بسم الله الرحمن الرحيم
ارتبط تاريخ إنشاء وانتشار "المحاكم الإسلامية" في الصومال بأمرين أساسيين: (الأول) هو رغبة الصوماليين وحرص الكثيرين منهم على تطبيق الشريعة الإسلامية، و(الثاني) يتمثل في بحث رجال الأعمال والقبائل عن قوة عسكرية تحمي تجارتهم وهيبتهم القبلية وتوقف حالة الفوضى في البلاد، ولذلك حظي طلاب العلوم الدينية والشيوخ على دعم كبير من رجال القبائل خصوصا قبيلة (الهوية)، من رجال الأعمال لأن الاستقرار معناه رواج استثماراتهم.
ومع أن أوساط بحثية غربية تروج لمقولة أن قوات المحاكم الإسلامية هي صنيعة رجال الأعمال والمستثمرين الصوماليين فقط، فالصحيح أنه لولا التزام هذه القوات وغالبية الشعب الصومالي بالدين وقناعتهم بالفكرة الإسلامية وضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية ما كتب النجاح لهذه القوات في حربها ضد قرابة عشرة فصائل من أمراء الحرب السابقين، ولا رسخت أقدامها في الصومال للحد الذي جعل الصوماليين ينعمون لأول مرة بعيد فطر خال من العنف، ودفع وكالة "رويتر" في تقرير لها من الصومال يوم 30 أكتوبر 2006 للحديث عن انتعاش الاستثمار في الصومال حاليا بفضل سيطرة الإسلاميين.
تاريخ المحاكم الإسلامية ونشأتها يشير بالتالي إلى وجود نوع من التعددية داخل هذا الكيان ما بين أطراف سلفية جهادية تسعي لتوسيع دائرة الحرب داخليا وخارجيا،، وأخرى معتدلة
ولا ننسي في هذا الإطار أن المحاكم الإسلامية نشأت نشأة دينية في البداية واستمرت تحارب لبقائها وتوسع نفوذها، وعندما رأى رجال الأعمال والمستثمرين تغلغل نفوذها ونجاحها في تحقيق الاستقرار في المناطق التي سيطرت عليها، وبدون مقابل من "الإتاوات" التي كانوا يدفعونها سابقا لأمراء الحرب بدءوا يمولون هذه المحاكم حتى أنهم تعهدوا مؤخرا بدعمها ضد قوات الغزو الأثيوبيةº لأن عودة الحرب سيؤدي لحالة فوضي جديدة وضياع استثمارات كثيرة.
بداية النشأة
في عام 1991، عقب سقوط حكومة سياد بري بالصومال وانتشار حالة من الفوضى، حاول العالم الأزهري الصومالي الشيخ محمد معلم حسن إنشاء محكمة شرعية بمنطقة "طورطيجلي" جنوب مقديشو بالتعاون مع شيوخ القبائل للفصل بين المتخاصمين بالاحتكام إلى الشريعة، غير أن الجنرال الراحل محمد فارح عيديد -الذي كان يسيطر على جنوب العاصمة آنذاك، وخلفه ابنه حسين عيديد وزير الداخلية بالحكومة الفيدرالية الحالية- أحبط هذه المحاولةº لأنه اعتبرها محاولة لإضعافه.
وفي بداية عام 1994 جرت ثاني محاولة فردية لتأسيس محكمة شرعية على أسس عشائرية بالشطر الشمالي من العاصمة، وعين الشيخ على محمود (طيري) رئيسا لها، حيث استطاعت بسط نفوذها على أجزاء واسعة من شمال العاصمة مستعينة بالميليشيات التي كونتها والتي جاء أغلبها من العشائر التي تفتقد للأمن، ونجحت المحاكم بالفعل في فرض النظام بعدما نفذت أحكام رادعة من الرجم إلي القصاص والإعدام.
وفي عام 1996 بدأت المحاكم تظهر بقوة كنظام قضائي استحدثه رجال الأعمال في العاصمة وبتمويل منهم، بالتنسيق مع رؤساء العشائر على خلفية مطلب تأمين مصالحهم الاقتصادية وتوفير السلع والخدمات للشعب الصومالي من جانب، والسعي نحو فرض الأمن والنظام من جانب آخر، وفي عام 1997 ظهرت المحاكم الإسلامية في مقديشو لأول مرة، وكانت أشبه بوزارتي عدل وداخلية، وذلك بعد فشل مبادرات فردية لإقامة محاكم بمناطق متفرقة في عامي 1991 و1994، بحيث كونت هذه المحاكم التي تستند إلى قاعدة الشريعة الإسلامية ميليشيات في كل قبيلة بالعاصمة لتقوم بدور وزارة الداخلية حيث نفذت عمليات مشتركة لإرساء الأمن في محاولة للقضاء على حالة الفوضى التي شهدتها البلاد في غضون الحرب الأهلية، وهو ما أكسبها نفوذا ومصداقية كبيرة لدى الصوماليين.
والمشكلة أن التصعيد الخارجي والغزو الأثيوبي يشجع ضمنا التيار الأكثر تشددا ويضعف نفوذ التيار المعتدل
بيد أن زعيم الحرب القوي آنذاك "علي مهدي محمد" دخل في صراع مع المحاكم وتمكن من القضاء على نفوذها القومي وحبسها في الإطار المحلي فقط عبر تفكيك أجهزتها القضائية والتنفيذية (الميليشيات)، مستعينا بدعم الحكومة الإثيوبية، ولكن المحاكم ظلت موجودة ضمنا داخل كل قبيلة على المستوى المحلي لحل الخلافات بين أبنائها، قبل أن تعود وتنتشر تدريجيا مرة أخرى.
مرحلة التمكين
مع تصاعد أعمال العنف والفوضى عام 2001، وتضرر رجال الأعمال بقوة وبداية تمويلهم لقوات المحاكم، عادت الميليشيات لتلعب دورا عسكريا لفرض النظام، ونجحت في تنفيذ عمليات مشتركة شاركت فيها الميليشيات التابعة لها في كل قبيلة بالعاصمة، حتى وصل نفوذها إلى جنوب مقديشو.
ومع استمرار الصراع بين أمراء الحرب وعدم اعترافهم بحكومة الرئيس صلاد حسن الانتقالية التي تمخضت عن قمة جيبوتي وتفشي الفوضى عقب سقوط هذه الحكومة مرة أخري، تم في عام 2005 تأسيس (المجلس الأعلى لاتحاد المحاكم الإسلامية) بمقديشو، وانتخب الزعيم الشاب الشيخ شريف شيخ أحمد رئيسا له، بحيث أصبحت العاصمة مقديشو تضم ما لا يقل عن 11 محكمة شرعية تنتمي إلى تحالف معروف باسم المجلس الأعلى للمحاكم الشرعية بالصومال.
وقد اتبع الاتحاد هذه المرة سياسة عدم الصدام بأمراء الحرب لحين التمكين وتكوين جيش قوي من الميليشيات الإسلامية المدعومة من القبائل والعشائر التي تبحث عن الهدوء والاستقرار، حتى نجح في تشكيل قوة قوامها أكثر من خمسة آلاف مقاتل مسلحين بشكل جيد، وتزايد عددها مع انتشار حالة التدين في المنطقة ودخول العديد من الشباب المتدين تحت أمرة هذه القوات بشكل غير رسمي خصوصا أنها قوات شبه شعبية يسهل تجميعها أو تسريحها.
كما زاد من قوة هذه المحاكم ما تسرب عن دعم الأمريكان لأمراء الحرب السابقين الذين نشروا الفوضى في البلاد، ما أثار حفيظة الأهالي الذين ذاقوا ويلات الحرب على يد القوات الأمريكية التي تدخلت في الصومال في الفترة من 2002 حتى 2004، فضلا عن استشعار الأهالي الهدوء والنظام الفعلي في ظل سيطرة المحاكم.
قوات المحاكم..وقوات طالبان!
ومع أن المحاكم الإسلامية في الصومال تتشابه من حيث النشأة والتكوين مع المحاكم الشرعية لحركة (طالبان) في أفغانستان التي ظهرت على المسرح السياسي هناك في حقبة التسعينيات، فهي تميزت عن طالبان في أمرين: (الأول) أن غالبية المنتمين إليها هم من غير الطلبة وإنما من الغيورين على الفكرة الإسلامية ومن أنصار التيارات الإسلامية المختلفة مثل التنظيم الصومالي القديم (الاتحاد الإسلامي)، و(الثاني) أنهم ممن تعلموا على يد علماء وشيوخ معتدلين، ما ميزهم عن طلاب (طالبان) الذين نشئوا على خلفية فكرية مختلفة.
، ولو انتقلت لطور الصراع داخليا وخارجيا وضاع دورها الحقيقي في توفير أجواء الاستقرار، فقد تنزلق لهاوية عدم الاستقرار ويرفع عنها الممولون الدعم وتتكالب عليها القوى الخارجية
بل أن هناك فارقا جوهريا وهاما بين الحركتين يتمثل في استفادة المحاكم من أخطاء طالبان وعدم دخولها في معارك وهمية أو فورة حماس مع قوي صومالية وإقليمية في معارك قبل التمكين وضمان السيطرة والتفاف أنصار حولها (20 ألفا من الصوماليين قاموا ببيعة علنية أمام الشيخ شريف شيخ أحمد رئيس اللجنة التنفيذية للمحاكم الإسلامية على أن يجاهدوا في سبيل الله ضد القوات الأثيوبية المتمركزة في بعض مناطق الصومال يوم الجمعة 27-10-2006).
وهناك سبب آخر لانتشار نفوذ المحاكم وسيطرتها على أجزاء كبيرة من البلاد ويختلف أيضا عن طالبان، تمثل في صورة تنوع مصادر الدعم الإقليمي والخارجي والداخلي لها بعدما بدأت تحتكم للشريعة قانونا في قضايا السرقة والنهب وقطع الطرق والاختطاف والاغتصاب وغيرها من الجرائم الجنائية (وهو ما يشابه طالبان في مكافحة تلك الجرائم)، خاصة في ظل غياب مؤسسات الدولة، فبالإضافة لما يتردد عن تمويل قادم من الخليج العربي من جمعيات وأفراد أو من رجال أعمال وتجمعات صومالية هناك، هناك دول جوار ترغب في أن تقوي الدولة الصومالية ولا تقع فريسة لجارتها أثيوبيا التي لها مطامع فيها.
الأصول الفكرية لـ "المحاكم"
تعددت الاجتهادات بشأن الأصول الفكرية لقوات المحاكم ومنابعها الفكرية، فالبعض أتهمها بأنها امتداد لتنظيم (الاتحاد الإسلامي)، الذي كان موجودا على الساحة الصومالية منذ أوائل التسعينيات وله فكر أيديولوجي يستهدف إقامة دولة إسلامية، وتردد أن قياداته كانت على صلة بأسامة بن لادن، وأنه قام بزيارة للصومال ووفر دعما له، والبعض الآخر ربطها مباشرة بفكر القاعدة وأسامة بن لادن، والبعض الثالث تحدث عن أصول فكرية معتدلة استنادا لشيوخ الصومال وعلمائها الذين يقفون خلف هذه المحاكم.
ويبدو من خلال استعراض وقائع تاريخية أن قوات المحاكم تتميز أكثر بالاعتدال والوسطية أو على أقل تقدير تضم خليطا من المعتدلين وغيرهم ويمكن أن نؤيد ذلك بالوقائع التالية:
1- حول ما يقال عن انتماء أفرادها إلى قوات (الاتحاد الإسلامي) القديمة، هناك من يؤكد من المثقفين الصوماليين أن هذا التنظيم انهار منذ زمن ولم يتبق منه سوي أفراد وأفكار، بعدما تعرض لضربات متلاحقة، أولها من الجنرال محمد فارح عيديد الأب، الذي تحالف في بداية الأمر مع الاتحاد ضد احدي قوي الجوار (إثيوبيا)، ولكنه انقلب عليه عندما استشعر خطر قوته المستقبلية على مكانته ونفوذه، وثانيها من الجنرال عبد الله يوسف، الرئيس الحالي للصومال إبان توليه منصب رئيس إقليم بونت لا ند في أوائل التسعينيات، حينما سعي الاتحاد الإسلامي إلى السيطرة على ميناء بوصاصو في الإقليم، وثالثها عندما اجتاحت إثيوبيا إقليم جدو الواقع على الحدود بين البلدين، وقامت بتصفية قواته، وتشتتت عناصره وتفرقت على القبائل التي ينتمي إليها كل منهم، ولم يتبق إلا أفراد بصفتهم الشخصية دون التنظيمية، وربما يكون من بينهم من انخرط في ميليشيات المحاكم الإسلامية الحالية كأفراد أو قيادات.
2- المحاكم الإسلامية في أصلها عبارة عن محاكم قبلية ينضوي تحتها أفراد مختلفين من قبيلة "الهوية"، ورغم وجود 14 محكمة منها حاليا، فالمرجعية في أغلبها للعشيرة أو القبيلة وأحكام الشريعة، ما يصعب مسألة سيطرة فكر واحد عليها.
3- بعد شريط بن لادن الأخير الذي تحدث فيه عن الوضع الصومالي ومدح "المحاكم الشرعية" داعيا لها بالانقضاض والهجوم على الحكومة وقتل الرئيس الصومالي عبد الله يوسف، خرج تصريحان متناقضان عن المحاكم، الأول صدر من رئيس اللجنة التنفيذية الشيخ شريف شيخ أحمد نشره موقع "بونت لا ند بوست"- انتقد فيه بن لادن ووصف تدخله بالقضية الصومالية بأنه أمر لا يعني المحاكم ووصف نصيحته بالهجوم على مقر الحكومة بالأمر الغير المقبول، والثاني تصريح من الشيخ حسن ظاهر عويس رئيس مجلس شورى المحاكم - أورده موقع "هرسيد نت" - امتدح فيه بن لادن ووصفه بأنه "صاحب الضمير الحي"، وقال: "بن لادن يشعر بالظلم الذي يقع على المحاكم الإسلامية ويتألم مما يحصل للشعب الصومالي ونحن نشاطره الرأي فيما قاله عن قيام دولة إسلامية في الصومال وهو ما نسعى إليه".
4- هناك من يقول أن هناك فكران يتصارعان في الصومال وينعكسان على المحاكم، (الأول) هو فكر السلفية الجهادية وتمثله في الصومال "حركة الاتحاد الإسلامي"، أو "الاعتصام الإسلامي" حسب الاسم الجديد، ومن زعمائه الشيخ حسن ظاهر عويس وهو عقيد سابق في الجيش الصومالي وسبق أن قاد عام 1992 حملة للسيطرة على إقليم "بونت لا ند" (خمسة محافظات شمال شرق الصومال)، وبينه وبين الرئيس الحالي تاريخ صراع طويل، ويقال أن فريقه يضم صوماليون تدربوا في أفغانستان، ومن بين رجالات التيار الجهادي هذا الشيخ حسن تركي وهو مدرج في قائمة الإرهاب الأمريكية، والشيخ على عبد الله. ويحمل هذا التيار أفكارا تتشابه مع أفكار تنظيم القاعدة بزعامة بن لادن، ويسعون إلى إقامة (دولة إسلامية) وتحكيم شرع الله على أرض الصومال، وتوسيع رقعة الجهاد لتشمل دول الجوار الصومالي، وإخراج الأجانب أو الكفار من القرن الأفريقي.
أما التيار الثاني الذي تضمه المحاكم فهو تيار أهل السنة والجماعة، ويمثله حركة إسلامية صوفية معتدلة تضم ألوانا متعددة من التيارات الإسلامية، وهو عكس التيار الجهادي لا يعادي الحكومة الحالية ويتعاون معها ولا يرفع السلاح في وجهها، ويتزعم هذا التيار في داخل المحاكم القائد الشاب الشيخ شريف شيخ أحمد (رئيس المجلس التنفيذي)، ومن قياداته الشيخ عبد القادر على عضو مجلس الشورى، وهذا التيار في مجمله معتدل وقد علا صوتهم العقلاني في المرحلة الأولى من صراع المحاكم مع أمراء الحرب إلا أن هناك من يري أن بوادر التآمر الخارجي ضد الصومال والتدخل الأمريكي والإثيوبي، أضعف دور هذا الجناح المعتدل وظهر الجناح أو التيار الجهادي ليقود معركة الحشد ضد أثيوبيا وأمريكا.
تاريخ المحاكم الإسلامية ونشأتها يشير بالتالي إلى وجود نوع من التعددية داخل هذا الكيان ما بين أطراف سلفية جهادية تسعي لتوسيع دائرة الحرب داخليا وخارجيا، وأخري معتدلة تري التدرج في التمكين، والسعي للإصلاح الداخلي وتوفير الاستقرار وتنمية الاستثمارات الأجنبية لتوفير الرخاء للصوماليين.
والمشكلة أن التصعيد الخارجي والغزو الأثيوبي يشجع ضمنا التيار الأكثر تشددا ويضعف نفوذ التيار المعتدل، وهنا تبدو خطورة أو مخاطر أن تنعكس هذه الخلافات الداخلية داخل المحاكم على توجهات الحركة، بحيث يأتي انهيارها داخليا قبل أن يكون خارجيا، وهي معادلة صعبة في ظل نشأة المحاكم ذات الطبيعة التعددية القبلية، فلو استمر اعتدال الحركة وتوفيرها الاستقرار الداخلي فسوف يستمر دعم رجال الأعمال لها، ولو انتقلت لطور الصراع داخليا وخارجيا وضاع دورها الحقيقي في توفير أجواء الاستقرار، فقد تنزلق لهاوية عدم الاستقرار ويرفع عنها الممولون الدعم وتتكالب عليها القوى الخارجية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد