يعتبرون رضاها من رضا الرب : ' المسيحيون الصهاينة '.. في خدمة إسرائيل


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

شهدت الأيام القليلة الماضية تجدد المظاهرات أمام مبنى الكونجرس الأمريكي للمرة الثانية خلال هذا الشهر من جانب مجموعة ممن يطلقون على أنفسهم "المسيحيون الصهاينة"، طالبت المظاهرات بتراجع بوش عن وعوده بإحياء خارطة الطريق، رافعين شعار.. "إسرائيل أولاً".. وتأتي هذه المظاهرات بعد نحو أسبوعين من اندلاع مظاهرات مماثلة لجماعات منتمية للمسيحية الصهيونية، في أعقاب لقاء الرئيس الأمريكي بوش بالعاهل الأردني الملك عبد الله، والذي أكد خلاله أهمية التفاوض المباشر بين الإسرائيليين والفلسطينيين لحل القضايا موضع الخلاف، وهو ما اعتبره المتظاهرون تراجعاً أمريكياً عن الضمانات والوعود الأمريكية لشارون بأن تضم إسرائيل أجزاء من تلك الأراضي التي احتلتها عام 1967 إلى أراضيها بما يتوافق مع موازين القوى ومع متطلبات الأمن الإسرائيلي.

 ورغم الفجوة الهائلة بين رسالة الضمانات التي قدمها الرئيس الأمريكي لرئيس الوزراء الإسرائيلي التي اعتبرت بمثابة وعد بلفور جديد، وبين التطمينات التي قدمها للعاهل الأردني، فقد شكلت الأخيرة "صدمة" قوية للمسيحيين الصهاينة، واعتبروا ما فعله الرئيس الأمريكي بمثابة ردة عن النهج الأمريكي الجديد في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي، الذي قام على تأكيد سياسة الأمر الواقع كبديل عن الشرعية الدولية. وقال المتظاهرون في بيان لهم "نحن المسيحيون الصهاينة.. مهمتنا توفير الدعم لدولة إسرائيل والشعب اليهودي وتحقيق مشيئة الرب.. إننا نريد أن يتفهم الآخرون أن رضا الرب من رضا إسرائيل".

 والصهيونية المسيحية هي حركة سياسية ترجع إلى ما قبل إنشاء دولة إسرائيل، سعت دائماً لممارسة الضغوط على الإدارات الأمريكية المتعاقبة من أجل الدفع في اتجاه إقامة وطن لليهود في فلسطين، واستخدموا لتحقيق ذلك كافة وسائل العمل السياسي والإعلامي والمنابر اللاهوتية. وقد شكل تيار المسيحية الصهيونية في الولايات المتحدة أداة هامة للصهيونية في تحقيق مشروعها، وفي اجتذاب قطاع كبير من الأوساط البروتستانتية الأصولية في الولايات المتحدة. وزاد من تهود المسيحية الأمريكية التحولات العميقة في الثقافة الدينية الأمريكية منذ السبعينيات حتى اليوم، فقد خرجت الكنائس من الزوايا وهوامش المجتمع، إلى صدارة الحدث السياسي والاجتماعي، بفضل ثورة الإعلام والاتصال، وخصوصا عبر ما يدعى (الكنائس التلفزيونية)، وتوسعت الطوائف الأصولية على حساب المسيحية التقليدية. وأصبح تيار "المسيحيين المولودين من جديد" Born Again Christians في اتساع مطرد، وهو أكثر التيارات المسيحية تماهيا مع اليهودية، وبالتالي مع عصمة الدولة اليهودية وقدسيتها.

 ولأول مرة في الولايات المتحدة وصل إلى البيت الأبيض عام 1974 رئيس يعتز بانتمائه إلى هذا التيار، وهو الرئيس جيمي كارتر، الذي عبر عن حقيقة الرباط العقدي بين اليهود والمسيحية الأمريكية في خطاب له أمام الكنيست الإسرائيلي عام 1979 قال فيه: "إن علاقة أميركا بإسرائيل أكثر من مجرد علاقة خاصة.. لقد كانت ولا تزال علاقة فريدة، وهي علاقة لا يمكن تقويضها، لأنها متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي".

وقد برز التأثير الكبير للمسيحية الصهيونية على الإدارات الأمريكية منذ وصول اليمين المحافظ أو "المحافظين الجدد" إلى الحكم في عهد الرئيس رونالد ريجان عام 1980، ولعبت القوى المسيحية الصهيونية دوراً كبيراً في صياغة أفكار اليمين المحافظ، كما أمدته بكوادر وكفاءات بشرية نادرة، مما جعل مفكري هذا اليمين المحافظ يعبرون عن جوهر فكر المسيحية الصهيونية، ويوظفونه عملياً في السياسة الخارجية الأمريكية، وتشكل تحالف وثيق بين المحافظين الجدد والمسيحية الصهيونية، عبر عن نفسه بصورة واضحة في سياسات إدارة بوش الحالية.

ووفقاً للخطاب المسيحي الصهيوني، فإن العودة الثانية للمسيح مرتبطة بوجود إسرائيل في فلسطين، وتمكينها على من سواها، ووفقاً لهذا التصور، فإن إسرائيل تعد بمثابة قضاء إلهياً، ومن ثم فإن معارضة سياستها تعد خطيئة دينية، ويصبح دعمها وتأييدها في سبيل مرضاة الله، وتكون تقويتها عسكرياً واقتصادياً ومساعدتها مادياً وتسويق منتجاتها وسنداتها وإنشاء صناديق الاستثمار الدولية لمصلحتها، وبناء المستوطنات فوق الأراضي المغتصبة وتوفير وسائل المعلومات والتقنية لها، واجباً مقدساً.

 ويعد كتاب "النبوءة والسياسة" للكاتبة الأمريكية جريس هالسل من أبرز ما كتب عن المسيحية الصهيونية، حيث يشير الكتاب إلى أنه بسبب تيار الصهيونية المسيحية أصبحت الصهيونية صهيونيتين، الأولى والأساسية صهيونية مسيحية، والثانية يهودية، كما أصبحت اللاسامية أيضا لاساميتين، الأولى تكره اليهود وتريد التخلص منهم وإبعادهم بكل الوسائل الممكنة، والثانية تكره اليهود أيضاً ولكنها تريد تجميعهم في مكان واحد هو فلسطين، ليكون هذا المكان هو مهبط المسيح في مجيئه الثاني المنتظر. وفكر اللاسامية هو امتداد للفكر الذي أرسته بعض الحركات الدينية المسيحية، وخاصة الحركات الألفية التي تؤمن بأن السيد المسيح سيعود ليحكم العالم مدة ألف سنة، وربطت بين هذه العودة ووقوع بعض الأحداث الرمزية من أهمها عودة اليهود إلى فلسطين، وقيام دولة إسرائيل، وإعادة بناء الهيكل، وقد التقط تيار الصهيونية المسيحية هذه المعتقدات بالربط بين الانتصار الساحق لإسرائيل ونشأة تيار مسيحي يزداد قوة، ويربط بين الولاء والدعم لإسرائيل وتعجل عودة السيد المسيح.

 ويوجد الآن في الولايات المتحدة أكثر من ثلاثمائة منظمة مسيحية صهيونية، تشكل تياراً سياسياً رئيسياً، وتلعب دوراً بارزاً في توفير التأييد الشعبي، والدعم المالي والمعنوي والسياسي والعسكري لدولة إسرائيل. كما أنشأت المسيحية الصهيونية العديد من جماعات الضغط للتأثير في صانع القرار في الإدارة الأمريكية، من أجل تحقيق أغراضها وتوجهاتها، وعقدت تحالفات متينة لهذا الغرض مع جماعات اليمين المحافظ السياسية، وهو اليمين الذي يؤمن بالمبادئ التوراتية نفسها. ومن بين هذه المنظمات "منظمة المائدة المستديرة الدينية" التي تأسست عام 1979 ويرأسها القس ادوارد مالك أتير، والتي عقدت العشرات من الندوات، شارك فيها سياسيون وقيادات أصولية مسيحية، كما أقامت حفلات إفطار سنوية للصلاة من أجل إسرائيل ودعم سياساتها، واعتادت على إصدار بيان عقب كل صلاة إفطار تبارك فيه إسرائيل باسم ما يزيد على 50 مليون مسيحي يؤمنون بالتوراة في أمريكا.

 ومن أهم هذه المنظمات أيضاً منظمة "جبل المعبد" ولها امتدادات داخل إسرائيل، وتسعى إلى إنشاء الهيكل في القدس، وتمتلك شبكة هائلة من المتعاونين معها من رجال الأعمال والقساوسة، ولها فروعها في عدد من المدن الأمريكية. وتقوم هذه المنظمة بتوفير الدعم المالي للمتطرفين اليهود ممن يسعون إلى هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل مكانه، كما تقوم بجمع الأموال المعفاة من الضرائب وتبعث بها إلى إسرائيل، كما تقوم بشراء أراضي في الضفة الغربية المحتلة لمصلحة الإسرائيليين، فضلاً عن قيامها بعمليات تدريب للكهنة اليهود وإعدادهم، وتجنيد خبراء الآثار والتصوير وإيفادهم لإسرائيل للتنقيب تحت المسجد الأقصى.

 وبالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من المنظمات المسيحية الصهيونية التي تقوم بدور نشيط، ومنها منظمة "مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل" التي تأسست عام 1975، و"الصندوق المسيحي الأمريكي لأجل إسرائيل" المتخصص في شراء الأراضي العربية وحيازتها لأغراض بناء المستوطنات. ومن المنظمات المسيحية الصهيونية النشيطة داخل إسرائيل نفسها المنظمة المسماة "السفارة المسيحية الدولية"، التي تأسست تعبيراً عن أهمية القدس لدى أتباع هذه العقيدة المسيحية الصهيونية، وتأكيداً لأهمية العمل المسيحي نيابة عن إسرائيل، وتقوم هذه المنظمة بنشر كتب ومجلات ورحلات سياحية، إلى جانب تنظيم مسيرات ومظاهرات مؤيدة لإسرائيل.

ومن أبرز القيادات المسيحية الصهيونية القس بات روبرتسون، الذي ترجع أصوله إلى أسرة هاريسون الذي وقع إعلان استقلال أمريكا، وكان والده عضواً في مجلس الشيوخ الأمريكي لمدة تزيد على ثلاثين عاماً، وتعتبر شبكته الإعلامية المسماة بشبكة الإذاعة المسيحية من بين المحطات الأكثر نشاطاً في الولايات المتحدة، كما تمتلك مؤسسة روبرتسون جامعة معتمدة منذ السبعينات، وتصدر نشرة إخبارية، تحرص من خلالها على التأكيد أن إسرائيل هي أمة الله المفضلة وأنها تؤيد احتلالها للأراضي العربية وتعتبر العرب أعداء الله.

 ومن أبرز هذه القيادات أيضاً القس جيرى فولويل الذي اقتحم الساحة الإعلامية بقوة ويقدم برنامج "ساعة من انجيل زمان" يظهر فيه أكثر تشدداً في دعم إسرائيل، وهو يمتلك العديد من المؤسسات، منها "منظمة الأغلبية الأخلاقية" التي تسعى لممارسة الضغط على الكونجرس والإدارة الأمريكية من أجل دعم مصالح إسرائيل، ولا يتوقف الأمر عند هذا، وإنما يتخذ فولويل مواقف مناهضة للعرب ولحقوقهم، ويعارض بيع أسلحة أمريكية للدول العربية، وقد عبرت إسرائيل عن تقديرها للقس جيرى فولويل فمنحته ميدالية الزعيم الصهيونى الإرهابي جابوتنسكي. وهناك أيضاً القس مايك إيفانز، والذي يقدم العديد من البرامج التليفزيونية، أشهرها برنامج يسمى "إسرائيل مفتاح أمريكا للبقاء"، وقد اعتاد أن يستضيف في برامجه قادة من إسرائيل، وتغطي برامجه أكثر من 30 ولاية أمريكية، وينشر إعلانات باهظة الثمن دعماً لإسرائيل وسياساتها، كما أنتج فيلماً شهيراً أسماه "القدس عاصمة داوود".

 وقد أدركت إسرائيل والحركة الصهيونية العالمية مدى أهمية المنظمات المسيحية الصهيونية لدعم المشروع الصهيوني، خاصة مع تزايد قوة ونفوذ هذه المنظمات في المجتمع الأمريكي، مما دفعها إلى التحالف والتنسيق معها، وقد وجدت أن مسألة تنصير اليهود في المستقبل، أي عند عودة المسيح الثانية، هي مسألة لاهوتية مؤجلة لا يستدعى الخوض فيها الآن، حتى لا يؤثر ذلك في علاقات وتحالفات إسرائيل بالمسيحية الأصولية، فكلا الطرفين يمتلك عقلية براجماتية، حيث دأبت المنظمات المسيحية الصهيونية في مراحلها الأولى على اعتبار أن الولايات المتحدة أمة مسيحية، ولكنها تراجعت عن شعارها الآن وتبنت شعاراً جديداً يعتبر أن أمريكا جمهورية مسيحية يهودية. ومن جانب آخر فإن إسرائيل لا يمكنها التدقيق في نوعية أصدقائها أو التردد في قبول الدعم والمساندة من أي مصدر، فهي لا ترد اليد التي تُمد لمساعدتها.

 والحقيقة أن الفكر المسيحي الصهيوني يتوافق مع الحركة الصهيونية العالمية في كثير من التوجهات والأهداف، فكلاهما يعتمد مبدأ القوة باعتباره الطريق الوحيد لتحقيق الغايات السياسية واللاهوتية أيضاً، وكلاهما يتبنى أفكار متشابهة عن الإبادة والغزو والحرب النووية وتبرير الاستيطان عقائدياً واستخدام التطهير العرقي لسكان الأرض الأصليين، وكلاهما أيضاً يسعى لامتلاك شرعية مستمدة ومبررة من فهم حرفي للتوراة، وكلاهما يصب في النهاية في مصلحة إسرائيل.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply