مسلمو قبرص


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد:

يحاول دائماً أعداء الإسلام من صليبيين وصهاينة وغيرهم إخفاء الحجم الحقيقي لأعداد المسلمين، وأماكن تجمعاتهم في بلاد الكفر، ليضيع أثرهم، ويخفي أمرهم على إخوانهم، فيظلوا طي دائرة النسيان والضياع، بين قهر أعدائهم، وجهل إخوانهم بحالهم, وتشتد وطأة أعداء الإسلام على المسلمين في البلاد التي كانت يوماً ما تحت حكم المسلمين .

 

أين تقع قبرص؟

تعد قبرص أكبر جزر البحر المتوسط الشرقي، حيث تبعد عن السواحل التركية الجنوبية مسافة خمسة وستين كيلومتراً، وعن الساحل السوري بتسعين كيلومتراً، وعن الساحل المصري بأربعمائة كيلومتراً، وعن سواحل بلاد اليونان مسافة تسعمائة كيلوامتراً, وتتألف أرض قبرص من سلسلة جبلية توازي الساحل الشمالي، ومرتفعات في الوسط الجنوبي الغربي، فهي من ناحية الموقع والتضاريس تعتبر جزيرة آسيوية، ومع هذا تصر الدول الأوروبية على تصنيفها بين الدول الأوروبية تأكيداً على نصرانيتها، وإخفاء لحجم المسلمين بها، وللأسف يتابع الجهلة من كتاب المسلمين الأوروبيين في دعواهم، ويقولون أيضاً أنها أوروبية.

 

كيف وصل الإسلام إلى قبرص؟

وصل الإسلام إلى قبرص مبكراً جداً في عهد الخليفة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - سنة 28 هـ، عندما استطاع معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - فتح الجزيرة بأسطول بحري خرج من الشام ومصر، وصالح معاوية أهلها على جزية قدرها 7200 دينار، ولما حدثت فتنة ابن سبأ اليهودي وانشغل المسلمون بها امتنع أهل قبرص عن دفع الجزية، فغزاهم معاوية سنة 34هـ، واحتل المجاهدون قسطنطينية عاصمة الجزيرة، وسيطروا على الجزيرة كلها، وأسكن معاوية اثنا عشر ألفاً من جند المسلمين، وانتقل إليها الكثير من أهل بعلبك، ونشروا فيها الإسلام، وبنوا المساجد، وتناسلوا وتكاثروا بالبلاد.

في سنة 75 هـ دخل البيزنطيون الجزيرة، واحتلوها مستغلين الخلاف الواقع بين ابن الزبير وعبد الملك بن مروان، وهكذا نرى أن أعداء الإسلام دائماً يستغلون الخلاف والشقاق في الصف المسلم للنيل من الأمة، وحاول المسلمون بعدها فتح الجزيرة عدة مرات في سنة 109هـ, 126هـ, 174هـ, 190 هـ ولكنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا أقدامهم بالبلد.

 

قبرص بين الصليبيين والمماليك:

عندما اندلعت الحروب الصليبية استولى ريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا على قبرص سنة 587 هـ، وجعلها قاعدة حربية للإمداد والتموين، وعندما اندحر الصليبيون بالشام انحاز الكثير منهم إلى جزيرة قبرص, وفي عام 692 هـ بعد إجلاء الصليبيين من الشام نهائياً تجمعت القوى الباقية منهم بقبرص، وأصبحت قبرص ملجأ للقراصنة الذين يغيرون على السفن، وسببوا الكثير من المتاعب لدولة المماليك بمصر، وزادت جرأتهم حتى قاد ملكهم بطرس الأكبر حملة صليبية سنة 767هـ واحتلوا الإسكندرية لمدة 3 أيام، وطردهم المماليك الذين قرروا غزو الجزيرة وذلك أيام السلطان المملوكي الأشرف برسباي، حيث استطاع المماليك الاستيلاء على الجزيرة سنة 830هـ، وأرغموا أهلها على دفع الجزية، ولكن سرعان ما جاء البنادقة 'الإيطاليون' واستولوا على الجزيرة سنة 895هـ.

 

قبرص والعثمانيون:

فتح العثمانيون الجزيرة سنة 979 هـ، وعملوا على تطويد دعائم الإسلام بها، وأسكنوا فيها الكثير من المسلمين حتى صار عدد المسلمين ثلاثة أضعاف النصارى، وهكذا غدت الجزيرة بلد إسلامياً خالصاً، وجزءاً من أمة الإسلام.

وعندما ضعفت الدولة العثمانية وقويت أوروبا التي أخذت في التهام جسد الدولة قطعة قطعة، وكان الإنجليز أعدى أعداء المسلمين ينظرون لقبرص نظرة خاصة باعتبارها قاعدة هامة في الطريق إلى الهند، فأكره رئيس وزراء إنجلترا 'دزرائيلي' اليهودي سلطان العثمانيين على قبول معاهدة دفاع مشترك سنة 1296هـ تكون قبرص بموجبها تحت الحماية الإنجليزية نظير 92800 جنيه إسترليني.

 

قبرص والحكم الإنجليزي:

عندما احتلت إنجلترا قبرص كان أكثر سكانها مسلمين، فعملوا قبل كل شيء على إضعاف المسلمين بتشجيع هجرة النصارى اليونان لقبرص، وفي نفس الوقت ضغطت على المسلمين الأتراك للهجرة منها، واستمرت إنجلترا على نفس السياسة حتى قيام الحرب العالمية الأولى.

عملت إنجلترا بجانب خلخلة التركيبة السكانية، وإضعاف قوة المسلمينº إلى نشر الفساد والانحلال داخل الجزيرة، وعهدوا إلى اليهود بالكثير من المناصب، والذين أنشأوا بدورهم مراكز تجارية كبيرة بالبلد، وجعلوها مقراً لعصابات الصهاينة، وعندما قامت دولة اليهود الخبيثة كانت قبرص من أوائل من اعترف بها.

 

قبرص والتدخل اليوناني:

عرفنا أن كثيراً من اليونانيين هاجر إلى قبرص واستوطنوا بها حتى صاروا أغلبية، وغلب الجنس اليوناني على الجنس القبرصي، لذلك فلقد رأت اليونان أن لها حقاً بقبرص، ويجب الاتحاد فيما بينهما، وتأسست سنة 1343هـ حركة 'أنيوسيس' وتعنى الاتحاد مع اليونان، وانضم لتلك الحركة كل القساوسة بالجزيرة، وقامت تلك الحركة الصليبية المنشأ والهدف بارتكاب مجازر بشعة سنة 1349هـ راح ضحيتها المئات من المسلمين.

قامت اليونان بتحريض القبارصة للثورة ضد الإنجليز لطلب الاستقلال، وظهر على المسرح السياسي المطران مكاريوس رئيس أساقفة اليونان، والجنرال 'جريفاس' وهو جنرال يوناني متقاعد وصل البلد سراً في سنة 1373هـ.

حاولت اليونان عرض قضية قبرص على الأمم المتحدة ففشلت، وكذلك المطران 'مكاريوس' بسبب نفوذ إنجلترا التي قامت كحركة دعائية لمكاريوس بنفيه هو وثلاثة من أعوانه إلى جزيرة سيشل سنة 1376 هـ تماماً مثلما فعلت مع سعد زغلول ورفقاؤه للترويج لهم داخل مصر على حساب حركة مصطفى كامل السليمة نوعاً ما.

 

الاستقلال:

بعد كثير من الأخذ والرد، والقبول والرفضº اقترحت انجلترا شكلاً مشوهاً للاستقلال يعمل على بقاء الفتنة والصراع داخل البلد بين عنصريها المسلم التركي والقبرصي اليوناني، ووافق مكاريوس على خطة الاستقلال على أن يقتسم المسلمون والنصارى السلطات والمشاركات بنسبة 40% للمسلمين و60 % للنصارى، مع الإبقاء على النفوذ الإنجليزي داخل الجزيرة متمثلاً في قاعدتين عسكريتين، وإدارة مطار العاصمة.

 

الاضطرابات الداخلية:

نظراً لطبيعة الأساس الذي قام عليه الاستقلال الأعرج كان من الطبيعي أن يستمر الخلاف، وتثور الفتنة بين المسلمين والنصارى، ذلك لأن الجنرال جريفاس الصليبي أصبح قائداً للأمن العام، وتشدد تجاه المسلمين، وأظهر حقده المعلن ضد الإسلام، فثار المسلمون لذلك، فوقعت عدة معارك دموية بين الطرفين سنة 1383هـ، وفي سنة 1385هـ هاجمت القوات الحكومية أحياء المسلمين، وضربتها بالطائرات، وفتكت بالمسلمين بأبشع الوسائل، وفي سنة 1387هـ هاجمت مجموعة من الحرس الوطني الذي يرأسه جريفاس القرى المسلمة، وقتلوا أربعين مسلماً.

وقع الخلاف الشديد بين مكاريوس وجريفاس فقام الأخير بمساندة 'إسرائيل'، والادعاء بأن مكاريوس يساند العرب الذين يجعلون سفاراتهم تحت تصرف الفدائيين الفلسطينيين على الرغم بأن العرب كانوا بعيدين تماماً عن الساحة، ولا يوجد لهم بقبرص سوى ثلاث سفارات فقط.

 

وضع المسلمين بقبرص:

يبلغ تعداد المسلمين داخل الجزيرة قرابة 25% من إجمالي السكان معظمهم من أصول تركية، مع بعض العرب والقبارصة الأصليين، ويتبعون في الولاء والثقافة تركيا، ويوجد تجمع المسلمين القبارصة 'الأتراك' بشمال الجزيرة، ويسيطرون على نصف الجزيرة تقريباً، ويرأس المسلمون هناك رؤوف دنكتاش وهو تركي متعصب لتركيته, ويوجد للمسلمين عدة مؤسسات إسلامية مثل الجمعية الإسلامية في قبرص، والاتحاد القبرصي التركي الإسلامي.

ويعيش المسلمون هناك في دائرة النسيان والإهمال من جانب إخوانهم المسلمين الذين لا يشعرون بوجودهم أصلاً، ويرون أن مسلمي البلد ما هم إلا شأناًَ تركياً خالصاً، لا يعني سائر المسلمين في شيء، ومن هنا تكمن محنة المسلمين الحقيقة بذلك البلد الإسلامي السابق، ذلك لأن الطرف الآخر في الصراع وهم النصارى القبارصة واليونانيين يديرون دفة الصراع من وجهة النظر الدينية المحضة, ويرون حربهم مع المسلمين الأتراك حرباً صليبية مقدسة، في حين أن مسلمي قبرص - وجلهم من الأتراك - يديرون دفة الصراع من وجهة نظر عنصرية وقومية بين العنصر التركي والعنصر القبرصي، ويسقط جانب الدين من حساباتهم أثناء الصراعº مما أدى لخسارتهم الكثير في قضيتهم ضد الصليبيين بالجزيرة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply