بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذه رسائل قليلة الألفاظ، كثيرة المعاني، منبثقة من قلب محب لإخوانه، أذاب فيها المعاني في قوالب الألفاظ ليبث المشاعر والمعاني كلمات حية تخاطب الوجدان والبصائر.
إنها همسات محب إلى أحبابه، وخطاب القلب إلى القلوب، في أربعة رسائل مختصرة:
الأولى منها: في فضل عشر ذي الحجة، في فضل صيامها وقيامها، ومضاعفة الأعمال فيها، حتى يستشعر الحاج فضل العبادة المقبل عليها والأماكن النازل بها، وحتى لا يتحسر غير الحاج في إدراك الفضل، إذ يتضح له أن الخير يعمه، والأجر المضاعف يشمله.
والثانية: في حكم الحج وأسراره، فليست أعمال الحج حركات مجردة عن المعاني، فالتجرد عن الثياب هو تجرد عن كل ما سوى الله، وحركة الطواف تشبه بالملائكة الكرام، وتمسك بعقيدة الإسلام.
وهكذا نجد في كل عمل معنى، لو استشعره الحاج في نفسه لجمع بين عبادة الجوارح وتوجه القلب إلى الله، وهو اللب المطلوب، والأمر المرغوب.
والثالثة: دعوة صادقة للاستفادة من هذا الموسم العظيم، في إحياء أهداف الدين العامة من وحدة وتجمع، واعتصام وانضمام، دعوة لفهم معاني اللباس الواحد، والاجتماع في المكان الواحد، وترديد الشعار الواحد، دعوة إلى ائتلاف النفوس، وتقوية الروابط، وإقامة الجسور، إنها دعوة للاستفادة من الحج في كل نواحي الحياة.
وأما الرابعة والأخيرة: فهي زفرة متألم، وحسرة مسلم، أبصر بنور البصيرة في مرآة الحج الصقيلة الناصعة مواقع الخلل تظهر ونماذج القصور تبدو، فأحب أن يبين الداء ويرشد إلى الدواء.
الرسالة الأولى: عشر ذي الحجة فضائل ومسائل:
هذه أيام فاضلة، وليال مباركة، جعلها الله موسماً للخيرات، فيها تضاعف الحسنات، وتمحى السيئات، وتتنـزل الرحمات، وتجاب الدعوات، فالسعيد من تعرض لهذه النفحات، واغتنم فيها الأوقات، واشتغل فيها بالصالحات.
وفضل العشر الأوائل من ذي الحجة مشهور تشهد به الآيات والأحاديث، فالله - سبحانه وتعالى- عظّمها حين أقسم بها في قوله - تعالى -: {وَالفَجرِ * وَلَيالٍ, عَشرٍ,} قال ابن عباس وابن الزبير - رضي الله عنهم - ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف: هي عشر ذي الحجة.
وأما الأحاديث فقد روى الإمام البخاري - رحمه الله - في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (مَا مِن أَيَّامٍ, العَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبٌّ إِلَى اللَّهِ مِن هَذِهِ الأَيَّامِ العَشرِ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ: وَلَا الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ فَلَم يَرجِع مِن ذَلِكَ بِشَيءٍ,)، وهذا حديث عظيم في بيان فضل هذه العشر، وما فيها من عظيم الأجر، حيث جعل العمل فيها أفضل وأحب من العمل في غيرها، والحديث يدل على مضاعفة جميع الأعمال الصالحة من غير تخصيص أو استثناء.
وقد استحب العلماء الصيام فيها لأن الصيام من أخص وأفضل العبادات، فالرب - سبحانه وتعالى- يقول في الحديث القدسي: (كُلٌّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّومَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجزِي بِهِ) وعندما سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عمل صالح عظيم الأجر قال: (عَلَيكَ بِالصَّومِ فَإِنَّهُ لَا عِدلَ لَهُ) وفي رواية: (لا مثل له).
والذكر مستحب أيضاً لقوله - تعالى -: {وَيَذكُرُوا اسمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ, مَعلُومَاتٍ,} وهي الأيام العشر من ذي الحجة عند جمهور العلماء، وروى الإمام أحمد - رحمه الله - في مسنده عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَا مِن أَيَّامٍ, أَعظَمُ عِندَ اللَّهِ وَلَا أَحَبٌّ إِلَيهِ مِن العَمَلِ فِيهِنَّ مِن هَذِهِ الأَيَّامِ العَشرِ فَأَكثِرُوا فِيهِنَّ مِن التَّهلِيلِ وَالتَّكبِيرِ وَالتَّحمِيدِ) واستحب الإمام الشافعي - رحمه الله - إظهار التكبير، وأورد الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أنهما كانا يخرجان إلى الأسواق في أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما.
وقيام ليال العشر وإحياؤها مستحب لعموم ما ورد فيها من الفضل، ونص عليه الإمام الشافعي، وكان يقول: "لا تطفئوا سرجكم ليال العشر".
وفي هذه العشر يوم عرفة وهو أفضل الأيام كما روى جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه ابن حبان - رحمه الله -، وهو يوم مغفرة الذنوب للحجاج كما ورد في صحيح الإمام مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَا مِن يَومٍ, أَكثَرَ مِن أَن يُعتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبدًا مِن النَّارِ مِن يَومِ عَرَفَةَ وَإِنَّهُ لَيَدنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِم المَلَائِكَةَ).
وخير الدعاء دعاء يوم عرفة كما أخبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وغير الحاج له في يوم عرفة فرصة مغفرة الذنوب أيضاً فقد صح عن أبي قتادة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (صِيَامُ يَومِ عَرَفَةَ أَحتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَن يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعدَهُ) وروى الإمام أحمد - رحمه الله - من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إِنَّ هَذَا يَومٌ مَن مَلَكَ فِيهِ سَمعَهُ وَبَصَرَهُ وَلِسَانَهُ غُفِرَ لَهُ).
وعاشر هذه الأيام يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر الذي قال فيه رسول الهدى - عليه الصلاة والسلام -: (إِنَّ أَعظَمَ الأَيَّامِ عِندَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَ- تعالى - يَومُ النَّحرِ ثُمَّ يَومُ القَرِّ) ، وهو أكبر العيدين وأفضلهما لأنه يكون في وسط فريضة الحج، ولكونه بعد يوم عرفة الأغر، ولما فيه من التقرب إلى الله بذبح الأضاحي والهدي.
وأيام التشريق تتبع العشر وفيها أخرج أصحاب السنن - رحمهم الله - عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: حَدَّثَنَا هَنَّادٌ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَن مُوسَى بنِ عَلِيٍّ, عَن أَبِيهِ عَن عُقبَةَ بنِ عَامِرٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (يَومُ عَرَفَةَ وَيَومُ النَّحرِ وَأَيَّامُ التَّشرِيقِ عِيدُنَا أَهلَ الإِسلَامِ وَهِيَ أَيَّامُ أَكلٍ, وَشُربٍ, وَذِكرٍ, لله).
قال ابن رجب الحنبلي - رحمه الله -: " لما كان الله - سبحانه وتعالى- قد وضع في نفوس المؤمنين حنيناً إلى مشاهدة بيته الحرام وليس كل أحد قادر على مشاهدته في كل عام فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركاً بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج ".
الرسالة الثانية: الحج حِكَمٌ وأسرار:
إن الحج من أوله إلى آخره وفي كل خطوة من خطواته حافل بكثير من المناسك والمواقف التي تشعر الإنسان بعظمة الله وقدرته، وتتجلى فيها الحِكَم والأسرار لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وفي كل واحدة من هذه المناسك تذكرة للمتذكر وعبرة للمعتبر، وهذه بعض أسرار الحج وحكمه:
*الحج والإحرام:
في الإحرام تظهر المساواة بين جميع المسلمين حاكمهم ومحكومهم، غنيهم وفقيرهم، ومظهر الحجاج في لباس الإحرام يمثل البعث في الحياة الآخرة، ويكشف عن أن الدنيا الزائلة لا يليق أن تصرف مفاتنها العاقل المؤمن عن الاستعداد للحياة الباقية. وهو في حقيقته تجرد من شهوات النفس والهوى وحبسها عن كل ما سوى الله وعلى التفكير في جلاله.
*الحج والتلبية:
في التلبية إجابة نداء الله - عز وجل - فارجُ أن تكون مقبولاً، واخش أن يقال لك: " لا لبيك ولا سعديك "، فكن بين الرجاء والخوف متردداً، وعن حولك وقُوتِكَ متبرئاً، وعلى فضل الله - عز وجل - وكرمه متكلاً، وليتذكر الملبي عند رفع الصوت بالتلبية إجابته لنداء الله - عز وجل - إذ قال: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِّ} ونداء الخلق بنفخ الصور، ونشرهم من القبور، وازدحامهم لعرصات القيامة مجيبين لنداء الله، وهذه التلبية شهادة على تجرد النفس من الشهوات والتزامها الطاعة والامتثال.
*الحج والطواف:
ينبغي أن يُحضر في قلبه التعظيم والخوف والرجاء والمحبة، والحاج في الطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش، الطائفين له، وليس المقصود هو طواف الجسم بالبيت فحسب، بل المقصود هو طواف القلب بذكر رب البيت، حيث لا يبتدئ الذكر إلا منه، ولا يختم إلا به، كما يبتدئ بالبيت ويختم به.
والطائفون في عملهم، كأنما يمثلون الدوران حول عقيدة التوحيد، والتمسك بها، وإخلاص العبودية لله، والاستجابة لندائه على لسان خليله إبراهيم - عليه السلام -.
كما يرمز إلى مشروعية الاقتداء بأبينا إبراهيم ورسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وسائر أنبياء الله ورسله وعباده الصالحين الذين لبوا دعوة الله في قوله: {وَليَطَّوَّفُوا بِالبَيتِ العَتِيقِ}.
*الحج والسعي:
إنه يضاهي تردد العبد بفناء الملك جائياً وذاهباً مرة بعد أخرى إظهاراً للخلوص في الخدمة ورجاء للملاحظة بعين الرحمة.
وليتذكر عند تردده بين الصفا والمروة تردده بين كفتي الميزان في عرصات يوم القيامة، وليتذكر تردده بين الكفتين ناظراً إلى الرجحان والنقصان، متردداً، وفي السعي شدة إلحاح المؤمن في استمطار رحمة الله عليه.
وفيه شعور بالضراعة بين يدي الله القوي العزيز وفيه اقتداء بما فعلته هاجر، إذ كانت حركتها تلك مباركة وسنة قائمة إلى يوم القيامة يتعبد بها الناس ربهم ويأخذون منها وجوب السعي وراء الرزق والحث على العمل والبعد عن الكسل.
*الحج والوقوف بعرفة:
يذكر الحاج به يوم القيامة واجتماع الأمم والعرض الأكبر على الله - تعالى - وهو موقف يذكر بالموت الذي ينتقل به المرء إلى ربه بكفن شبيه بلباس الإحرام، كما أن فيه تجرد الإنسان في ذلك الوقت من ملاذ الدنيا، وشهوات النفس، وأن ذلك يدفع إلى الإقبال على الله - تعالى -، والاجتهاد في الأعمال الصالحة.
كما يرمز ذلك التجمع إلى التذكير بالبعث بعد الموت وما في يوم القيامة والحشر من أهوال، ليأخذ المسلم الاستعداد لها بأفعال الخير، وفيه تذكير للمسلمين الذين دفعوا إلى الحج، بمشروعية الاتحاد والأخذ بالأسباب الداعية للوحدة والاجتماع.
وما هو إلا بذل المهج في الضراعة بقلوب مملوءة بالخشية، وأيدٍ, مرفوعة بالرجاء، والسنة مشغولة بالدعاء، وآمال صادقة في أرحم الراحمين.
*الحج ورمي الجمار:
إنه رمز للإقتداء بسيدنا إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وإعلان لمحاربة الشيطان ووسوسته وتضليله.
كما يرمز إلى وجوب طاعة الله، وامتثال أوامره ليصبح المرء في عداد المحسنين، وهو عزم على الالتجاء إلى الله - تعالى -، ونبذ الأهواء، وهو رمز مقت واحتقار لعوامل الشر وصدق العزيمة في طرد الهوى المفسد للأفراد.
*الحج وذبح الهدي:
إنه إراقة لدماء الرذيلة بيد اشتد ساعدها في بناء الفضيلة، إنه ذبح للنفس الأمارة بالسوء، وإخراجها من جسد الإنسان وإحلال روح الخير والفضيلة بدلاً منها.
وهو إظهار لنعمة الله، بتوسعته على المسلمين بأن يوسعوا على أنفسهم وعلى الفقراء والمساكين في أيام الحج، وفيه تذكير بفعل إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - حينما عزم على قتل ابنه إسماعيل استجابة لأمر الله ففداه الله بذبح عظيم وأصبح الفداء بعدها سنة متبعة تفعل كل عام اقتداء بسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي ساق الهدي من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة ليفدي المسلم ويضحي بكل شيء في سبيل امتثال أمر الله والسعي إلى مرضاته.
الرسالة الثالثة: الحج مؤتمر الأمة:
هناك مؤتمرات قمة يلتقي خلالها الرؤساء، كما أن هناك مؤتمرات أخرى يلتقي فيها وزراء الخارجية أو الدفاع أو غيرهم، وفي الإطار المهني هناك مؤتمرات للأطباء وأخرى للمهندسين وغيرهم، ولكل هذه المؤتمرات جهات تنظمها، وتدعو إليها، وتحدد أماكنها، وتنظم برامجها.
والحج مؤتمر عظيم لكنه فريد، إذ له مزايا وأهداف لو فطنت لها أمة الإسلام واستفادت منها لكان حالها خير وأفضل مما هي عليه.
إن الدعوة لهذا المؤتمر العظيم جاءت بأمر من الله - تعالى - لنبيه إبراهيم الخليل - عليه الصلاة والسلام -: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ, يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ, عَمِيقٍ,} ، وهي دعوة عريقة أصيلة لا تتجدد، ومكان الانعقاد الدائم الذي لا يتغير بيت الله الحرام وأكنافه المقدسة التي جمعت بين المباركة الإلهية، والعراقة التاريخية، والحرمة الدينية، وجدول الأعمال بما فيه من الأقوال والأفعال أملاه بأمر من الله - تعالى - محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " خُذُوا عَنِّي مَنَاسِككُم " والمدعون لهذا المؤتمر كل المسلمين، حاكماً أو محكوماً، غنياً أو فقيراً رجلاً أو امرأة، فلا شرط ولا مزية غير الإسلام، مسلمٌ وكفى.
نتيجة لما سبق فإن هذا المؤتمر ينعقد بصورة دورية منذ آلاف السنين، في الأماكن المقدسة، وترى فيه كل الأمة كاملة متمثلة بفئات من حكامها وعلمائها وعوامها وقوادها وجندها ورجالها ونسائها وشيبها وشبابها فهل يمكن أن يكون هذا المؤتمر بهذه الصفة لا نفع فيه ولا أثر له؟.
إنه تساؤل ينبغي أن يشغل ذهن كل مسلم وكل حاج ليتأمل ويتدبر ثم لينتفع ويعمل، وهذه بعض التأملات في مؤتمر الحج الأكبر:
*كل حاج قطع مسافات شاسعة، وتجاوز حدوداً كثيرة، وبعض الحجاج جاء من بلاد الكفر، أو من بلاد اضطهاد وقهر، والجميع يبذل ويعاني لكي يصل ويشارك، وهو يعلن من خلال قفزه لكل الحواجز، وتغلبه على كل المصاعب أن استعلاء الإيمان أعظم، وأن داعي الله ألزم، وأن نهج الإسلام أقوم، وأن أخوة الإيمان أكرم.
*في هذا المؤتمر يتميز بالزي الموحد الذي لا يشترط في غيره من المؤتمرات، فالحاج يخلع ملابسه وزينته ويتجرد لله، وهو بذلك يعلن أن الدنيا في يده لا في قلبه، وأن قيمته في الجوهر لا في المظهر، وأنه إذا دعا داعي الله وسمع نداء العبادة فلن تقف الدنيا بزينتها عائقاً في طريقه بل هو مستعد لخلعها في سبيل الله.
*في هذا المؤتمر تذكير الأمة أن تلغي جميع المحاور والأحوال التي مزقتها، وأن تتخذ المحور والمنهج الإسلامي الإلهي، فهم عندما يطوفون حول الكعبة المشرفة يعلنون هذا المبدأ المهم الذي يجعل محور حياتهم، العبودية الخاشعة لله، والصلة الدائمة بالله.
*وفي هذا المؤتمر مجال لرسم السياسات العامة للأمة، ومناقشة المشكلات، والإرشاد والتوجيه من خلال الخطب في موسم الحج كما كان في الخطبة النبوية الجامعة في حجة الوداع.
*وأخيراً فإن موسم الحج موسم التطبيق العملي لوحدة الأمة الإسلامية حيث تذوب الفوارق من لون وجنس ولغة، وتعلن الوحدة في الوجهة والنية، وفي الأقوال والأعمال، وفي الزي والهيئة، وفي الوقوف والحركة، إضافة إلى أنه يحمل في طياته ما يؤدي إلى التقاء وائتلاف النفوس وتقوية الروابط، مع الأمر الأكبر وهو ارتباط الأمة بخالقها، واتباعها لشرعه، وإعلائها للموازين الإسلامية، وإلغائها للمقاييس الأرضية.
فهل تدرك الأمة هذه المعاني وغيرها؟ وهل يعرف الأفراد هذه المعالم؟ إنه لا بد أن يكون هناك عمل من قبل القادة المسئولين والعلماء الربانيين وجميع المسلمين ليحققوا مع الفريضة المنافع الكبرى للأمة التي تعاني الويلات والهزائم والتفرق {وَإِذ بَوَّأنَا لِإِبرَاهِيمَ مَكَانَ البَيتِ أَن لَا تُشرِك بِي شَيئًا وَطَهِّر بَيتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقَائِمِينَ وَالرٌّكَّعِ السٌّجُودِ * وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالحَجِّ يَأتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ, يَأتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ, عَمِيقٍ, لِيَشهَدُوا مَنَافِعَ لَهُم وَيَذكُرُوا اسمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ, مَعلُومَاتٍ,}.
الرسالة الرابعة: الحج مرآة الأمة:
من مزايا المرآة أنها تبرز صورة الأشياء، بوضوح دون زيادة أو نقص، وكل من يستخدمها يحرص على نظافتها حتى تكون صقيلة ناصعة، ولا ذنب للمرآة إذا رأى الناظر فيها عيوبه من اتساخ الثياب أو اختلال الهندام لأنها مجرد شاهد صادق ينطق بالواقع، وقد يغضب الناظر لما يرى من صور النقص لكنه لا يملك إن كان عاقلاً إلا أن يصلح من الحقيقة لتصلح صورته، لكن بعض الحمقى قد يقذف بهذه المرآة ويهشمها بيده ثم يدوسها بقدمه، ونقول لهذا الأحمق لم تغير الحقيقة وفقدت- مع ذلك- الوسيلة التي تعرف بها الخلل والقصور.
والحج مرآة الأمة تبدو من خلاله صورتها بما فيها من حسن وجمال، أو قبح واختلال، ذلك أن الحج هو مؤتمر الأمة الأكثر عدداً، والأعظم تنوعاً لوجود فئات من الأمراء والعلماء، والمثقفين والأدباء، والوجهاء والدهماء والعامة والبسطاء، والرجال والنساء، ولا شك أن مرآة الحج تبرز في إطار عام كثيراً من المحاسن من التعبد والمساواة والوحدة، ولكنها لصدقها تبرز أيضاً صوراً من الخلل ونماذج القصور الذي لا يتفق مع تلك المحاسن بل ربما نجد ما يناقض تلك المحاسن ويضادها.
إن العين لا تخطئ رؤية كثير من السلبيات، فأنت ترى في صفوف الجموع الغفيرة صوراً من اختلال العقائد وشيوع الابتداع، كما تلحظ ذهولاً عن العبادة، وبعداً عن الخشوع، ولا تخفى عليك نماذج الجهل بالدين والتخبط في المناسك، إضافة إلى صور التخلف الحضاري المتجسدة في إهمال النظافة وتجاهل أبسط مستلزماتها، والتجاوز للتعليمات الصحية وعدم مراعاتها، والإخلال بالنظام مع الالتزام بالفوضى، هذا مع صور متفرقة من الحدة في التعامل، والشدة عند التزاحم والانفعال عند التجاوز، والتعصب لجنس أو بلد أو على الأقل عدم الارتياح والانفتاح على الآخرين.
كل ذلك لا يعني أن هناك إيجابيات كثيرة، ولكن في الوقت نفسه ينبغي أن لا نفعل هذه المظاهر ويجب أن لا نكسر المرآة بل ينبغي أن نشكرها إذ وقفنا من خلالها على الداء وبقي الدواء.
وأختم هذه السطور أن ما ذكرته يبين حجم الجهود التي ينبغي أن تبذل لتحويل الأمة من الفرقة إلى الوحدة، ومن الذلة إلى العزة، ومن الضعف إلى القوة، ومن التخلف إلى التقدم، ولا شك أن الدور الأكبر في عنق الحكومات الإسلامية، وأجهزتها الإعلامية، ومناهجها التعليمية، وهناك أيضاً العلماء وجهودهم في الدعوة، والحفاظ على عقيدة الأمة، والصدع بالحق، والصد عن المنكر، والمحاربة للجهل، والمواجهة للغزو، وهناك جهود وواجبات منوطة بأرباب المال ومؤسسات الاقتصاد وأخرى بأرباب الفكر والأدب، وثالثة بخطباء المنابر وحملة الأقلام، ولا أظن مسلماً يخلو من المسؤولية تجاه أوضاع الأمة، فما أحرانا أن نوجه النداء لكل فرد في الأمة عموماً ولكل حاج خصوصاً أن يتحملوا مسؤولياتهم وأن يغيروا مواقعهم وأن يقوموا بواجبهم ليتحقق لهم وعد الله {إِنَّ اللَّه لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ, حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم...}
والله المستعان..
وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد