بسم الله الرحمن الرحيم
ذكرنا في ختام المقال السابق، أن الخطاب الغربي حول الشرق تنوع بسبب عدة عوامل، منها تنوع الجمهور الذي يتوجه إليه ذلك الخطاب، ونفصل ذلك كالآتي:
1 - الغرب الكنسي اللاهوتي، له خطاب ديني يسعى به إلى تنصير المسلمين..وحتى الدوائر العلمانية في النظم السياسية الغربية بما فيها العلمانية الفرنسية المتطرفة تدعم هذا المشروع الكنسي التنصيري وخطابه اللاهوتي، لأنه يصب في النهاية في تحقيق استراتيجية إلحاق الشرق بالغرب، وهيمنة الحضارة الغربية المسيحية بمعنى من المعاني على حضارة الإسلام..ومن هنا كان دعم حكومات فرنسا العلمانية لمدارس الإرساليات التنصيرية في المشرق العربي لأنها وفق عبارة قناصل الحكومة الفرنسية "تستهدف جعل سورية ( أي الشام الكبير ) حليفاً أكثر أهمية من مستعمرة! وتأمين هيمنة فرنسا على منطقة خصبة ومنتجة! وتحويل الموارنة إلى جيش متفان لفرنسا في كل وقت!... وجعل البربرية العربية "كذا" تنحني لا إرادياً أمام الحضارة المسيحية لأوروبا"!! (1).
فالهدف الاستراتيجي، الذي يجتمع عليه الغرب الاستعماري الكنسي منه والسياسي هو إعادة اختطاف الشرق من الإسلام، والتوسل إلى ذلك بتشويه صورة الإسلام، أو طي صفحة وجود هذا الإسلام!
2 - والغرب السياسي القائد لهذه المواجهة بعد إزاحة الكنيسة عن مركز القيادة له خطاب سياسي وثقافي وحضاري، يسعى إلى تغريب الشرق، واحتلال عقل النخب من أبنائه، لتأييد احتلال الأرض ونهب الثروات عندما يصبح الغرب ونموذجه الحضاري والقيمي هو قبلة عقول هذه النخب من المفكرين والمثقفين.
ومع توجيه هذا الخطاب الغربي الثقافي منه واللاهوتي في الأساس... إلى عقول المسلمين الشرقيين.. فلقد توجهوا به كذلك إلى الرأي العام الغربي، لإقناعه بضرورته، ولكسب تأييده لمراميه.. ولإشراكه في الإنفاق عليه، والنهوض بتبعاته، والحرب في سبيله.
وإذا كان طمع الغرب الاستعماري السياسي والكنسي قد شمل العالم كله، وليس فقط عالم الإسلام، فلقد تميَّز الخطاب الغربي للعالم الإسلامي عن خطابه للحضارات غير الإسلامية، بسبب تميز الإسلام ودوره في هذه المواجهة التاريخية بين الغرب والإسلام... فالإسلام ليس مجرد حضارة متميزة عن الحضارة الغربية كما هو الحال مع الحضارات الأخرى: الصينية والهندية واليابانية وإنما هو مع هذا التميز حضارة عالمية، وليست محلية كتلك الحضارات، ومن ثم فهو المنافس الأول والأخطر للحضارة الغربية على النطاق العالمي، بل وفي عقر دار الحضارة الغربية ذاتها!
ومن هنا كان إحياء الغرب وإنعاشه لذاكرة شعوبه بذكريات:
الفتوحات الإسلامية الأولى التي حررت الشرق من هيمنة الغرب في القرن السابع الميلادي بعد عشرة قرون من القهر الحضاري، الإغريقي والروماني.. والبيزنطي للشرق..
وذكريات الوجود الإسلامي في الأندلس الذي استمر ثمانية قرون (92 897ه 711 1492م) وهو الوجود الذي كاد يدخل جنوب أوروبا ووسطها في دائرة الإسلام، لولا الهزيمة الإسلامية في معركة "بلاط الشهداء" (114هـ 732م).
وذكريات الهزيمة الصليبية أمام الفروسية الإسلامية، وفشل الحملات الصليبية في إعادة اختطاف الشرق والقدس من الإسلام، رغم استمرار هذه الحملات قرنين من الزمان (489 690ه 1096 1291م).
وذكريات المطاردة العثمانية للتحدي الأوروبي على أرضه... وفيها تم فتح القسطنطينية (857ه 1453م)، ثم أوغلت هذه المطاردة على أرض البلقان.. حتى وصلت إلى أسوار "فيينا" في (935هـ 1529م) وفي (1094هـ 1683م).
وذكريات السيطرة الإسلامية على البحار الكبرى للكرة الأرضية الأبيض والأحمر والعرب.. والأسود لأكثر من عشرة قرون، كان المسلمون فيها هم "العالم الأول" على ظهر هذا الكوكب.
كان المشروع الغربي السياسي منه والكنسي حريصاً دائماً وأبداً، على إنعاش ذاكرة الشعوب الغربية بذكريات و"خطر العالمية الإسلامية"، على استراتيجيته، وذلك لتأجيج حماس تلك الشعوب في معركة الغرب لاستعادة الشرق مرة أخرى من الإسلام.
وفي كل مفردات هذا الخطاب الغربي اللاهوتي منه والسياسي والثقافي والتعليمي والإعلامي كان الغرب حريصاً على توجيه أمضى أسلحته وأخطرها إلى الإسلام الدين والثقافة والحضارة باعتباره النموذج الذي يحرر الشرق من الرومان ومن الصليبيين، والطاقة المقاومة لكل محاولات هيمنة الغرب على الشرق من جديد.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد