بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
السؤال:
هل ثبت في الحث على صيام أيام العشر من ذي الحجة شيء مخصوص؟ ثم إن لم يثبت منها شيء فهل يعني هذا عدم مشروعية صيامها؟
الجواب:
جاء في فضل العمل في أيام العشر دون تحديد نوعه، لا صيام ولا غيره الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري 1/306، باب فضل العمل في أيام التشـريق ح (969)، واللفظ له، وأبو داود 2/815، باب في صوم العشر ح(2438)، والترمذي 3/130، باب ما جاء في العمل في أيام العشر ح(757)، وابن ماجه 1/550، باب في صيام العشر ح (1727) من طرق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه. قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ولا الجهاد إلاَّ رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء".
وأما النص على الصيام، فجاء فيه حديث عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر: أول اثنين من الشهر والخميس" أخرجه أبو داود وغيره كما سيأتي مفصلاً وهو حديث ضعيف. وعن أبي هريرة: "ما من أيامٍ, أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كلِّ يوم منها بصيام سنة. وقيام كلِّ ليلة منها بقيام ليلة القدر"أخرجه الترمذي وغيره وهو حديث ضعيف أيضاً.
وهناك أحاديث أخر وكلها ضعيفة أو موضوعة، كما أشار إلى ذلك ابن رجب في "اللطائف" بقوله بعد أن ذكر حديث الباب، وأحاديث أخر: "وفي المضاعفة أحاديث مرفوعة، لكنها موضوعة، فلذلك أعرضنا عنها وعما أشبهها من الموضوعات في فضائل العشر، وهي كثيرة...وقد روي في خصوص صيام أيامه، وقيام لياليه، وكثرة الذكر فيه، ما لا يحسن ذكره لعدم صحته" ا هـ، والله أعلم.
وبعد: فإن ضعف هذه الأحاديث الواردة بخصوص الحث على صيام أيام العشر، لا يلغي مشروعية صيامها لأنها بلا شك من جملة العمل الصالح الذي ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث ابن عباس الذي أخرجه البخاري وغيره ـ كما سبق آنفاً ـ. فإن قيل: ما لجواب عن قول عائشة -رضي الله عنها- الذي سبق قريباً ـ: "ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صائماً العشر قط" أفلا يدل ذلك على استثناء الصيام؟ فالجواب من ثلاثة أوجه:
الأول: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ربما ترك العمل خشية أن يفرض على أمته ـ كما في الصحيحين من حديث عائشة أو لعلة أخرى قد لا تظهر لنا، كتركه قيام الليل، وكتركه هدم الكعبة وبنائها على قواعد إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-، وأمثلة ذلك كثيرة. ومن جملة هذه الموانع، أن تركه -صلى الله عليه وسلم- لصيام العشر قد يكون لأن الصيام فيه نوع كلفة، ولديه -صلى الله عليه وسلم- من المهام العظيمة المتعدي نفعها للأمة من تبليغ الرسالة، والجهاد في سبيله، واستقبال الوفود، وإرسال الرسل، وكتابة الكتب، وغيرها من الأعمال الجسام، فلو صام كل هذه الأيام لربما حصل فيها نوع مشقة، بل ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو أنه لما سأل عن صيام يوم وإفطار يوم قال "وددت أني طوقت ذلك".
الثاني: أن العمل يكفي لثبوت مشروعيته أي نص ثابت، ولا يلزم منه أن يعمله هو -صلى الله عليه وسلم- فهاهم الناس يصومون ستاً من شوال اعتماداً على حديث أبي أيوب المشهور، وغيره من الأحاديث، مع أنه ـ حسب علمي ـ لم يثبت حديث واحد يدل على أنه -صلى الله عليه وسلم- يصومه، فهل يمكن لأحد أن يقول لا يشرع صوم الست لأنه -صلى الله عليه وسلم- لم يثبت عنه صومها؟! لا أعلم أحداً يقول بهذا بناء على هذا المأخذ الأصولي، وأما خلاف الإمام مالك -رحمه الله- فلم يكن يرى مشروعية صيامها، ليس بناء على هذا المأخذ، وإنما لأسباب أخرى معلومة عند أهل العلم، وليس هذا المقام مناسبا لذكرها. وقل مثل هذا في سنن كثيرة العمدة فيها على عموميات قولية، لم يثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- فعلها بنفسه، كصيام يوم وإفطار يوم، وصيام يوم عرفة ـ الذي هو أحد أيام العشر ـ وغيرها من الأعمال الصالحة.
الثالث: وهو مبني على ما سبق، أن الصيام من أفضل الأعمال الصالحة، بل هو العمل الوحيد الذي اختص الله -تعالى- بجزائه ـ فرضاً ونفلاً ـ وورد في فضل نوافله أحاديث كثيرة يمكن لمن أراد الوقوف على بعضها، أن يطالع رياض الصالحين للنووي، أو جامع الأصول لابن الأثير، وغيرها من الكتب. وقد راجعت كثيراً من كتب الفقهاء، وإذا هم يذكرون من جملة ما يستحب صيامه صيام أيام العشر ـ أي سوى العيد كما هو معلوم ـ ولم أر أحداً ذكر أن صيامها لا يشرع أو يكره، بل إن ابن حزم -رحمه الله- على ظاهريته قد قال باستحباب صيام أيام العشر. والذي دعاني للإطالة في هذا المقام ـ مع ظهوره ووضوحه ـ هو أنني وقفت على كلام لبعض إخواني من طلبة العلم، ذكر فيه أن من جملة أخطاء الناس في العشر صيام هذه الأيام!! حتى أحدث كلامه هذا بلبلة عند بعض العامة الذين بلغهم هذا الكلام، ولا أعلم أحداً قال بهذا من أهل العلم في القرون الغابرة ـ حسب ما وقفت عليه ـ، ولا أدري ما الذي أخرج الصيام من جملة العمل الصالح؟. وبما تقدم تفصيله يمكن الجواب عما استشكله ذلك الأخ وغيره، والله -تعالى- أعلم. أما الأحاديث الخاصة، فسأذكر حالها بشيء من الإجمال ـ والتفصيل لا تحتمله هذه الفتوى ـ فللتفصيل موضع آخر، وذلك كما يلي: أولاً: قال أبو داود 2/815 باب في صوم العشر ح (2437): حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن الحرّ بن الصيّاح، عن هنيدة بن خالد، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر: أول اثنين من الشهر والخميس". تخريجه: *أخرجه النسائي 4/205 باب صوم النبي -صلى الله عليه وسلم- ح (2372)، وفي باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ح (2417، 2418)، وأحمد 5/271، 6/288، 423 من طرق عن أبي عوانة به بنحوه، إلاّ أن في ألفاظهم: "أول اثنين وخميسين"، وهذا هو الموافق لقولها: "ثلاثة أيام"، وأما رواية أبي داود فقد سبق الإشارة إلى أنها في بعض روايات السنن: "والخميس والخميس" بالتكرار. *وأخرجه النسائي 4/220، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ح (2416)، وأحمد 6/287، وابن حبان 14 / 332 ح (6422) من طريق أبي إسحاق الأشجعي، عن عمرو بن قيس الملائي، والنسائي في "الكبرى" 2/135، باب صيام ثلاثة أيام من كل شهر ح (2723) من طريق زهير بن معاوية أبي خثيمة، والنسائي في "الكبرى" 2/135، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ح(2722)، من طريق شريك، ثلاثتهم (عمرو، وزهير، وشريك) عن الحر بن الصياح، عن هنيدة، عن حفصة، إلاّ أن لفظ عمرو هو: "أربع لم يكن يدعهن النبي -صلى الله عليه وسلم-: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة"، ولفظ زهير: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصوم من كل شهر ثلاثة أيام، أول اثنين من الشهر، ثم الخميس، ثم الخميس الذي يليه"، ورواه شريك فجعله من مسند ابن عمر بلفظ حديث زهير. *وأخرجه أبو داود 2/822، باب من قال الاثنين والخميس ح (2452) عن زهير بن حرب، والنسائي 4/221، باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ح(2419) عن إبراهيم الجوهري، وأحمد 6/289، 310، ثلاثتهم (زهير، والجوهري، وأحمد) عن محمد بن فضيل، والطبراني في " الكبير " 23/216، 420، من طريق عبد الرحيم بن سليمان، كلاهما (ابن فضيل، وعبد الرحيم) عن الحسن بن عبيد الله، عن هنيدة، عن ـ أمه لم يقل عن امرأته عن أم سلمة فذكر نحوه، إلاّ أنه ليس في حديث الحسن بن عبيد الله ذكر لصيام تسع ذي الحجة، وصيام يوم عاشوراء، بل اقتصر على الأمر بصيام ثلاثة أيام من كل شهر قال زهير في حديثه: "أولها الاثنين والخميس"، ولفظ الجوهري: "أول خميس، والاثنين والاثنين" بالتكرار، ولفظ أحمد: "أولها الاثنين والجمعة والخميس".
الحكم عليه: إسناد أبي داود رجاله ثقات، إلاّ أنه وقع في إسناده ومتنه اختلاف على هنيدة، الذي مدار الحديث عليه، ووقع فيه تفرد أبي إسحاق الأشجعي، عن عمرو بن قيس الملائي، عن الحر، عن هنيدة، عن حفصة، ومثل هذا بعيد أن يصحح حديثه إذا انفرد، فكيف وقد وقع فيه هذه الااختلاف في إسناده ومتنه؟.
ومما يضعف به حديث الباب إضافة إلى ما سبق، أن ما تضمنه من الإخبار عن صيام النبي -صلى الله عليه وسلم- لتسع ذي الحجة، مخالف لما ثبت في صحيح مسلم 2/833 ح (1176)، وأبي دواد 2/816، باب في فطر العشر ح (2439)، والترمذي 3/129، باب ما جاء في صيام العشر ح (756)، ولفظ مسلم عن عائشة -رضي الله عنها-: "ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صائماً العشر قط"، ولفظ مسلم الآخر: "أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصم العشر". ويضاف إلى ذلك أيضاً: السماع، فليس في شيء منه التصريح بالتحديث سوى رواية أمه عن أم سلمة -رضي الله عنها-، والله أعلم.
ثانياً: قال الترمذي 3/131 باب ما جاء في العمل في أيام العشر ح(758): حدثنا أبو بكر بن نافع البصري، حدثنا مسعود بن واصل، عن نهاس بن قهم، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: "ما من أيامٍ, أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كلِّ يوم منها بصيام سنة. وقيام كلِّ ليلة منها بقيام ليلة القدر". قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا نعرفه إلاَّ من حديث مسعود بن واصل، عن النهاس، قال: وسألت محمداً عن هذا الحديث فلم يعرفه من غير هذا الوجه مثل هذا، وقال: قد روي عن قتادة، عن سعيد بن المسيَّب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مرسلاً شيءً من هذا، وقد تكلم يحيى بن سيعد في نهاس بن قهم من قبل حفظه.
تخريجه: *أخرجه ابن ماجه 1/551، باب صيام العشر ح(1728)، والخطيب في "تاريخ بغداد" 11/208 من طريق محمد بن مخلد العطار، كلاهما (ابن ماجه، والعطار) عن عمر بن شبة، عن مسعود بن واصل به بنحوه. *وأخرجه الترمذي في العلل الكبير ص(120) ح(206) من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة، وعلقه الدارقطني في "العلل" 9/200 عن الأعمش عن أبي صالح، كلاهما (أبو سلمة، وأبو صالح) عن أبي هريرة بنحوه، ولفـظ أبي سلمة: "ما من أيام أحب إلى الله العمل فيهن من عشر ذي الحجة: التحميد، والتكبير، والتسبيح والتهليل".
الحكم عليه: إسناد الترمذي فيه مسعود، والنهاس، وكلاهما ضعيف، وقد قال الإمام الدارقطني في "العلل" 9/199: "وهو حديث تفرد به مسعود بن واصل، عن النهاس بن قهم، عن قتادة، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة ".
ومع هذا التفرد في وصله، فإن بعض الأئمة صوَّبوا كونه عن قتادة، عن سعيد بن المسيب مرسلاً كما أشار إلى ذلك البخاري فيما نقله عنه الترمذي عقب إخراجه للحديث وقال الدارقطني في "العلل" 9/200: "وهذا الحديث، إنما روي عن قتادة عن سعيد بن المسيب مرسلاً". وهذا المرسل الذي صوَّبه الأئمة من رواية قتادة، عن سعيد بن المسيب، سلسلة جعلها الحافظ ابن رجب كما في شرح العلل 2/845 من الأسانيد التي لا يثبت منها شيء، أو لا يثبت منها إلاَّ شيء يسير، مع أنه قد روي بها أكثر من ذلك، ونقل عن البرديجي قوله عن هذه السلسة: "هذه الأحاديث كلها معلولة، وليس عند شعبة منها شيء، وعند سعيد بن أبي عروبة منها حديث، وعند هشام منها آخر، وفيهما نظر" ا هـ.
وقد بين الإمام أحمد سبب ضعفها أيضاً فيما نقله عنه أبو داود في مسائله (304) بقوله: "أحاديث قتادة عن سعيد بن المسيب ما أدري كيف هي؟ قد أدخل بينه وبين سعيد نحواً من عشر رجال لا يعرفون". وأما الطريق التي رواها أبو صالح، فقد صوَّب الدارقطني في العلل 9/200 إرسالها.
وأما رواية الحديث من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة، فقد سأل الترمذي الإمامين البخاري، وأبا عبدالرحمن الدارمي عنه، فلم يعرفاه من حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وقـال الدارقطني في "العلل" 9/200: " تفرد به أحمد بن محمد بن نيزك وهو شيخ الترمذي في هذا الحديث عن الأسود بن عامر، عن صالح بن عمر، عن محمد بن عمر، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رفعه ".
وكلام الدارقطني في "العلل" كله يدور على أن الحديث لا يصح مرفوعاً من حديث أبي هريرة، بل هو مرسل، وعلى إرساله من رواية قتادة عن ابن المسيب، وهي سلسلة مطروحة.
وقد ضعف الحديث جماعة من أهل العلم، ومنهم:
1- الحافظ ابن رجب، في "لطائف المعارف" ص (459)، وفي "فتح الباري" 9/16، 17.
2- الحافظ ابن حجر، في "الفتح" 2/534 ح(969). والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد