مسلمو جنوب إفريقية نجاح دعوي وإخفاق في الاختراق الحركي!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 
قد لا يعرف بعض المسلمين الكثير عن الأقلية المسلمة في جنوب إفريقية، ولا عن أوضاعها وأحوالها ودورها المؤثر في الحياة هناك، بل أجزم القول: إن حدود المعرفة العامة الإسلامية عن جنوب إفريقية قبل انتهاء النظام العنصري كانت تنصب على الزعيم الأسود السجين نيلسون مانديلا، وحركة التحرر، ومناظرات الشيخ أحمد دايدات الجنوب إفريقي الموطن، الهندي الأصلº وكيف حاور القساوسة، وأشرطة الفيديو التي لم تكن تخلو منها مكتبة إسلامية أو بيت مسلم، والإعجاب بأسلوب "ديدات " - رحمه الله - في مناظراته خاصة مع القس سيجورت، أما أحوال المسلمين في ظل النظام العنصري وما يعانون منه فلم يكن موضع أي اهتمام، وحتى بعد سقوط العنصرية، وسيادة حكم الأغلبية السوداء ظل الاهتمام هامشياً، حتى إننا لو قمنا بالبحث عبر محركات البحث "جوجل" وغيره عن الأقلية المسلمة في جنوب إفريقيةº فسنجد القدر اليسير بل واليسير جداً عن هذه الجالية، وكلها أخبار عن بعض الجمعيات، ولكن وجود دراسة علمية منهجية عن الإسلام في جنوب إفريقية، وجذوره وتاريخه وسماته، والمشكلات التي تواجه المسلمين هناكº فغير موجود بالعربية، وإن كانت هناك بعض المقالات بالإنجليزية.

وقد أتيحت لي الفرصة قبل سنوات عندما عملت مستشاراً دينياً في السفارة السعودية بجنوب إفريقية أن أقترب من الجالية المسلمة هناك، وأتحاور مع رموزها، وأتعرف على الجمعيات الإسلامية ومناشطها، واهتماماتها، وأصول المسلمين ومشكلاتهم، والطموحات التي يريدون تحقيقها لدينهم.

والحقيقة أنني وجدت تجربة فريدة في العمل الإسلامي بين الأقليات في العالم، بل تجربة قلما نجدها بين أي جالية مسلمة، ومن بين هذه السمات الفريدة أولاً: عدم تأثر الجالية المسلمة في جنوب إفريقية بالفكر الحركي العربي على الإطلاق في نشأتها وتطورها، الأمر الذي جعل العمل الإسلامي هناك ينصب كلياً على الإطار الدعوي من تشييد مساجد وجوامع، ومدارس إسلامية، ونشاط دعوي، وكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم، وعمل تطوعي وإغاثي، وساهم في ذلك عدم وجود سياحة عربية أو إسلامية إلى جنوب إفريقية في ظل النظام العنصري، بل وبعد سقوطه، والسياحة العربية إلى هذه الدولة لم تبدأ إلا متأخرة جداً، ومازالت محدودة - وباستثناء تأثر بعض الشخصيات التي تُعدّ على أصابع اليد الواحدة بالفكر الحركي في مصر من جماعة الإخوان المسلمين بسبب دراستهم في الأزهر، أو قراءاتهم - فإن هذا الفكر كان محدود جداً، وإن زاد عدد الحركيين في بداية ثمانينيات القرن الماضي الميلادي إلى ثمانية أشخاص، وشكلوا بعد ذلك "اتحاد الشباب المسلم".

وكانت المرجعية الغالبة على المسلمين في جنوب إفريقية من الديوبندية أو البريلوية نظراً لأن معظم المسلمين هناك ينحدرون من أصول هندية أو مالوية، وهذا أدى إلى عدم التأثر بالخصومات المذهبية أو الحركية، أو القومية أو غيرها التي تعاني منها الجاليات المسلمة في أوروبا و الغرب بصفة عامة.

ثانياً: إن الامتداد العربي الشرعي نحو الجالية وصل متأخراً، وعندما وصل للمسلمين في جنوب إفريقية وجد لديهم مؤسساتهم الدعوية وجوامعهم، ومراكزهم الإسلامية، ومدارسهم ومناهجهم، وصحفهم ومجلاتهم، بل ومطابع المصحف هناك، حيث توجد مطبعتان للمصحف في جنوب إفريقية، ومن ثم كان تأثيره محدوداً بحدود العلم الشرعي دون وصاية أو تبعية، أو محاولة التأثير على هذه الجالية.

ثالثاً: العمل المؤسسي للجالية الإسلامية في جنوب إفريقية والذي بدأ مبكراً جداً حتى في ظل النظام العنصري، فقد شيد المسلمون في جنوب إفريقية المساجد على أحدث طراز، بل قلما تجد مسجداً أو جامعاً هناك إلا وكان على أحدث طراز معماري إسلامي، ومجهزاً بأحدث الأثاث، فالعناية بالمساجد والمدارس الإسلامية والمؤسسات الدعوية من أبرز المميزات الفريدة للأقلية المسلمة هناك، حتى في الأحياء الفقيرة تجد المساجد الكبرى، وقد أسست هناك العديد من الجمعيات المؤثرة بين الجالية (المنظمة التعليمية في جنوب إفريقية) والتي أُنشئت عام 1985 لتقدم خدماتها للمسلمين في العالم لا في جنوب إفريقية فقط، بل امتد نشاطها إلى استراليا والولايات المتحدة، وإنجلترا وكثير من دول القارة الأوروبية، ولا يقتصر نشاطها على التعليم فقط، بل لها دورها الاجتماعي من خلال برامج رعاية الفقراء، واحتضان المسلمين الجدد الذين اعتنقوا الإسلام حديثاً، وقد بدأت (المنظمة الإسلامية التعليمية) نشاطها بإنشاء أربع مدارس تعليمية وصل عددها في عام 2005م إلى (65) مدرسة ومركزاً تعليمياً، ومن أعمالها: إعداد المناهج الدراسية الإسلامية، وتدريب المعلمين والمعلمات على طرق التدريس المتطورة، والتوجيه والإشراف على المدارس الإسلامية الخاصة بالمنظمة، وطبع الكتب الإسلامية باللغات الأفريقية مثل لغة "الزولو"، والتعاون مع وزارة التعليم وبعض المدارس الحكومية في تنفيذ منهج المنظمة، وإنشاء المدارس الإسلامية المسائية للطلاب والطالبات المسلمين المسجلين بالمدارس الحكوميةº نظراً لأن المدارس الحكومية ليست بها دراسات إسلامية، وقد نجحت هذه المنظمة في الحصول على البرامج التعليمية المختلفة، ودعم من المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة والعلوم (ايسيسكو) بالمغرب ومن الأزهر بمصر، واعتمدت المنظمة في عملها على إنشاء أوقاف خاصة بها للإنفاق على المدارس والمعاهد التعليمية، فقامت بإنشاء محلات تجارية صغيره بجوار المساجد يعمل فيها المسلمون الأفارقة الذين اعتنقوا الإسلام لمساعدتهم في حياتهم اليومية، كما بدأت المنظمة في إقامة مشاريع زراعية وتنموية للإنفاق على شؤون الدعوة.

وأُنشئ اتحاد الشباب المسلم في منتصف الثمانينيات ليقدم البرامج الخاصة بالشباب في المدارس والمعاهد المتوسطة والعليا، وفي بداية التسعينيات من القرن الميلادي المنصرم أُنشئت (جمعية اتحاد علماء المسلمين في جنوب إفريقية) تنضوي تحتها معظم المؤسسات والجمعيات من الرموز الدعوية بشتى تياراتهم ومذاهبهم العقدية والفكرية، مما شكل قوة إسلامية لدى الحكومة من خلال اتحاد أهداف المسلمين العامة ومطالبهم، وكان ذلك على يد الشيخ نظيم - رحمه الله -، وهو أحد مؤسسي رابطة العالم الإسلامي، وفي بداية القرن الحادي والعشرين بدأ الاتصال القوي بين المسلمين في جنوب إفريقية والعالم الإسلامي، بعد أن كانت اتصالاتهم مركزة في اتجاه الهند وماليزيا، وأخذت بعض الحركات الإسلامية تتجه إلى هناك، فظهرت النقشبندية التي كان لها أتباع قليلون بدعم من الجمعيات الإسلامية التركية، وظهر الإخوان المسلمون، كما ظهر الاتجاه السلفي الذي يهتم بالعلم الشرعي.

 

المشاركة في القرار:

رابعاً: انخراط المسلمون في جنوب إفريقية في الحياة هناك، واندماجهم مع المجتمع سواء كانوا من السود - الأغلبية - أو من (البيض) الأمر الذي جعلهم جزءاً من نسيج المجتمع الجنوب إفريقي، عكس الجاليات المسلمة في أوروبا وأمريكا التي ذاب بعضها تماماً في المجتمع كما حدث للمهاجرين الأوائل، أو العزلة عن المجتمعات الأوروبية خوفاً من الذوبان، ولكن الجالية المسلمة في جنوب إفريقية - والتي يصل تعدادها إلى المليون نسمة من أصل (44) مليون جميع سكان البلاد - منخرطة تماماً في الحياة، وتمارس دورها الاجتماعي والسياسي بفعالية، وتلعب مؤسساتهم دورها في التأثير على صناعة القرار، ويساعدهم على ذلك أن معظم المسلمين من الأثرياء الذين يملكون رؤوس الأموال الكبيرة، ومن الطبقة المتعلمة، فمنهم الأطباء والمهندسون والمعلمون، وهذا التعليم العالي أوجد نوعاً من الوعي بأهمية دور الجالية في المجتمع، وتأثيرها عليه، فهناك أكثر من ألفي طبيب مسلم، و"اتحاد الأطباء المسلمين" يجمعهم، كما أن هناك طبقات فقيرة من المسلمين ذوي البشرة السوداء، ولكن يجدون الدعم والمساندة من إخوانهم، ويستثمر أثرياء المسلمين أموالهم في العقارات وتجارة السجاد، وتشييد المصانع مثل صناعة الملابس، ولديهم الكثير من توكيلات السيارات، ونشاطهم ظاهر وملموس في تجارة الذهب والألماس، ويُعدّ المسلمون من ذوي الأصول الهندية الأكثر ثراءً وتعليماً، وهؤلاء يتمركزون في العاصمة جوهانسبرج، أما المسلمون ذوي الأصول المالوية فهم الأقل ثراءً، بل معظمهم من الفقراء، ويتمركزون في (الكاب)، وعموماً لا توجد تقسيمات إحصائية تحدد نسبة المسلمين الهنود من المالويين، وإن كانت الفئة الأولى الأكثرية، وهم الذين يشيدون المساجد التي يبلغ عددها أكثر من خمسمائة مسجد، كما أن لديهم مدارس إسلامية راقية جداً ذات إمكانيات كبيرة، وتوصف بأنها من أفضل المدارس التعليمية على مستوى البلاد ولها سمعة جيدة.

ولذلك لا تجد المسلمين في جنوب إفريقية يطلبون مساعدات أو معونات مادية من العالم الإسلامي، بل هم يقدمون هذه المعونات، وهو الأمر الذي انعكس على وضعية الجالية وقراراتها، وتميز نشاطها، وعدم تابعيتها لتيار من التيارات، أو عدم اختراقها من الخارج.

 

إشكالات وقضايا:

ولذلك نجد مطالب المسلمين هناك تنحصر في طلب مصاحف من أرض الحرمين الشريفين خاصة من طباعة مجمع الملك فهد لطباعة المصحف في المدينة المنورة، وترجمات معاني القرآن الكريم باللغة الإنجليزية والأوردية، والمالوية والكتب الدعوية، وأشرطة القرآن الكريم بصوت أئمة الحرمين الشريفين.

ومن أكبر المشكلات التي تواجه الجالية المسلمة هناك قضايا فقه الواقع، والنوازل وما يستجد من مستحدثات العصر، فمعظم مرجعيات الجالية من الأحناف الذين يفتقرون إلى الاجتهاد في قضايا النوازل، وهم من كبار السن ومن المتأثرين بالمدرسة الديبوندية، وقد ظهر جيل من الشباب المسلم المتعلم والمتفتح على علماء الأمة، وأخذ في طرح القضايا المعاصرة والتفقه فيها، والأخذ بفقه الأقليات الذي أصّل له المجمع الأوروبي للإفتاء نظراً لأن الجالية أقلية، وتعيش في وسط مجتمع أغلبية غير مسلمة، وهذا أوجد نوعاً من التماس بين فكر الشيوخ الدبونديين والبريالوية، وبين الشباب المسلم المنفتح على مذاهب ومدارس فقهية أخرى لها اجتهاداتها، ويحظى المسلمون بحس سياسي كبير، ومشاركة فاعلة ومدروسة، ومن ذلك دور الجالية المسلمة المؤثر في "قمة الأرض"، والتصدي لمشاركة إسرائيل فيها الأمر الذي دفع الولايات المتحدة للانسحاب تضامناً مع إسرائيل، فقد استطاع المسلمون بالتعاون مع الجمعيات المناوئة للتمييز العنصري تنظيم التظاهرات المناهضة لإسرائيل وأمريكا والمؤيدة للقضية الفلسطينية أثناء القمة.

ومن الإشكاليات التي تواجه المسلمين في جنوب إفريقية قضايا "الربا"، و"التأمين على الحياة"، والقضايا الطبية، ومشكلات اجتماعية مثل الزواج وغيرهاº الأمر الذي جعل مرجعياتهم من الشباب يلجؤون إلى الفتاوى الصادرة من هيئة كبار العلماء في السعودية، أو من مجلس الإفتاء الأوروبي، أو مجمع البحوث الإسلامية بمصر، ومجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة للأخذ بها، مع وجود بعض الاجتهادات الشاذة جداً نتيجة الانغلاق والبعد عن دائرة الاجتهاد الشرعيº مما جعل آراء شاذة ومنكرة كالشذوذ الجنسي، وإمامة المرأة للرجال في الصلاة، وعدم مشروعية الحجابº متداولة في بعض الأوساط.

 

الانخراط في السياسة:

ويمارس المسلمون في جنوب إفريقية نشاطهم السياسي بفعالية، بل يمكن القول: إنهم منخرطون في العملية السياسية، وفي الوزارة أكثر من أربعة وزراء من المسلمين، ويوجد عشرة سفراء يمثلون بلادهم في الخارج، وهناك عضوية ملموسة من المسلمين في حزب المؤتمر الوطني الحاكم، ولكن هناك من انضم إلى أحزاب أخرى واستطاع المسلمون تجاوز عملية الفصل العنصري بعد سقوط هذا النظام، فبعد أن كانوا يعيشون في كانتونات، وممنوع عليهم الانخراط في المجتمعº صاروا أكثر اندماجاً في المجتمع، والمعروف أن الإسلام انتشر في جنوب إفريقية قبل ثلاثمائة سنة عندما كانت مستعمرة هولندية، وكانت هولندا في ذلك الوقت تحتل ماليزيا وإندونيسيا، فانتقل العديد من المسلمين للعمل بالتجارة في جنوب إفريقية، وتمركزوا في "كيب تاون" التي تقع بين المحيطين الهادي والهندي، ثم تحولت جنوب إفريقية إلى مستعمرة إنجليزية فسافر الكثير من المسلمين الهنود، وتمركزوا في مدينة "ديربن" الواقعة على المحيط الهندي، وكان لهؤلاء الدور الكبير والمؤثر في نشر الإسلام.

وشكل النظام العنصري حاجزاً ضد نشر الإسلامº إذ ضيق على حركة المسلمين والمؤسسات الإسلامية، وكان الانتقال إلى مجتمعات الأفارقة لنشر الإسلام في منتهى الصعوبة، وبعد سقوط هذا النظام بدأت الحركة الدعوية في نشر الإسلام فدخل الآلاف في دين الله أفواجاً، ويُلاحظ أن هناك مساعي للفصل بين المسلمين على أساس عرقي كالأفارقة والهنود والمالوية، وهو ما يجعل من يزور البلاد زيارة سريعة فيصدر أحكاماً ضد عرق أو فئة على أخرى بسبب انطباع عاطفي بعيد عن الحقيقة المادية لواقع المسلمين هناك.

يبقى أن أقول إن المسلمين في جنوب إفريقية محل استهداف طوائف ودول كثيرة بدأ ينعكس بشكل سلبي خلال الفترة القليلة الماضية من خلال إضعافهم، وتفكيك وحدتهم.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply