يجري على ألسنة المحاضرين، وأقلام الكتب حديث التجديد في الشعر، ولسنا ممن يتجافى عن رأي التجديدº إذ التجديد سنة من سنن الشعراء النابغين، ولا سيما شعراء ينشؤون أو ينزلون في بلاد عامرة بمظاهر المدينة، وإنما نريد بحث ما يعنى بكلمة التجديد، حتى نصل إلى ما فيه إصلاح الشعر، ونتحامى هدم ناحية من نواحي اللغة الفصحى.
للشعر مقاييسُ، وقوافٍ,، ومعانٍ,، وألفاظٌ، وأساليبُ، وفنونٌ.
أما المقاييس فقد نظم العرب في ستة عشر مقياساً، وهي المدونة في كتب العروض وما زال الشعراء يصوغون أشعارهم على هذه المقاييس إلى عهد الدولة العباسية، وفي ذلك العهد حدثت موازيين خارجة عن الموازيين السالفة، ووجدت كما تجد الأزجال في هذا العهد من يعجب بها، ويلذ سماعها.
ومن الموشحات الأندلسية ما يختلف في أشطار القصيدة بالطول والقصر اختلافاً بيّناً، كقول أبي الحسن بن سهل:
كحل الدجى يجري *** من مقلة الفجر *** على الصباح
ومـعصم الـنهر *** فـي حلل خضر *** من البطاح
ومن هذا القبل موشحة ابن الوكيل، التي دخل بها على أعجاز قصيدة ابن زيدون:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا *** وناب عن طيب لقيانا تجافينا
ومما يقول في الموشحة:
يـا جيرة بانت *** عن مغرم صب
لـعهده خـانت *** من غير ما ذنب
مـا هكذا كانت *** عـوائد العرب
لا تحسبوا البعدا *** يغير العهدا *** إذا طالما غيّر النأي المحبينا
وإذا كان الأدباء في العصور الماضية لم يقصروا شعرهم على المقاييس المعروفة فأحدثوا مقاييس جديدة - فلا نكره لأديب أن يصوغ الشعر في مقياسٍ, محدث متى وثق من موافقته لأذواق الناس وارتياحهم لحركاته وسكناته.
وأما القافية فقد ألزمها العرب على النحو المعروف في أشعارهم، حتى اخترع الأدباء الموشحات، فأخذت القافية هيئة غير هيئتها الأولى، كما رأيتها في المثُل التي أوردناها أنفاً.
وفي التزام القافية على الوجه الذي اختاره العرب سابقاً، وعلى نحو ما أحدثه الأدباء من بعد - دلالةٌ على البراعة، ومحافظةٌ على وجه من الوجوه التي يمتاز بها المنظوم على المنثور.
وأما المعاني فللشاعر أن يذهب فيها كل مذهب، وله أن يأخذ في التشبيه والاستعارات كل مأخذ، فيرسل خياله فيما احتوته الحافظة من المعاني القديمة والحديثة، والطبيعية والصناعية، ويؤلف منها ما شاء من الصور الخيالية، مراعياً أذواق الطوائف التي يريد إثارة عواطفها نحو الشيء أو صرفها عنه.
وما زال فحول الشعراء في كل عصر يبتكرون المعاني، وينتزعون من مظاهر المدينة المتجددة صوراً يبرعون في صنعها، فلشعراء العصر العباسي بالشرق، أو شعراء الأندلس بالغرب معان وتخيلاتٌ لم يطرقها الشعراء في الجاهلية، أو في صدر الإسلام، أو عهد الدولة الأموية.
وقع هذا التجديد من فحول شعرائنا، وكانوا على شعور من الحاجة إليه، ونبه أدباؤنا على هذا الشعور فيما كتبوا قديماً.
قال ابن سعيد، يفاخر أهل القيروان بشعراء الأندلس:"وهل منكم شاعر رأى الناس قد ضجوا من سماع تشبيه الزهر بالنجوم، وتشبيه الخدود بالشقائق، فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خَلَقَهُ في الأسماع جديداً، وكَلِيلَه في الأفكار حديداً، فأغرب أحسن إغراب، وأعرب عن فهمه بحسن تخيله أنبل إعراب"؟
وإذا لم تُجِد قرائح شعراء عصر أو بلد بمعان جديدة، ورأيناهم لا يزيدون عن أن يرددوا معاني أسلافهم فلضعف ملكاتهم الشعرية، وقصورها عن أن تخرج للناس ثمراً جديداً.
وأما الألفاظ، فحقها أن يراعى فيها ما ثبت عن العرب، وما تقتضيه قوانين الصرف، وما تضعه المجامع العلمية على حسب ما تدعو إليه حاجة التعبير عن المعاني المحدثة.
والألفاظ الجديرة بأن يصاغ منها الشعر هي الألفاظ التي لا يخفى المراد منها على أكثر من يقصد استمالة عواطفهم إلى الشيء أو صرفها عنه، ولا يكفي لجواز استعماله اللفظ في القصيدة خلوٌّه من تنافر الحروف، وموافقته للوضع العربي، ووجوده في كتب اللغة القريبة التناولº إذ ليس كل لفظ يتحقق فيه شرط الفصاحة يصلح للشعر، بل وراء الفصاحة شيء آخر هو مراعاة حال قراء الشعرº فيصاغ لهم في ألفاظ تطرق أسماعهم، فتحضر معانيها في أذهانهمº فلو هُجِرَت ألفاظ في عصر من العصور، أو قل استعمالها بحيث لا يصل إلى معانيها إلا بعد الرجوع إلى كتاب من كتب اللغة، وشاعت ألفاظ ترادفها بحيث تكون أسرع بالمعنى إلى ذهن المخاطب، كان من حق الشاعر اختيار الألفاظ التي يكون بها المعنى أقرب إلى الذهن، ولا سيما ألفاظ تساوي الألفاظ المهجورة أو النادرة الاستعمال في خفة النطق، وحسن تأليف حروفها.
فطبيعة الشعر تستدعي التجديد في الألفاظ على النحو الذي وصفنا، فالشاعر المجيد لا يجمد على الألفاظ التي استعملها الشعراء في عصور ماضية، ثم قل دورانها في كلام البلغاء من بعد.
وإذا لم يكتف الشاعر في خدمة اللغة بحفظ مذاهب بلاغتها، وفنون بيانها، وأراد أن يكون له نصيب في إحياء ما هجرته الألسنة من كلماتها العذبة السائغة - ففي استطاعته أن يأتي إلى الكلمة التي تختفي معانيها على أكثر القراء، ويوردها حيث لا يفوتهم فهم المراد من البيت، والارتياح لما فيه من حسن التخييل.
فلو أصبحت كلمة"امتشق"مثلاً غير جارية في استعمال الشعراء في عصر، لما كان على شاعر أراد إحياءها من حرج في استعمالها حيث ينبه مساق الكلام على المراد منها، كما استعملها العزازي، في قوله:
والبدر نحو الغروب أسرع *** كـهـارب نـاله فـرَق
والبرق بين السحاب يلمع * كـصارم حـين يـمتشق
ومن ذا يسمع هذا البيت ولا يفهم أن القصد تشبيه حال البرق عند لمعانه بحال السيف عند تجريده من قرابة؟
وأما الأساليب فيراعى فيها قوانين النحو والبيان المسلَّمة، فلا نقبل من الشاعر أن يقدم خبر ((إن)) مثلاً عليها، فيقول"كاتب إن زيداً"بدعوى التجديد في الأسلوب، ولا يحسن منع أن يتكئ على علة التجديد، ويسقط حرف العطف في نحو"لا ورحمك الله"أو يدع الكلمات والجمل التي توضع في أثناء الكلام فتكسو البيت لطفاً، وتدع عنه أوهاماً يفقد بها المعنى قوته، أو ينقلب بها إلى غير مراد، إلى ما يشاكل هذه التصرفات التي تخرج بالشعر العربي عن حدود البلاغة وحسن البيان.
وللشاعر أن يتخذ من الأساليب بعد رعاية قوانين النحو والبيان ما يشاء، وقد اختلفت أساليب الشعراء في دائرة قانون اللغة الصحيح اختلافاً واضحاً، حتى إن الألمعي الدارس لأشعار الفحول من الشعراء في عصور متعددة - يكاد يعرف من أسلوب القصيدة الشاعرَ الذي قالها، أو العصرَ الذي قيلت فيه.
وأما فنون الشعر - أعني الأغراض العامة التي توجه إليها الشاعر بالنظم، نحو تهذيب النفوس، وإصلاح الاجتماع، والحماسة والفخر، والمديح، والهجاء، والوصف، والنسيب، والاستعطاف، والاعتذار - فقد نظم فيها العرب كثيراً، وسلكوا فيها طرقاً بديعة.
ومن الشعراء من يبرع في فن أو فنون، كما يبرع عمر بن أبي ربيعة في فن الغزل، والمتنبي في إرسال الحكمة.
ومن العصور ما يشيع فيه بعض فنون الشعر أكثر مما سواه، كالعصر الذي يحمي فيه وطيس الحروبº فإنه يغلب فيه الحماسة والفخر، والعصر الذي يشيع فيه الفسوق يغلب فيه النسيب ووصف الخمور.
وإذا غلب فن من الفنون وجد رواجاً حتى عند من لا ناقة له في ذلك الفن ولا جمل، فتسمع الحماسة مثلاً - في شعر الجبان الذي"إذا رأى غير شيء ظنه رجلاً"وتسمع الغزل ممن لم يحمل قلبه صبابة، ووصف الخمر ممن لا يعرف للخمر رائحة.
أما عصرنا هذا، ففيه إباحية وإلحاد، فلا عجب أن نرى من الشعر الرفيع ما تنبذه مجالس أهل الفضل، ولا عجب أن نرى من الشعر المارق من الدين ما يلقي بالمستضعفين في تهلكة، وإننا اليوم في حركة علمية اجتماعية، تنادي كل طائفة منا لأن تسعفها بما لديها من قوة.
ولكثير من شعرائنا في تقوية هذه الحركة مواقف محمودة، وأملنا أن يكون الفن الذي يُعرف به الشعر في هذا العصر فنَّ استنهاض الهمم والصعود به إلى ذروة العز والمجد، فنَّ تقويمِ الأخلاق، وإصلاح الحياتين: العلمية والمدنية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد