استراتيجية العمل الثقافي الإسلامي في الغرب


  

بسم الله الرحمن الرحيم

 الكتاب الذي نتناوله اليوم بالعرض والتحليل·· هو كتاب <استراتيجية العمل الثقافي الإسلامي في الغرب>··· الذي أصدرته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكو ـ أخيراً·· ويقع الكتاب في 144 صفحة من القطع المتوسط·· وقد وضعه مجموعة من خبراء <الإيسيسكو> ووضع مقدمته الدكتور عبد العزيز التويجري المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة··· والكتاب في جوهره وثيقة حيّة من وثائق العمل الإسلامي المعاصر·

والكتاب ثمرة جهد كبير، شارك فيه عدد لا بأس به من العلماء والمفكرين، الذين عقدوا الكثير من الاجتماعات الفكرية عبر السنوات القليلة الماضية··· حيث أكدت المناقشات، التي عقدت في كل من فرنسا وأسبانيا وبلجيكا··· على ضرورة إعداد استراتيجية للعمل الثقافي الإسلامي في الغرب··· وقد تم إنجاز هذه الاستراتيجية في اجتماع ضمّ رؤساء المراكز والجمعيات الإسلامية في الغرب··· خلال اجتماع في مدينة <زغرب> في كرواتيا مع لجنة من خبراء <الإيسيسكو>··· ثم عُرضت بعد ذلك على مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية··· إلى أن عُرضت على مؤتمر القمة الإسلامية التاسع الذي عقد في مدنية <الدوحة> عاصمة قطر في نوفمبر العام 2000م، فأقرَّها··· وبذلك أصبحت هذه الاستراتيجية دليلاً على وعي الأمة وإرادتها الجماعية لحماية الهوية العقائدية للجاليات والأقليات المسلمة في الغرب·

 

الأصالة والمعاصرة

ترتكز استراتيجية العمل الثقافي الإسلامي في الغرب··· على التلاحم بين مبدأي الأصالة والمعاصرة·· حيث تعمد إلى ترسيخ قيم الانتماء العقدي والحضاري من جهة، وعلى الانفتاح على مستجدات العصر من جهة أخرى··· كي لا تنقطع صلة الأجيال المسلمة في الغرب بماضيها وفي الوقت نفسه لا تتقاعس عن مواكبة زمانها··· كما ترتكز على أن البناء الحضاري لأي مجتمع من المجتمعات··· يجب أن يقوم على العناية بمختلف الجوانب الثقافية والاجتماعية والتربوية·

 

خصوصية الواقع الإسلامي

وبما أن الجاليات المسلمة في الغرب··· تشكّل جزءاً من كيان الأمة الإسلامية··· وحيث إن وجودها لم يعد وجوداً موقتاً··· فإنه أضحى من الضروري العمل على حماية هويتها الحضارية وبيان آفاق علاقتها بالمجتمع الذي تعيش في نطاقه وحضارته··· لذا نالت الجاليات والأقليات المسلمة في الغرب··· مساحة كبيرة وحيزاً واسعاً من اهتمامات الأمة ومؤسساتها عن طريق تقديم الدعم اللازم لها··· ومعالجة القضايا التربوية والثقافية والعمل على توضيح قيم الإسلام ومزاياه التشريعية وسهولة تعاليمه الربانية ورسالته الهادية··· والعمل أيضاً على تصحيح صورة الإسلام من التشويه وحماية صحوته··· وذلك بتوحيد الجهود وتقريب الرؤى وتنسيق المواقف بين العاملين في مجالات الدعوة والتعليم والتثقيف الإسلامي في الغرب·

فإذا كانت دواعي إقرار استراتيجية العمل الثقافي الإسلامي في الغرب··· تعود إلى ضرورة تخطيط مناهج العمل التثقيفي التي تستهدف الحفاظ على الهوية الإسلامية··· فإنها تستجيب أيضاً لدواعي تعود لخصوصيته الواقع الذي تعيشه الجاليات والأقليات المسلمة في الغرب وما يحيط به من تحديات تتمثل في المخططات الغربية التي تستهدف <إدماج> الجاليات والأقليات المسلمة هناك في النظام القائم باختياراته العلمانية وأخلاقه الوضعية·

 

العولمة الثقافية

يؤكد الكتاب··· على أن مخطط إدماج الأقليات المسلمة في الكيان الثقافي الغربي··· غالباً ما كان يلقى معارضة ومقاومة كبيرة من المسلمين··· بسبب حرص الجاليات والأقليات المسلمة على التمسك بذاتيتها الثقافية وخصوصيتها الإسلامية الأصيلة··· غير أن هذا الحرص من جانب المسلمين في الغرب··· لا يعني انغلاقاً على الذات أو انعزالاً عن المجتمعات الغربية··· حيث برهنت الجالية المسلمة في الغرب·· على قدرتها على الاندماج الاقتصادي وقدرتها على التعايش مع سكان المجتمعات الغربية·

ولما كانت التحولات العالمية الأخيرة··· ومنها طموح العولمة الاقتصادية في أن تفرض أنموذجاً للعولمة الثقافية على المستوى العالمي··· لذا فإن هذا الطرح الثقافي الجديد سيصطدم بثقافات الشعوب الأخرى ومنها الثقافة الإسلامية··· وإذا كان <التوحيد الثقافي> بمثابة خطر جديد يواجه الأمة الإسلامية··· فلا بد للأمة وهي تواجه هذه الأخطار أن تسعى جاهدة لحماية الجاليات والأقليات المسلمة التي تعيش في مجتمعات غير إسلامية··· وذلك حتى لا تتعرض لأخطار الذوبان أو التذويب أو التغريب الفكري واللغوي والعقائدي·

 

الوجود الإسلامي

عن الوجود الإسلامي في الغرب، تناول الكتاب الكثير من الحقائق المهمة··· في مقدمها أن الإسلام قد أصبح إحدى الديانات السماوية الحاضرة في الغرب··· ويكاد يكون هو الديانة الثانية من بعض الدول الأوروبية··· وأن معدلات الولادات لدى الجاليات الإسلامية تفوق في بعض المناطق مثيلاتها لدى الأسر الغربية·

وأضاف: أن الوجود الإسلامي في أوروبا··· غدا واقعاً حياً مستقراً يضرب بجذوره في أجزاء من أوروبا التي عاشت ردحاً من الزمان في ظل الإسلام··· وأن هذا الوجود الإسلامي بواقعه وقضاياه··· بات يمثّل ثقلاً بشرياً وحضارياً يستأثر باهتمامات المسئولين في العالم الإسلامي وفي المجتمعات الغربية··· وأمام ذلك عملت الأمة على إيجاد إستراتيجية لحماية الهوية الثقافية للجاليات المسلمة من الاستلاب الفكري الذي يهدد الأجيال المسلمة ويهدد معتقداتها الدينية··· والعمل المستمر على تقديم الزاد المعرفي والروحي والأخلاقي الذي سينير الطريق لأبناء الجاليات والأقليات المسلمة··· انسجاماً مع الوسطية الإسلامية وتفادياً للسقوط في متاهات التفريط أو الإفراط·

 

التعامل مع الأخر

يؤكد خبراء <الإيسيسكو> في هذا الكتاب·· أن النشاط الثقافي الإسلامي في الوسط الأوروبي··· مسموح به في حدود عدم إحداث تغيير في بنيات المجتمع··· وإلى مستويات لا تسمح بنزوغ منظومة إسلامية التوجه أو كيان سياسي مستقل··· فالمسألة بخصوص الإسلام ليست مسألة وجود··· وإلا لما سمح لمؤسساته ومعتنقيه بمكتسبات ومجالات عمل واسع··· بل المسألة مسألة مرجعية في صياغة تعليم الأجيال وتثقيفها·

ويؤكد الكتاب أن الإسلام أصبح حاضراً في أوروبا بقوة سكانية من جهة··· وقوة ثقافية من جهة أخرى إلى درجة دفعت ببعض المتطرفين في أوروبا إلى الادعاء أنهم أمام غزو ديني أو استعمار عقدي!!

 

مرض الخوف من الإسلام

ودعا الكتاب إلى تصحيح النظر إلى المجتمع الأوروبي باعتباره ليس علمانياً صرفاً··· فالمؤسسات الدينية في الغرب لها نفوذها وقوتها··· ويلزم الحرص على التعاون معها تحقيق الكثير من المكتسبات المشتركة··· وأن المجتمع الأوروبي مجتمع متفتّح على الرغم من الأزمان العارضة··· ويلزم كسب الكثير من الأنصار ـ من داخله ـ لصالح الجاليات والأقليات المسلمة··· وأن المجتمع الأوروبي مصاب ـ عبر تغذية إعلامية مستمرة ـ بمرض الخوف من الإسلام··· وأن تنمية معارف المسلم بالآخر وثقافاته وتاريخه··· كفيل بإزالة هذا المرض أو هذا الخوف··· كما أنه مجتمع قلق على مستقبله··· حيث يعتبر الإسلام بقوته السكانية وقوة اختراق عقيدته للقلوب مهدداً له·

 

نقد الذات

ويستعرض الكتاب في صراحة واضحة بعض مواطن الخلل في معالجة قضايا الجاليات والأقليات المسلمة في الغرب··· ويركّز في هذا المجال على آفتين هما: ضعف المكتسب وسرعة تجريم الآخر والسعي لتبرئة الذات فيقول:

لقد ألفنا اتخاذ مواقف مرتجلة عند تشعّب القضايا··· وروّضنا أنفسنا على منهج السعي إلى تجريم الآخر وتبرئة الذات وتبادل تهم التفريط بين أطراف الذات··· كل منها يلقي بالمسؤولية على الآخر دون عزم على تغيير في المنهج والأسلوب وآليات التفكير وأدوات العمل·

 

نظرة الغرب للإسلام

تحدّث خبراء <الإيسيسكو> في الكتاب··· عن صورة الإسلام الحالية في الغرب··· فأكدوا أنها صورة تكونت نتيجة الموروث التاريخي الذي هيمن وترسّخت تراكماته في العقلية الغربية وجعلتها أسيرة مواقف وتصورات غير منصفة وغير موضوعية وتكون في أحيان كثيرة مغرضة·

إن الأفكار المغلوطة والصورة المشوّهة عن الإسلام في الغرب··· قد أفرزتها أحداث وأوضاع متشابكة لا تمت للإسلام بصلة··· كما أن الأفكار المسبقة عن الإسلام زرعت وترعرعت في أذهان كثير من الأوروبيين، دون أن تكون هناك أي محاولة لتصحيحها··· ولا شك أن الحكم المسبق على الإسلام والاعتماد على الروايات الشاذة لدعم الأفكار الخاطئة التي تجعل الإسلام في موضع الإدانة ··· كل ذلك عمل على تثبيت الصورة الخاطئة التي نراها اليوم ··· وقد عملت وسائل الإعلام الغربية على تغذية هذا الجو المشحون ··· بمحاولاتها الربط بين الإسلام وممارسة العنف والإرهاب··· وذلك لتخويف الغربيين من الإسلام·

وعلى الرغم من أن بعض الدول الأوروبية ··· قد خطت خطوات مهمة باعترافها بالإسلام··· وتم بالفعل في بعض الدول الأخرى إعطاء حقوق مدنيّة للمسلمين··· فإنه لا تزال هناك عراقيل ومعوقات كثيرة لتطبيق ذلك في دول أوروبية أخرى··· كما أن هناك استمراراً في اعتبار بعض المظاهر الإسلامية ـ كالحجاب ـ مثلاً··· رمز للتعصب والتحجّر الفكري!! وهناك من يرفض السماح للمحجبات بالمدارس بدعوى الحفاظ على مبادئ علمانية المدرسة الأوروبية!! وكرد فعل لذلك، نجد أن صورة الغرب لدى المسلم··· غالباً ما تكون مقترنة بالإحباط نتيجة عدم تطابق المفهوم من الواقع·

 

فتح أبواب الحوار

ويرى الكتاب··· أن تصحيح صورة الإسلام في الغرب وتخليصها من كل ما يشوبها··· هو من المهام المستعجلة المطروحة على الغرب وعلى المسلمين في آن واحد··· لأنه لا يمكن لهذه الفجوة بين الإسلام والغرب أن تستمر··· وأنه قد بات من الضروري فتح حوار حضاري وثقافي وديني بين الإسلام والغرب··· لكن دون أي استعلاء··· مع الاقتناع بأن المشروع الحضاري المعاصر··· يحتاج للإسهامات الغربية والإسهامات الإسلامية··· ولكي ينجح هذا الحوار، يجب أن تتخلى وسائل الإعلام في الغرب عن إلصاق تهمة الإرهاب إلى الإسلام والمسلمين··· كما لا يجوز أن تكون غاية هذا الحوار··· دعوة المسلمين إلى الاستسلام أو التخلي عن هويتهم الثقافية أو الانسلاخ من انتمائهم الحضاري·

 

لغة الأرقام

ويشير الكتاب إلى أنه لا تتوافر إحصاءات رسمية ودقيقة عن عدد المسلمين في الدول الأوروبية··· بل إن هناك اختلافات كبيرة بين الأرقام التي يقدمها مختلف الباحثين··· فهناك من يتحدث عن 26 مليون نسمة من المسلمين··· وهناك من يتحدث عن 16 مليون نسمة··· وهناك من يرجّح أن العدد قد يصل إلى 33 مليون نسمة··· بينما يرى بعضهم أنهم يشكلون 6.2% تقريباً من مجموع سكان أوروبا الغربية·

وربما يعود سبب هذا التفاوت الكبير في التقديرات، إلى أن بعضهم يدمج مسلمي أوروبا الشرقية والقسم الغربي من الاتحاد السوفييتي سابقاً ضمن مسلمي أوروبا··· وبعضهم الآخر يقصيهم··· وعلى أي حال، فإن هناك من الباحثين من يحدد عدد المسلمين في أوروبا الغربية بنحو تسعة ملايين نسمة، متمركزة في ست دول، بحيث نجد أن أعلى كثافة للحضور الإسلامي توجد في فرنسا··· حيث تبلغ نسبة المسلمين فيها أكثر من 5%، أما الخمس الدول الأخرى، فإن نسبة المسلمين فيها تفوق 2% من السكان··· أما بالنسبة لبعض الدول في شمال أوروبا، مثل السويد والدنمارك والنرويج··· فإن نسبة المسلمين فيها تصل إلى نحو 1%، وكذلك الأمر بالنسبة إلى سويسرا·· أما بالنسبة لدول جنوب أوروبا، مثل إيطاليا وأسبانيا والبرتغال، فإن عدد المسلمين بها مجتمعة لا يتجاوز 700 ألف نسمة·

وبالرغم من هذه التقديرات، فإن الكتاب يميل إلى ترجيح ما ذهب إليه كثير من الباحثين في الهجرة الإسلامية··· وهو اعتبار أن الإسلام أصبح ثاني أكبر الديانات في أوروبا بعد النصرانية··· فقد أصبح المسلمون عنصراً أساسياً في التكوين الديمغرافي لأوروبا··· وأن الإسلام قد تمَّ استنباته في أرض أوروبا، ولا يمكن اقتلاعه منها إلى الأبد·

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply