاتٍ, في الثانية ـ بالإضافةِ إلى استماعِ خطبةٍ, عامرةٍ, بالتكبير والتحميد والتسبيح!
[7] زَكاة الفِطر:
لا ريبَ أنَّ إيجابَ الشريعةِ إخراجَ المسلمِ عن نفسِهِ وزوجِهِ وأبنائهِ زكاةَ الفِطرِ (صاعاً من طعامٍ, أو صاعاً من شعيرٍ, صاعاً من تمرٍ,)º يؤكِّدُ عنايةَ هذا الدِّين البالغة بنشرِ مشاعر الحُبِّ والتكافل وتزكية القلوبِ وإعمارها بالبذلِ وإحياءِ الروح الجماعيّة! كما روى ابنِ عباس - رضي الله عنهما - قال: (فرضَ رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفطرِ طُهرةً للصائمِ من اللغوِ والرَّفَث، وطُعمةً للمساكينº فمن أدَّاها قبل الصلاةِِ فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومن أدَّاها بعد الصلاةِ فهي صدقةٌ من الصدقات).
[8] عَلامات قَبُولِ الصِّيام:
وقد ذكر أهلُ العلمِ أن من علامة القبولِ لهذا الشهر الكريم أن يكون العبدُ فيما بعد رمضان من الصالحين المتعبِّدين الذين يتقرَّبون إلى الله في شوال كما كانوا يتقرّبون إليه في رمضانº فقد انتفعوا بتلك الأنوار ونَفَحتهم بركاتُ الأسحار!
وأما مَن حُجِبَ في هذا الشهرِ من نعمةِ المحاسبة والمراجعة، وحُرِمَ من صُحبةِ القرآنِ وعَبَقِ الأذكارِ ودفءِ المساجد وعطرِ الأدعية وصفاءِ القلبِ وحلاوةِ المناجاةº فإنه لا يزال سادِراً في سكراتِ الغفلةِ عاكفاً على اللهوِ، هاجِراً للصالحين الأخيارِ حادِباً على صحبةِ الفساق والفجار! \"يا مَن ضيَّعَ عُمرَه في غيرِ الطاعة! يا مَن فرَّطَ في شهرِهِ بل في دهرِهِ وأضاعه! يا مَن بضاعتُهُ التسويفُ والتفريطُº وبئست البضاعة! يا مَن جعَلَ خصمَهُ القرآن وشهرَ رمضانº كيف ترجو ممَّن جعلتَهُ خصمَك الشفاعة؟!
ويلٌ لمن شفعاؤهُ خصماؤهُ *** والصٌّورُ في يومِ القيامةِ يُنفَخُ! \"
[9] العِيدُ وأشواقُ الجنة:
لا شكَّ أن العيد موسمٌ من أعظمِ المناسباتِ يُذكِّرُ المسلمين بالفرحِ الأكبرِ، يوم تُبدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرضِ والسموات! ولله درٌّ ابنِ القيم حيث قال عن العبدِ الذي يستيقظُ من رقدة الغافلين: \"فإذا انتبه شمَّرَ لله بهمَّتِهِ إلى السفر إلى منازلِه الأُولى، وأوطانِهِ التي سُبِيَ منها:
وصُم يومَك الأدنى لعلَّكَ في غدٍ, ** تفوزُ بِعِيدِ الفِطرِ والناسُ صُوَّمُ!
وإن ضاقتِ الدنيا عليكَ بأسرِها ** ولم يكُ فيها مَنـزِلٌ لكَ يُعلَمُ!
فَحَـيِّ عَلَى جَنّاتِ عَدنٍ, فإنها ** مَنازلُـنا الأُولَى وفِيها المُخَيَّمُ!
ولكنّـنا سَبيُ العَدُوِّ فهل تُرى ** نَعُـودُ إلى أوطـانِنا ونُسَلَّمُ؟!
[10] الجنةُ فطرُ الصِّيامِ عن الدنيا:
إنَّ أعظَمَ الدروسِ التي ينبغي أن نستفيدَها من رمضانَ ونستخلصَها من مدرسةِ الصيامِ تتمثل في تربيةِ الزهد في متاعِ الدنيا في قلوبِ المسلمينº فتلك هي ثمرةُ الكفِّ عن الشهوات طيلةَ شهر رمضان، وما أحسنَ ما قرَّرَهُ بعضُ السلف أنَّ \"الدنيا كلّها شهرُ صيام المتقين، يصومون فيه عن الشهوات المحرَّماتº فإذا جاءهم الموتُ فقد انقضى شهرُ صيامِهم واستهلٌّوا عيد فطرهم:
وقد صُمتُ عن لَذَّاتِ دَهري كلِّها ** ويومُ لِقاكُم ذاك فِطرُ صِيامي! \"
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد