المسلمون في روسيا .. جدل الحوار والانفصال


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ما زال المسلمون في روسيا بعيدين عن إدراكنا بمسافات تجعلنا لا ندري الفرق بين داغستان وطاجيكستان، أو بين أذربيجان وتترستان. ويسهم كثير من المعالجات غير الناضجة في تكاتف الغموض والتشويش بحق شريحة كبرى من سكان العالم الإسلامي.

لا ينكر جلنا أن روسيا واحدة من تلك الدول المتميزة التي تتصل بالعالم الإسلامي بمعابر ثقافية وحضارية متنوعة، ناهيك عن الجسور العتيقة التي سارت عليها علاقاتها السياسية الساخنة مع العالم العربي والإسلامي على السواء. كما لا ينكر أحد أيضاً أيام التاريخ الروسي الطويل التي أنبتت عقيدة الغزو فيه تطوراً أيديولوجياً، بمرجعية مسيحية تارة وماركسية تارة أخرى، تلك العقيدة التي اختمرت بدوافع جيوسياسية في فكر الأمراء والقياصرة والرؤساء الروس، وما خرج من رحمها من عناد لترجمة مفاهيم السيطرة واستعمار الشعوب. ومن بين هذه الشعوب كان المسلمون في مرمى النيران.

قد يبدو من الخطأ الجسيم أن نحصر رؤيتنا لقضايا الشعوب الإسلامية في روسيا في خندق الرفض من بعد، ولن نكون مغالطين إذا قلنا إنه رغم الاختلافات الأيديولوجية الكبيرة التي تفرق العالم الإسلامي عن الغرب، إلا أن الأخير يظل هو المصدر الأساسي لمعرفتنا عن أحوال المسلمين في روسيا.

فرغم التطور الكبير في مفاهيم الاتصال الحديثة، ورغم إمكانات الدول العربية التي لا ينقصها الثراء، وروسيا التى لا تنقصها إمكانات القوة والتحالف، ما زلنا نتعاطى مع روسيا بفهمٍ, أسير لتلك الإطلالة المؤدلجة ذات البعد التكتيكي التى نترجمها عن كريستيان ساينس مونيتور وتايمز وواشنطن بوسط ودراسات معهد بروكينجز.

وباستثناء قلة من المصادر الإعلامية نجد جل اهتمام نوافذنا الإعلامية بمسلمي روسيا ذلك الاهتمام القابع في خندق القضية الشيشانية أشبه بالترمومتر الحراري الذي يؤشر على درجة سخونة القضية في الإعلام الغربي. وهذا الأخير يعنيه المباهاة بنقد انتهاكات حقوق الإنسان وتزييف الانتخابات وإعادة الإعمار. مع أن لدى هذا الإعلام مرونة فائقة في نسيان هذا النقد إذا رغب في مراودة روسيا عن تمسكها بموقف صلب لقضايا عالمية.

ومن المحزن أنه في الوقت الذي نجد فيه سفراء الدول الغربية يخرجون بأحاديث مباشرة ويقدمون رؤيتهم من الداخل الروسي يندر أن نتابع سفيراً عربياً أو مستشاراً ثقافياً ليقول لنا رؤيته. وبينما ينشغل المستشارون الثقافيون الغربيون بإلقاء محاضرات في الجامعات ومراكز الأبحاث الروسية، يؤكدون فيها ثوابت علاقاتهم ويطورون مناطق أخرى مهملة لا ندري في واقع الأمر هوية الدور الذي يشغله المستشارون الثقافيون العرب في موسكو! وقد تندهش إذا عرفت أن عدداً لا بأس به منهم يمد "الجسر" الثقافي لبلادهم دون أن يتكلم الروسية! ولنا أن نتخيل حينها أي مستوى لهذا الجسر المبني بلغة وسيطة كالإنجليزية أو العربية أحياناً!، ولنا كذلك أن نتوقع مستوى الصلات الثقافية التي سنصل إليها من خلال ذلك. تلك الصلات التي يمكن أن تجعل قلوبنا وأيدينا تصل إلى المسلمين في الداخل الروسي.

عبر صفحات طويلة من التاريخ الحربي المفعم بمواجهات دامت لنحو ألف سنة، ارتسمت ملامح خريطة عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي بخروج ست دول إسلامية من عباءة الاتحاد السوفييتي وبقاء نحو 23 مليون مسلم ضمن حدود الاتحاد الروسي. وهذه الشعوب الإسلامية التى بقيت داخل حدود المعقل الروسي إما أن بعضها يسعى إلى الاستقلال ممتلكاً أو غير ممتلك لمقومات قيام الدولة أو يكتفي داخل حدود تلك القلعة المنيعة بالسعي إلى إحياء ثقافته التى تشوهت بثلاثية المسخ الحضاري الذي بدأ بالتنصير القيصري، مروراً بالمركسة الشيوعية، وانتهاء إلى العلمنة الفيدرالية.

 

تتكون روسيا مما يربو على 90 وحدة إدارية في صورة تنظيمات تأخذ شكلاً يسمى الفيدرالية، وتخضع فعلياً لسلطة مركزية تديرها العاصمة موسكو سواء كانت جمهوريات، أو أقاليم أو مناطق أو مقاطعات حكم ذاتي. وتعيش أغلبية المسلمين في روسيا في جمهوريات يحق لها من الناحية الدستورية لقانون الدولة الروسي (الاتحاد الروسي الفيدرالي) أن تسعى إلى الاستقلال إن رغبت. فلدى كل منها رئيس للجمهورية وبرلمان محلي وميزانية هي جزء من الميزانية الفيدرالية للدولة.

وتشير الخريطة المرفقة إلى الموقع الجغرافي للمسلمين في روسيا ونجدهم على هذه الخريطة يتركزون في منطقتين:

الأولى.. منطقة الفولغا والأورال في قلب روسيا، وذلك في ست جمهوريات هي تترستان وبشكيريا وتشوفاش وموردوفيا ومارى يل وأودمورت، إضافة إلى وجود المسلمين كذلك في وحدة إدارية كبرى هي إقليم أورنبيرج.

أما المنطقة الثانية فهي منطقة القوقاز الشمالي، وتشمل سبع جمهوريات هي داغستان والشيشان وأنجوشيا وقبردين بلقاريا وأوسيتيا الشمالية ألانيا وكارتشييف شيركيسيا والأديغة. وأما القوقاز الشمالي سوى قسم من القوقاز الكبير الذي يقع نصفه الجنوبي خارج حدود روسيا فتقتسمه ثلاث دول، واحدة منها إسلامية هي أذربيجان، والاثنتان الباقيتان مسيحيتان هما جورجيا وأرمينيا.

وينتمي المسلمون في روسيا إلى عائلات عرقية لغوية متباينة من القوقازية الشمالية إلى الألطاية والهندو أوروبية. وتتشعب هذه العائلات في شجرة متباينة من 40 مجموعة عرقية تمثل لوحة فسيفسائية لا يجمعها رابط. ويكفي أن نعطي مثالاً لذلك جمهورية صغيرة مثل داغستان ينتمي السكان بها إلى 12 مجموعة (إثنو لغوية).

ولا يرجع تداخل القوميات إلى ظروف حضارية بقدر ما لعبت الأغراض السياسية في الحيلولة خاصة في العهد السوفييتي دون تكوين أغلبية عرقية في جمهورية من الجمهوريات لتفوّت الفرصة على مطالب انفصالها. ومن ثم فإن نسبة المسلمين فى عديد من جمهوريات الفولغا والأورال على سبيل المثال لا تزيد على 50 - 60 % حتى لا يتشكل ثقل أيديولوجي يستند إلى البعد الديموجرافي في الاستقلال.. ويوضح الجدول السابق معلومات أساسية عن مناطق تركز المسلمين في روسيا الموقعة على الخريطة المرفقة.

وكما تنقسم مناطق التركز الإسلامي في روسيا في موقعين منعزلين، تتباين أيضاً مقومات الجغرافيا السياسية للموقعين. فالمسلمون الروس في منطقة الفولغا الأورال أقرب إلى التعايش والاندماج مع مركب الدولة الروسية. فبالإضافة إلى تجربتهم التاريخية الدامية لنيل الاستقلال، هم على وعي كبير بأن خطورة الموقع الاستراتيجي الذي تقع فيه أراضيهم وما تحويه من ثروات حيوية كالنفط وقدرات اقتصادية كبرى كالصناعات الثقيلة والمتوسطة لا يمكن أن تسمح الآن ببلورة وحدة سياسية مستقلة عن روسيا تقطع بها جسدها في سيبيريا شرقاً عن روسيا الأوروبية غرباً، وعن عالم آسيا الجنوبية والوسطى جنوباً.

أما المسلمون في القوقاز فكان لدى غالبيتهم المبررات الكافية لطلب الاستقلال، سواء كانت اقتصادية كالغني بالنفط، أو استراتيجية كالواجهات البحرية والوقوع على محاور الطرق الحيوية بين الشرق والغرب. وفوق كل هذا ذاكرة حاضرة لقرون من المعاناة المفزعة. وخطت الشيشان أخطر الخطوات للاستقلال، فقابلتها روسيا بما يتابعه الناس من عنف شديد ومذابح جماعبة وتشريد خارج الديار. وباستثناء الشيشان وجزئياً داغستان يبدو أن هناك قناعة لدى باقي الجمهوريات الإسلامية في القوقاز، بأن التجربة الدامية التي عاشها مليون إنسان بين قتل وتشريد لا يجب تكرارها، الآن على الأقل.

تلك الومضات السريعة التي أطلقتها السطور السابقة تبدو في حاجة إلى الإجابة على عديد من الأسئلة، وفي مقدمتها: كيف وصل الإسلام إلى روسيا؟ ما هوية الإسلام الروسي؟ وما المذاهب الفكرية التي تحكم تطوره؟ أي مستوى بلغته صناعة الإسلاموفوبيا في روسيا؟ هل عرفت روسيا صحوة إسلامية حقيقية؟ وما دوافعها ومستقبلها؟ وفي الأعداد المقبلة بإذن الله نحاول الإجابة على عديد من هذه الأسئلة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply