بسم الله الرحمن الرحيم
في مقابلة معه في 21 تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، قال حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، الهندي "أمارتيا سين": "إذا كانت عولمة، فيجب أن تكون للجميع"!..
غير أن المظاهرات والاحتجاجات والإضرابات الاقتصادية المتزايدة بشكل متسارع في العالم العربي، من موريتانيا غربا إلى اليمن شرقا مرورا بمصر وفلسطين، تشير فقط إلى أن العولمة ليست لجميع العرب، بل لنخبة قليلة تتقلص يوميا، نتيجة لسياسات الانفتاح الاقتصادي، التي يمليها منظرو العولمة في صندوق النقد والبنك الدوليين، المؤسستين اللتين تستخدمهما القلة المستفيدة من العولمة، لصناعة أو لتطويع حكومات وحكام عرب.
وأصبح الحديث عن "العولمة" "موضة"، كما قالت ريم الفيصل في مقال لها نشرته "أراب نيوز" السعودية في الثالث من الشهر الجاري، اليوم الأخير لمؤتمر "فكر 6"، الذي انعقد في المنامة بالبحرين للبحث عن "إستراتيجية عربية لعصر العولمة".
ولا شك أن مساعي البحث عن سبل لمواجهة تحديات العولمة عربيا، هي أمر إيجابي، غير أن البدء بمساع كهذه، بالقفز فوق الواقع العربي، شبيه بمحاولة التحليق في السماء، بينما الأرض تتهاوى تحت الأقدام، فالانطلاق نحو العولمة لابد له من قاعدة صلبة، إلا أن هذه ليست مفككة ومجزأة ومتهاوية فحسب، بل إنها تزداد تفككا وتفتتا ورخاوة بفعل النتائج السلبية للعولمة نفسها عليها، وتكاد تكون غائبة عربيا تماما.
كما أن الانجذاب إلى المثاليات الإنسانية للعولمة، مثل الانفتاح الثقافي والتواصل والتفاعل بين الحضارات وتبادل المنجزات العلمية وغير ذلك، مما يسلط الأضواء عليه المؤسسون لنظام العولمة والمستفيدون منه ماديا والمستغلون له اقتصاديا وسياسيا، يُغيب عمدا عن وعي الرأي العام العربي، الآثار المدمرة لهذا النظام على السيادة الوطنية للأمم والهوية الثقافية للشعوب والفجوة الاقتصادية المتسعة بين الدول المتقدمة وبين الدول الفقيرة، كما بين القلة القليلة التي تزداد ثراء والأغلبية الساحقة التي تغرقها العولمة في الفقر المدقع، بكل ما يترتب على هذه الآثار وغيرها من نتائج سياسية كارثية على توازن العلاقات الدولية للنظام العالمي وعلى السلم الدولي.
فعلى سبيل المثال، نقلت "آن بيتيفور" في مقال لها نشرته "أوبن ديموكراسي" في الحادي عشر من الشهر الجاري، بعنوان "العولمة والمشي نياما إلى الكارثة"، عن الاقتصادي الأميركي، المعروف بتنبؤاته الدقيقة السابقة بفترات الكساد، نورييل روبيني، تحذيره من خطر انهيار للنظام المالي الأميركي، يجري تعميمه عالميا "لم نشهد لقسوته وحجمه مثيلا من قبل أبدا"، لأن حجم الدين العالمي، يعكس وجود نظام مالي وتجاري محطم، ولاحظت "بيتيفور"، أن ما يثير الذعر هو أن المؤسسات المالية الكبرى، خصوصا البنوك، تخفي هذه الديون عن رقابة البنوك المركزية، وقد بلغ حجم هذه الديون في النصف الثاني من عام 2007 حوالي (45. 5) تريليون دولار أميركي.
"وبينما تجري حتما خصخصة أرباح البنوك والشركات الكبرى، فإنه غالبا ما يجري تأميم خسائرها (وتعميمها على المجتمع)... ليواجه العالم كسادا عالميا طويلا ومدمرا... وتستمر المجتمعات الاستهلاكية الغربية في السير نائمة عبر أسواق الاستهلاك الممولة بالديون"، كما قالت بيتيفور.
والدفع عربيا بالقول إن الخطر غربي أو أميركي في مصادره ونتائجه، ليس مصدرا للراحة والاطمئنان، ولا يخفي حقيقة أن العولمة هي "الأمركة"، وأن ما يحدث في الولايات المتحدة والغرب سوف ينسحب حتما على العرب، الذين أصبحت "موضة" لديهم عقد الندوات والحلقات الدراسية والمؤتمرات، للبحث في كيفية اللحاق العربي بعصر العولمة والاندماج فيه!
ولم تكن ندوة "الصناعات الوطنية أمام تحديات العولمة"، التي افتتحت برأس الخيمة في الإمارات العربية المتحدة يوم الخميس الماضي، إلا حلقة جديدة في سلسلة المنتديات النخبوية التي تجتاح السوق العربي الاستهلاكي الواسع، الذي لا دور له في العولمة حتى الآن، إلا أن يكون الطرف "المشتري" لمنتجاتها.
* "فكر 6" مثالا:
ولا يمكن تجاهل مدى الأهمية الوطنية والقومية لمبادرة تسعى إلى زج القطاع الخاص العربي برأسمالييه ورجال أعماله، للمساهمة في تمويل ودعم الفكر العربي العلمي والمبدع في المجالات كافة، فذلك إن تحول من مجرد مبادرة رمزية إلى واقع فاعل، سوف يساهم أولا في الحد من هجرة الأدمغة العربية من ناحية، ويثري الاستثمار وطنيا وقوميا في هذه الأدمغة من ناحية ثانية، ويحرر المنظمات غير الحكومية للمجتمع المدني العربي من الارتهان للتمويل الأجنبي المشروط سياسيا من ناحية ثالثة.
غير أن رعاية أمير من صلب المؤسسة الحاكمة في العربية السعودية والضيافة والرعاية والمشاركة المباشرة من الأسرة الحاكمة في البحرين، بقدر ما منحت الدعم للمبادرة الطموحة، بقدر ما ألقت عليها ظلالا من الشك في كونها مبادرة بعناوين غير سياسية، تستهدف خدمة التوجهات السياسية لمعسكر المعتدلين العرب المتحالف مع الولايات المتحدة الأميركية، زعيمة "العولمة الأمركة"، ومما عزز هذا الانطباع وسائل الإعلام ذات اللون الواحد التي كانت حاضرة في المؤتمر، كمشاركة فيه أو كراعية له، ويكفي استعراض أسماء البي بي سي، وسي ان بي سي "العربية"، وأم بي سي، والمجلة، وصحيفة الحياة، كرعاة إعلاميين للمؤتمر لتوضيح ذلك، وربما كان توجيه الدعوة للمشاركة في "فكر 6" لوسائل إعلام ذات لون آخر، بل معارضة، سيبدد هذا الانطباع ويعزز مصداقية المبادرة.
إن أي "إستراتيجية عربية لعصر العولمة"، لا يمكن أن تتبلور لتتحول إلى فعل عربي واعد، إن كانت ذات لون واحد، ولخدمة اجتهاد قومي واحد، خصوصا إذا كان المبادرون إليها ورعاتها ومضيفوها، يمثلون تحالفا أو صداقة أو انحيازا اقتصاديا أو ثقافيا أو سياسيا إلى جانب الولايات المتحدة، التي تقود العولمة وتهيمن عسكريا أو سياسيا على العالم العربي، هيمنة تحول دون عولمته.
* انفصال عن الواقع:
ودون الحط من أهمية فكرته ونبل طموحه وجدية رعاته ومضيفيه ومحاوريه و"الشموع المضيئة" القليلة التي أنارها، بمنحه جوائز تكريم لإبداعات عربية علمية وأدبية وفنية، فإن الانفصال عن الواقع كان من المعالم البارزة للمؤتمر، الذي تحدث بلغة العولمة عن المستقبل، انطلاقا من واقع مغرق في محليته وتجزئته وإقليميته، والحرص الاستبدادي على استمرار الوضع الراهن لحاضره.
وربما يكمن في هذا التناقض، كل ما يبدد التفاؤل، الذي أبداه ممثل أرامكو، عبد الله بن صالح بن جمعة في كلمته التي ألقاها في اليوم الثاني للمؤتمر، عندما قال إن "من الممكن أن يشهد القرن الحالي صعودا بارزا للحضارة العربية، تعيدنا بعد طول غياب إلى الطليعة بين الأمم"، مستشهدا بـ"دول عريقة كالهند والصين اللتين برزتا على مسرح الأحداث وأصبحتا تقودان النمو العالمي خلال أقل من سنة، عبر خطط ترتكز على البعد الاقتصادي، بوصفه الأكثر أهمية في عصر العولمة"، متجاهلا الحقيقة السياسية الأهم في هذين البلدين، المتمثلة في كونهما موحدين ولا يخضعان لأي احتلال أجنبي، ولا تنتقص من سيادتهما أي هيمنة خارجية سياسية، بينما "شعوبهما" تمتلك إرادتها، وتعبر عنها ضمن نظامين سياسيين راسخين، على نقيض مع ما هو الحال عليه في "العوالم" العربية.
أما الحقيقة الأهم الثانية، فهي أن البلدين ينتهجان سياسة تجاه العولمة، تستهدف التأقلم معها، بالتصدي لا بالرضوخ لها، ويكفي مراجعة صراعهما مع الولايات المتحدة حول عضويتهما في منظمة التجارة العالمية، لفهم رؤيتهما "الإستراتيجية" لـ"عصر العولمة".
ومن المؤكد أن الفهم الهندي والصيني ورؤى إستراتيجية أخرى عبر العالم، تمتد من أميركا اللاتينية إلى روسيا، تتناقض أيضا مع رؤية مؤتمر "فكر 6"، التي لخصها ولي عهد البحرين والقائد العام لقوة دفاعها الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، بقوله إن العولمة لا ينبغي اعتبارها حربا جديدة يجب وقفها "لأننا لا نستطيع أن نعمل بنجاح خارج هذا النظام (العولمة) في هذا العصر"، لأن الكثيرين في العالم يرون فيها حقا حربا اقتصادية وثقافية غربية، تستهدف سيادتهم السياسية وثقافاتهم الوطنية.
إن دعوة الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في اليوم الثاني للمؤتمر إلى الانفتاح الذهني على العولمة، وتشجيعه للإبداع، قد ذكرت مستمعيه دون قصد منه بالجريمة المستمرة للتصفية الجسدية لآلاف العلماء والمبدعين العراقيين العرب الذين كادوا يضعون أمتهم على مشارف النهضة، التي يطمح هو وغيره من مؤسسي ورعاة مؤسسة الفكر العربي إلى إطلاقها من نقطة الصفر مرة أخرى.
إن الواقعية المتزنة للطموحات المكية للأمير العربي السعودي خالد الفيصل، مسكونة بالأمل حقا، لكنها واقعية مهددة بالسقوط في المثالية والرومانسية، إن لم يعضدها الوعي الواقعي، بأنها غير قادرة على التحليق دون أجنحة سياسية فوق واقع يئن مثخنا بالجراح تحت وطأة الاحتلال الأجنبي خصوصا في فلسطين والعراق.
إذ كيف يمكن البحث في مستقبل الاقتصاد العربي والبترول وبدائله والتنمية البشرية وامتلاك التكنولوجيا والبيئة "الخضراء" و"المواطن العالمي" العربي، وغير ذلك من القضايا الحيوية التي حاول "فكر 6" بحثها في إطار العولمة، بمعزل عن الواقع الراهن في العالم العربي، وبخاصة في فلسطين والعراق، أو كيف يمكن الاستشراف العلمي والفكري للتأقلم مع العولمة بآفاقها وحدودها المفتوحة، دون البحث أولا في كيفية عولمة الحدود بين العرب أنفسهم الذين تخنقهم الحدود والحواجز "السيادية" والسياسية والعسكرية، "الوطنية" والأجنبية!
فعلى سبيل المثال، انعقد مؤتمر "فكر 6" في ضيافة مملكة البحرين في فندق يقع على مرمى حجر من قاعدة جفير الأميركية، التي يفصلها برزخ بحري عن قطر، حيث القيادة الأميركية التي تدير العمليات العسكرية لغزو العراق منذ عام 3م، دون أن يتطرق المؤتمر في جدول أعماله أو في مداولاته للوجود العسكري الأميركي في مياه الخليج العربي وعلى شواطئه وفي العراق، ليتخذ من هذا الوجود قاعدة لتهديد إيران ومياهها الإقليمية في الخليج.
إن تخصيص حيز لا بأس به من وقت المؤتمر لشرح الميزات الاقتصادية والبيئية للاستثمار في "المباني الخضراء"، ودعوة المستثمر العربي السعودي في البناء "الأخضر" محمد العيسى إلى سن قوانين لذلك، ونشر برامج تربوية لزيادة الوعي بالتقنيات "الخضراء"، ربما كانت ستثير دهشة الملايين من العرب في أحزمة الفقر المدقع، التي تحاصر العواصم العربية لو استمعوا لها، وتثير استنكار الآلاف من الفلاحين العرب في فلسطين والعراق بخاصة، حيث العولمة الأميركية ترعى اجتثاث واقتلاع ملايين أشجار النخيل والزيتون.
وقد استمع المشاركون في "فكر 6" في ذهول، بين مصدق ومكذب، إلى خبر العزم على إنشاء مدينة "مصدر" في الإمارات العربية المتحدة، لتكون الأولى من نوعها في العالم، كافة كأول مدينة نموذجية بيئيا لخلوها من التلوث، الذي ثقب الأوزون وغير مناخ الكرة الأرضية، وهم على الأرجح لا يعرفون قرية "أم النصر" الفلسطينية في شمال قطاع غزة، التي غمرها فيضان مجمع للمجاري ومياه الصرف في شهر آذار / مارس الماضي، مدمرا المساكن المتواضعة التي لم تدمرها دروع آلة الحرب الإسرائيلية فيها وجارفا بمخلفاته النتنة العفنة طفلين ورجلا مسنا وثلاث نساء، بينما حذرت الأمم المتحدة من كارثة بيئية مماثلة تهدد بانفجار مجمع أكبر إذا لم يسارع المجتمع الدولي إلى تداركها.
والبحث عن سبل تنمية المواطن العربي لتأهيله كي يكون "مواطنا عالميا"، يستطيع النجاة والبقاء في عصر العولمة، هي مهمة وطنية وقومية عربية ضخمة، لكنها مهمة مستحيلة إذا لم تبحث أيضا عن الشروط السياسية الوطنية والعربية لتوفير هذه المؤهلات، لأن الخلاص "الفردي" للمواطن العربي، لا يكمن في عولمته فرديا، بل يكمن في تأهيل مجتمعه الوطني والقومي للبقاء في عصر العولمة، ثم التركيز على التنمية البشرية والفردية ضمن هذا الإطار.
كما أن تجريد الفكر العربي من أبعاده السياسية، كشرط لقبوله "شريكا" مع رأسمال القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني غير الحكومية في مشروع لـ"نهضة" عربية، تستشرف رؤية إستراتيجية عربية في عصر العولمة، يهدد بحصر الطموحات المكية لمؤسسة الفكر العربي في نطاق دائرة الضوء الضيقة، التي تنيرها شموع قليلة، تمنح الأمل، لكنها لا تمنح وعدا واقعيا بتبديد ظلمة الحاضر الدامسة، لأن الحدود التي تتوقف عندها دائرة الضوء هذه هي حدود سياسية، ولأن المقتل سياسي لطموحات المؤسسة المكية.
فالعولمة تجرف في طريقها الحدود السياسية عبر العالم، تقف الحكومات أمامه عاجزة، خاصة أمام جبروت الشركات العابرة للقارات، التي تتجاوز السيادة الوطنية للدول في تهديد لهذه السيادة، لكن هذه العولمة عجزت وما تزال عاجزة عن جرف مئات الحواجز العسكرية التي يقيمها الاحتلال الإسرائيلي للحيلولة دون حرية حركة البشر والبضائع الفلسطينيين، بحيث يصبح الحديث عن وجود "مواطن عالمي" في فلسطين، لأن الفلسطيني يمتلك هاتفا نقالا ويستطيع الوصول إلى الإنترنت، ضربا من الاستفزاز السياسي والسخرية غير المقصودة من معاناته الوطنية، والحال نفسه ينطبق على العراق تحت الاحتلال الأميركي.
ويكاد يكون هناك شبه إجماع دولي على أن الترجمة السياسية لمفردة "العولمة" هي "الأمركة"، وربما كان الأجدى للمؤتمرين في المنامة أن يتحاوروا أولا حول هذا التعريف، ليتوافقوا عليه أو ليعدلوه أو يغيروه كشرط مسبق لحوارهم حول البحث عن إستراتيجية عربية لعصر العولمة.
ومن الواضح أن الإطار الرأسمالي والعلمي وغير السياسي الذي التزم به منظمو "فكر 6" والمشاركون فيه والمدعوون إليه قد حال دون ذلك، مما خلق فجوة واسعة بينهم وبين الواقع السياسي الذي يعملون فيه ومما يهدد ببقائهم مبادرة نخبوية لا صلة لها بالواقع وبالتالي دون أي قدرة على المساهمة في تغيير هذا الواقع، كما يطمحون.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد