بسم الله الرحمن الرحيم
في فيلم (ستيليث) -على اسم طائرة (الشبح) الأمريكية الشهيرة- الذي أنتجته سينما هوليود مؤخراً، توجه الإدارة الأمريكية تعليمات لسلاح البحرية بتفجير مبنى في أحد دول آسيا، تجتمع فيه منظمات (إرهابية) حسب وصف الفيلم، وتطلب أن يكون التفجير بشكل غير معلن، بحيث يبدو أن انهيار المبنى كأنه عمل (إرهابي) من قبل خصوم (للإرهابيين)، فتُسقط إحدى طائرات (الشبح) قذيفة تخترق أعلى المبنى وتستقر في أسفله، ثم تنفجر لينهار المبنى كله على من فيه، وتقيّد الحادثة ضد مجهول!
وفي فيلم آخر، يقوم مستشار الأمن القومي بالتنسيق مع الرئيس الأمريكي، بإعطاء الأوامر لطائرة أمريكية بالانطلاق مع حاملة طائرات في خليج بنما لإطلاق صاروخ حديث بنفس الطريقة، على مقر يجتمع فيه كبار تجار المخدرات في كولومبيا، بشكل يوحي أن الانفجار وقع في سيارة مفخخة، وأنه أيضا نتيجة صراع زعماء مافيا المخدرات!!
وربما كانت هذه الخطط السينمائية الأمريكية التي يهواها (الرئيس الأمريكي) بوش، والتي تكررت في عهود رؤساء آخرين خاصة (الرئيس الممثل) رونالد ريجان (عميد المحافظين المتطرفين)º هي النموذج الذي كان الرئيس بوش ينوي القيام به في حالة قناة الجزيرة، التي تم الكشف عن مخطط أمريكي لضربها بذات المخطط السينمائي الذي يسعى لأبعاد الشبه عن أمريكا، ويظهر الأمر على أنه مجرد حادث (إرهابي) ضد القناة، قام به خصوم أو أعداء لها!؟.
بعبارة أخري يمكن القول: إن خطة قصف (الجزيرة) جاء ردا علي فشل خطط التسويق الإعلامي الأمريكي لإعلام الحرب وتلميع صورة أمريكا الكريهة في العالم
فما الذي يعنيه اعتراف أكثر من مسؤول بريطاني في وزارتي الخارجية والدفاع البريطانيتين أن هناك وثيقة تؤكد أن الرئيس بوش طرح على (رئيس وزراء بريطانيا) توني بلير خطة لقصف محطة قناة الجزيرة الفضائية في قطر؟ وما الذي يعنيه الصمت الرسمي الأمريكي والبريطاني عن الرد على ما نشرته صحيفة ديلي ميرور (التي توزع 3 ملايين نسخة) بشأن هذه الخطة؟ وما الذي يعنيه حظر (النائب العام البريطاني) بيتر غولدسميث النشر في هذه القضية وتهديد ثلاثة صحف بريطانية كبرى منها ديلي ميرور من النشر في هذه القضية؟!
المعني يبدو واضحاً، ويؤكد أن الوثيقة صحيحة، وأن ثمة خطة كان يجري التفكير فيها بالفعل من قبل حكومة الرئيس بوش لقصف دول قطر، رغم أنها حليف هام لواشنطن، وبها أكبر قاعدة عمليات أمريكية متطورة كان لها الدور الأكبر في تسهيل غزو واحتلال العراق، ويؤكد أيضا أن نشر الوثيقة سبب حرجاً كبيراً لإدارة بوشº لأنها بمثابة دليل على فشل خطط الدعاية الأمريكية لترويج حروب بوش، ودليل على العجز عن مواجهة تسرب فضائح السياسية الأمريكية عبر الإعلام العربي الفضائي رغم محاولات التطويع المختلفة.
بعبارة أخرى يمكن القول: إن خطة قصف (الجزيرة) جاء رداً على فشل خطط التسويق الإعلامي الأمريكي لإعلام الحرب، وتلميع صورة أمريكا الكريهة في العالم، التي رصدت لها مليارات الدولارات وفشلت، فلجأت لأسلوب تكميم وضرب الإعلام المضاد الجديد في العالم العربي الذي يفضح جرائم الاحتلال.
فقد بدءوا بخطة تخصيص إدارة وميزانية للدعاية والإعلام لتغيير العقول العربية والإسلامية عبر سلسلة من المجلات والصحف المدعومة أمريكيا مثل مجلة (هاي)، وإذاعة (سوا)، وإنشاء محطات فضائية مثل (الحرة)، غير دعم صحف ومجلات أخرى عربية بدعم مالي مباشر، واستضافة صحفيين وإعلاميين عرب في برامج تدريبية أمريكية لغسيل المخ.
ولهذا لم يكن برنامج تحسين صورة أمريكا في العالم الإسلامي هو البرنامج الدعائي الوحيد الذي تبنته الإدارة الأمريكية، ولكن تم وضع برامج أخرى عديدة عقب احتلال العراق تهدف لإقناع العرب والمسلمين أن الهدف ليس الاحتلال ونهب ثروات العراق ولكنه نشر الديمقراطيةº لأن تعاظم الكراهية للأمريكان سيترتب عليه هجمات على غرار 11 سبتمبر.
وفي هذا الإطار جرى وضع خطط عاجلة للترويج للاحتلال عبر إعلانات تلفزيونية وزعت على الفضائيات العربية الكبرى هدفها الزعم أن الاحتلال يسعى لتخليص العراقيين من الديكتاتورية وتحقيق حلمهم في الديمقراطية (!)، ووصل الأمر عقب فضيحة تعذيب العراقيين لإشراك (الرئيس الأمريكي) بوش بنفسه في خطة الدعاية من خلال توجيه أحاديث إلى العالم العربي عبر عدة فضائيات وصحف عربية.
ولأن أسلوب الدعاية التلفزيونية الأمريكية هو الأسلوب الأمثل للتأثير السريع (أنفق الأمريكان العام الماضي 8 مليارات دولار على الدعاية لمنتجاتهم)، فقد وضعوا خطة قالت الصحف الأمريكية: " إنها سرية لتنبي الدعاية التلفزيونية كنموذج أسرع للترويج بتكلفة 5.8 مليون دولار" بغرض "المساعدة في إقناع العراقيين مثلا بصحة التوجه الأمريكي لإقرار ديمقراطية في العراق وعدم الرغبة في البقاء في العراق أو احتلاله كما تقول المقاومة العراقية "!
تكميم الإعلام العربي!
إذا كانت الخطة الأمريكية تقوم على الترويج والدعاية للاحتلال، فالوجه الآخر لها هو تكميم أبواق الإعلام العربي التي تنشر حقائق وصور عن الانتهاكات الأمريكية في العراق وجونتانامو، وهو ما ظهر بشكل أوضح في الهجوم على قناة الجزيرة الفضائية علنا من قبل القادة العسكريين الأمريكان، وإيفاد وزير الخارجية الأمريكي باول ونائبه أرميتاج لقطر لدعوة المسئولين هناك للضغط على الجزيرة وتدجينها، ثم التفكير في قصفها في نهاية المطاف لأنه من الصعب تغيير مسارها 360 درجة!.
وقد دفع هذا اتحاد الصحفيين العرب للتنديد بما اسماه " حملة التشويه والتحريض الأمريكية المصاحبة لاحتلال العراق، ضد كل صحفي وإعلامي يجتهد في نقل الحقيقة وإطلاع الجمهور على ما يجري في المعارك "، وكذلك التنديد بتعمد قتل الصحفيين في العراق عمداً، بهدف إخفاء الحقيقة وإرهاب الإعلام وتشويه واقع ما يجري على الأرض وبالتالي تزييف التاريخ وخداع الرأي العام.
وأورد الاتحاد في بيان أصدره يوم 3 مايو 2004 نموذج لهذا الإرهاب الفكري لقوات الاحتلال بما تعرض له من تشويه وإرهاب الصحفي أحمد منصور بقناة الجزيرة، الذي نقل صورة واقعية للحصار الأمريكي للفلوجة في الأسبوع الأول من أبريل الماضي، وخصوصاً صور القتل العشوائي والدمار الشامل، فاتهمته قوات الاحتلال ثم قائد القوات المركزية الأمريكية ثم وزير الدفاع ووزير الخارجية الأمريكي بتغذية المشاهدين بالأكاذيب.
تداعيات ضرب الجزيرة
وتكشف وثيقة ضرب الجزيرة عن أمور في غاية الخطورة مثل:
1- أن العمليات التي جرت ضد وسائل إعلام عربية في عام 2001 عندما أصيب مكتب الجزيرة في كابول بقنابل أمريكية، وفي عام 2003 عندما قتل مراسل الجزيرة طارق أيوب في غارة أمريكية على مكتبها في بغداد، ثم التفكير في ضرب الجزيرة نفسها في أبريل 2004، كانت كلها عمليات مقصودة وليست أخطاء كما بررت وزارة الدفاع الأمريكية.
2- أن مقاضاة الرئيس بوش والمطالبة بمحاكمته أمام المحكمة الجنائية الدولية التي تشكلت عام 2003 عن جرائم الحرب التي قام بها، بات مطلبا هاما تعززه الوثائق الرسمية البريطانية، وهو ما يفسر ضمنا التعتيم الإعلامي البريطاني الفوري على الوثيقة وحظر النشر في القضية وتهديد محرري الصحف البريطانية بالحبس لو نشروا المزيد عن القضية.
3- أن التصريحات الأمريكية حول الحريات وحقوق الإنسان في العالم هي للاستهلاك المحلي ولخداع الشعوب العربية والتعمية على جرائم المحتل في العديد من البلدان، ومثلها خطط نشر الديمقراطية في العالم العربي التي كانت تستهدف أساسا ترويض الحكومات العربية، ومع هذا توقفت نسبياً عندما تبين لهم خطر وصول الإسلاميين للحكم.
4- أن التفكير الأمريكي في ضرب الجزيرة جاء عقب كشف الجزيرة حقيقة ما جرى في الفلوجة العراقية (أبريل 2004) من إبادة لأهالها السنة كنوع من السعي للقضاء على المقاومة العراقية، وهو أمر جرى تكذيبه أمريكيا وقتها مع حظر دخول للفلوجة، ولكن الصحافة الإيطالية كشفته الأسبوع الماضي عندما أوردت شهادات حية لجنود أمريكا عن استخدام (الفسفور الأبيض) الذي يذيب لحم الإنسان ويصل إلى العظام!
5- قالت صحيفة الديلي ميرور: " إن الوثيقة خرجت من مكتب بلير في داوننغ ستريت ثم ظهرت في مايو من العام الماضي في مكتب توني كلارك (الذي كان وقتئذ عضواًَ بالبرلمان)، وإن كلارك أعاد بعد ذلك الوثيقة إلى الحكومة"،.وقد وجهت إلى كل من ليو أوكونور (الذي كان يعمل في مكتب كلارك) والموظف الحكومي ديفيد كيو اتهامات بموجب قانون الأسرار الرسمية البريطاني بقيامهما بالكشف عن وثيقة تتصل بالعلاقات الدولية مما قد تترتب عليه أضرار، والملاحظ هنا السعي الحثيث للملمه الفضيحة قبل أن تعصف ببوش! وهناك احتمال لأن تكون هذه الوثيقة قد سربت عمداً بهدف ترهيب القناة القطرية وتقييد حركتها بدون إطلاق رصاصة واحدة عليها.
6- وصف البيت الأبيض هذه التقارير بأنها "غريبة جداً إلى درجة لا تستحق الرد عليها " وأحجم مكتب بلير عن التعليق، وهو ما يؤكد أن نشر الوثيقة أحدث صدمه رؤى معها ضرورة تجاهلها والهرب منها، بل وهدد النائب العام البريطاني بإصدار أمر فوري من المحكمة العليا إذا لم تتوقف الصحيفة عن نشر مزيد من التفاصيل، وقالت الصحيفة: "إنها وافقت على الالتزام بالأمر"، ونشرت صحيفتا "الغارديان" و"التايمز" مقالات مشابهة قالت فيها: إنها تعرضت للتهديد بالملاحقة القضائية إذا كشفت عن مزيد من تفاصيل الوثيقة؟!
7- قالت صحيفة الجارديان: إن هذه هي المرة الأولى التي تهدد فيها حكومة بلير صحيفة ما بهذه الصورة، حيث لم تقاض الحكومة من قبل محررين لنشرهم محتويات وثائق مسربة، حتى شديدة الحساسية منها المتعلقة بمدة ما قبل الحرب على العراق، وقال صحفيون عرب في لندن: " إن هذا التحرك البريطاني يستهدف أيضاً الصحافة العربية في لندن، حيث يجري إعداد وإصدار حزمة قوانين تستهدف تهجيرها وتكميمها"، وهو ما يشير إلى انتهاء فكرة الحرية الإعلامية الغربية.
8- تزامن مع فضيحة ضرب الجزيرة توجيه المؤسسات الإعلامية الأميركية انتقادات حادة لـ(الرئيس الأميركي) جورج بوش بسبب المبررات التي ساقها لشن الحرب على العراق، وشككوا في الحملة الضخمة المؤيدة للحرب أثناء الاستعدادات لشنها، وفي الوقت الذي كان البيت الأبيض وخصومه الديموقراطيون يتبادلون الاتهامات المريرة حول العراق، طالبت الكاتبة الصحافية المرموقة كريستينا بورجيسون بمساءلة وسائل الإعلام الأمريكية على أخطائها قبل الحرب، خصوصاً أن الكتاب الذي يحمل عنوان "في قفص الاتهام، الإعلام بعد 11/9" يتحدث فيه 21 صحافياً عن المبررات التي ساقتها إدارة بوش لشن الحرب الاستباقية على العراق في عام 2003م.
فضيحة ضرب الجزيرة لا تقل بالتالي عن فضيحة (وواترجيت) الأمريكية المتعلقة بتجسس الرئيس نيكسون على خصومه، فالضرب هذه المرة ليس موجهاً لإرهابيين أو لخصوم عسكريين وإنما لمدنيين وإعلاميين، ما يحتم تقديم الجناة إلى المحاكمة بتهمة جرائم الحرب، فلو وقعت الجريمة، ولو لم يعترض على الخطة رئيس وزراء بريطانيا لكان قتل في هذه الجريمة عشرات الإعلاميين العرب تحت أنقاض مبني الجزيرة!
والخطورة أن بوش يفكر بهذه الطريقة ولا يزال أمامه أربعة أعوام في السلطة، ما يثير المخاوف من وجود خطط أخرى في جعبته لم يكشف النقاب عنها بعد!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد