مشاهدات في بلاد البخاري ( 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

مشاهد تسر المسلم:

 لقد سرني كثيراً من أحوال تلك البلاد وما كنت لأتوقع ذلك أبداً، وها أنذا أسجل أشياء مما رأيته ومما ينشرح له صدر المسلم:  * طهارة تلك البلاد من القبور المعظمة عندهم فلم نر مسجداً قط يطوف الناس حوله أو يتبركون به، ولم أر مسجداً داخله قبر، وهذه نعمة كبيرة ومؤشر كبير لنشر التوحيد هناك.

 * الناس عموماً على الفطرة وإن كان ظاهرهم الإعراض عن الإسلام، فالمرأة المتبرجة لم تتعر عناداً أو عصياناً كالمرأة في البلاد العربية، لا ولكن جهلاً منها فمتى عرفت شيئاً بادرت إلى تطبيقه، وإذا دخلت المحلات التجارية - وكل البائعات فيها نساء - فإذا رأتنا المرأة استغربت الشكل: فسألت صاحبي: عربستان؟ أي من العرب.

قال نعم ومن المدينة النبوية فتشهق فرحاً وشوقاً إلى تلك الديار، وتقديراً لنا تضع يدها على صدرها، ثم تتنهد تنهداً عظيماً وتزفر زفرة قوية، توضح شوقها وحبها إلى ديار الإسلام وأهله.

 ولقد سكنت في فندق في مدينة تشاوز من دولة تركمانستان، فلما علمت مسئولة الفندق أننا من البلاد العربية طلبت منا مصحفاً وكان طلبها في نظرها من أشباه المستحيلات، فأعطيتها مصحفاً ففرحت فرحاً شديداً أبكاها ووضعته على رأسها، ثم أخذت بتقبيله قائلة: أنا أملك مصحفاً! ثم ذهبت إلى مكتبتها ووضعته في أعلى مكان منه متمنية سرعة انتهاء دوامها حتى تذهب به إلى بيتها.

 فالناس هناك على الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها: حب للإسلام وحب للعرب خاصة، لأنهم هم الذين حملوا الإسلام إليهم.

 3- ترابط الأسرة، وقيام المرأة بشأن بيتها، وقوامة الرجل على أهل بيته، فتجد البيت فيه الأب والأم والأولاد وزوجاتهم، والمرأة تقوم في شأن البيت كله: تطحن وتخبز وتطبخ وتنظف وتخيط الخ.

 4- الكرم وحسن الضيافة، أما كرمهم فلم أر أحداً أكرم للضيف منهم مع الفرح والسرور والابتهاج، فلا أتصور أحداً يذهب إلى تلك البلاد، وفيه خير ودين، ويعلم به المسلمون، يدفع شيئاً من جيبه لطعام أو شراب، وقد وصل الأمر إلى أننا أنكرنا عليهم بعض المبالغة في كرمهم.

 فإذا دعاك أحد إلى بيته فلا تتصور أنك ستطرق الباب عليه، فإن أهل البيت كلهم ينتظرونك عند الباب، فإذا دخلت البيت فمكانك أحسن المجالس، ولا يجلسون حتى تجلس، أما الطعام فمقدم لك قبل جلوسك ويأتيك الطعام من كل نوع ويقربون لك أحسنه وأطيبه، أما غسل اليدين قبل الطعام وبعده فيأتيك وأنت جالس مع المنديل، ولن تخرج من بيت الضيافة إلا ويهدون إليك شيئاً! والقصص في كرمهم كثيرة وأجتزئ منها قصتين تدلان على كرمهم وحسن ضيافتهم:  الأولى: خرجنا من مدينة (طشقند) قرب الغروب وبعد مسيرة ثلاثين ميلاً غربت الشمس فقصدنا شخصاً يعرفه أحد المرافقين معنا ففرح لقدومنا فرحاً شديداً، وأدخلنا بيته على سرور منه وفرح وما هي إلا دقائق حتى قدم لنا الطعام، وما زال يقدم لنا أنواعاً من الأطعمة، فما استطعنا أن نوقف سيل الأطعمة إلا بالمناداة للصلاة، فلما أدينا الصلاة استأذنا في الخروج فبكى وطلب منا أن نبيت عنده، وقال: ما أكرمتكم، ثم أخذ بإلحاح علينا علنا ننام عنده فلما علم إصرارنا على المسير، قال: متى ترجعون إلى طشقند، فقلنا: بعد عشرة أيام، فلما قدمنا (طشقند) وجدناه واقفاً على باب الفندق صباحاً، فحاولت الحديث معه، لكنه لا يعرف العربية وسمى لي شخصاً ممن يصحبوننا يريد مقابلته فدخلت الفندق وبحثت عنه، فلم أجده فخرجت إليه وأخبرته وطلبت منه أن يدخل فأبى، فدخلت الفندق، وتصورت أنه سيذهب ولكنه بقي على باب الفندق حتى جاء صاحبه بعد العصر، فقال: لا بد من أن يزورني الضيوف الكرام، فقال له: إن سفرهم صباحاً ولا يستطيعون، فإذا معه بعض الهدايا من عسل مصفى - في إناء لا يقل وزنه عن خمسين كيلو غراماً- فأقنعه صاحبي أننا لا نستطيع حمله بسبب الجمارك وظننا أن الأمر انتهى إلى هذا، وبعد صلاة العشاء نزلت من الفندق فإذا بصاحبنا على بابه، فأدخلته غرفتي فبدأ يبكي: كيف نذهب ولم نزره، ثم أعطاني لباساً من ألبستهم وشيئاً من العسل يبلغ اثنين كيلوجرام، ولصاحبي مثل ذلك، فحاولت إقناعه بعدم أخذها وأننا قد ربطنا أمتعتنا فبكى، فأخذتها مجاملة له ثم خرج مودعاً باكياً.

 ولا تظن أخي الكريم أن هذا الرجل يتصور أننا أكرم الناس، لا فقد حج في العام الماضي ورأى من كرمنا أننا نبيع الماء للحجيج! ! الثانية: التقينا مع بعض زملائنا من أهل الرياض في مدينة (طشقند) فتجاذبنا وإياهم أطراف الحديث فذكروا أن لنا بعض ما شاهدوه من كرم الناس فقالوا: وجدنا رجلاً يزيد عمره على الأربعين في (طشقند) فقال: أود أن تزوروننا في قريتي، فأمي منذ زمن تريد أن ترى أحداً من أهل مكة أو المدينة، قلنا كم تبعد قريتك عن (طشقند) قال قرابة ستمائة من الكيلومترات، فقلنا له: إن شاء الله سنزورك، كعادتنا في كل من طلب منا الزيارة نسوف له، فإن حانت فرصة فعلنا، ولكن الرجل فهم منهم القبول فسافر إلى قريته ووصل إلى أمه ليلاً، وأخبرها الخبر، فأخذت تبكي من الفرح حتى الفجر وفي الصباح اشترت ضأناً بمبلغ ألفين روبل، - راتب أستاذ الجامعة عندهم ألف روبل - وذبحته وطبخته، فلما حان الظهر خرج كل أهـل القرية ومعهم الأعلام والرايات إلى ظاهر القرية لاستقبال الضيوف ومعهم المرأة - فلما جاء العصر ولم يحضر الضيوف أمرت ولدها بأن يحضر طبيباً، خشية أن أحداً منهم قد مرض، ثم بقوا في انتظارهم حتى العشاء الآخرة، فقال الرجل لأمه نرجع، فقالت: لا إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واعد رجلاً فجلس ينتظره ثلاثة أيام، وأنا سأنتظرهم سبعاً، وبعد الإلحاح عليها خشية البرد رجعت إلى البيت على أن يسافر ابنها في طلب الضيوف، ولكن الضيوف سافروا إلى مدينة أخرى فهم في نظرهم لم يعقدوا موعداً معه، فخرج الرجل يبحث عنهم حتى وجدهم فقال لهم: أين الموعد؟ فقالوا: مستغربين، وهل واعدناك، فلما أخبرهم بانتظار الناس لهم رجعوا معه، فوجدوا الناس في انتظارهم في ظاهر القرية ومعهم الرايات، قالوا: فلما رأونا رفعوا أصواتهم بالتكبير، وأسرعت المرأة وأكبت عليهم تريد تقبيل أيديهم، فابتعدوا عنها، ثم أكبت على أقدامهم تقبلها، فلما دخلوا القرية وجدوا طريقهم قد فرش حتى البيت، قالوا: فلما جلسنا على الطعام والعجوز قريباً منا وهي تبكي فرحاً حتى خشينا عليها من التشنج، فلما أكلوا أحضرت لهم الماء بنفسها للتغسيل ومعها المنديل وأبت أن يأخذه أحد منها، قالوا: ثم ذهبنا إلى المسجد فإذا الناس مجتمعون فيه فأخذ الصغار بالتكبير والكبار بالبكاء عند مرآنا هذا والقصص في كرمهم كثيرة، ولكن ذكرت هاتين القصتين للتدليل فقط.

الأدب الإسلامي وحسن الخلق:  شباب عاشوا في جو الإلحاد والضياع ولكن أدب الإسلام وأخلاقه باد عليهم، فالشاب مثلاً لا يمكن أن يمد رجليه بين يديك، بل ولا يجلس متربعاً، وإنما جلسته أمامك كجلسة التشهد، أما إن طلبت منه أن يقرأ عليك شيئاً من القرآن، فاليدان على الفخذين، والرأس مطأطئ والبصر في حجره.

لا يتقدم الصغير على الكبير ولا يتكلم الولد بحضرة والده إلا بإذنه، ولا يعمل الوالد مع وجود ولده، يسود بينهم الإيثار والاحترام المتبادل، يرقبون حركتك بعين التقدير والاحترام، فإن أردت القيام قاموا جميعاً ليقدموا لك ما تريد.

الصبر والجلد والغربة في طلب العمل:  وقد ذكرت سابقاً شيئاً من صبرهم وجلدهم وتحملهم في طلب العلم وتحصيله، ولقد زرت قرية (طبق سه) وهي تبعد عن طشقند قرابة ستين كيلومتراً، فدخلت مدرسة فيها أكثر من سبعين طالباً أعمارهم ما بين الثانية عشرة إلى العشرين، وكلهم غرباء، قدموا من مسافات بعيدة للتعلم، وكانوا على مستوى متقارب من حيث الفهم والمقصد والأهداف، تسود بينهم المحبة والإخوة والإيثار، يخدمون أنفسهم فهم الذين يطبخون ويغسلون وينظفون.

وقد قمت بمقابلتهم واحداً واحداً، وكان منهم شاب عمره ست عشرة سنة قدم من سيبيريا، وهي تبعد عن مكان المدرسة أكثر من ألف كيلومتر، فقلت له: لماذا تركت أهلك وقدمت إلى هذا المكان؟ قال: لطلب الدين! ! فقلت له: متى تزور أهلك قال: في الصيف أذهب إلى الأهل.

 سبحان الله شاب بهذا العمر ويعيش في جو الإلحاد والضلال ثم يتغرب مسافات شاسعة مفارقاً الأهل والخلان والوطن في طلب الدين.

إن هذا المجتمع يحمل مقومات وخصال عظيمة ينبغي تنميتها وتربيتها وتوجيهها لخدمة الإسلام.

احترام وإجلال أهل العلم:  وهذه الخصلة الحميدة سائدة بين مختلف طبقاتهم وعلى تفاوت مستوياتهم في العلم والالتزام، فإذا قدم عليهم طالب علم أو مرّ بهم احترموه وقدروه وأفسحوا له الطريق.

ولقد وقفت في الشارع أطلب سيارة فتوقف لي صاحب سيارة خاصة في وسط الطريق وكاد أن يتسبب في وقوع حادث، وقال لي: أنا موظف ذاهب إلى عملي ولكن لما رأيتك قلت هذا من العلماء فوقفت لك! ! وهذا الاحترام ليس خاصاً بالمدنيين فقط بل إنني وجدت حتى من العسكريين المسلمين تقديراً واحتراماً يفقده كثير من الناس عندنا اليوم، فما تمر في نقطة تفتيش مثلاً إلا وتجد أول ما يبادرونك به تحية الإسلام (السلام عليكم ورحمة الله وبركاته) ويعرضون عليك بإلحاح النزول عندهم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply