هولندا.. اغتيال الأقلية المسلمة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

لما أعلن المخرج السينمائي الهولندي "ثيو فان خوخ" قبل أشهر عن مشروعه السينمائي الجديد، بدا لكثير من النشطاء المسلمين في هولندا مستفزاً كعادته، غير أنهم أكدوا جميعاً أن هذا الرجل المعروف بنزعته اليمينية المتطرفة، وولعه الشديد بالتهجم على الإسلامº لن يجرهم إلى "حرب دينية"، وقالوا في مجملهم: إن أفضل الوسائل للرد على استفزازاته تجاهلها.

كان هذا تقدير قادة الأقلية المسلمة وعقلائها، لكن شاباً مغربياً لم يتجاوز السادسة والعشرين من عمرهº يؤكد كل من عرفه على أنه كان قليل العلم الشرعي، متواضع المعرفة بفقه الدين وأصوله وأركانه ومقاصده، قرر قلب المعادلة التي تعبر عن الأكثرية الكاثرة من مسلمي البلاد، وقدم - من حيث أراد خلاف ذلك - على طبق من ذهب المبررات الكافية لليمين المتطرف لتحقيق أهدافه العنصرية، ووضع أصوات العقلانية والحكمة في الزاوية الحرجة.

لقد شكلت هولندا طيلة العقدين الماضيين نموذجاً على الصعيدين الأوربي والغربي في احترام حقوق الأقليات الدينية والقومية وفي مقدمتها الأقلية المسلمة، مثلما هي نموذج في تبني مجموعة هائلة من التشريعات والإجراءات والقرارات التي فتحت الباب أمام أبناء الأقلية المسلمة لتطوير وجودهم على كافة الأصعدة، وفي كافة الاتجاهات، غير أن التصرفات غير المسؤولة لبعض المسلمين ظهرت كأنها تدفع الحياة العامة الهولندية نحو وجهة سلبية قاتمة، ستكون الأقلية المسلمة أكثر المتضررين منها.

 

الجهل عدو الإسلام الأول:

إن ما حدث مطلع الشهر الجاري من اغتيال مخرج مغمور كان قد أساء إلى مشاعر المسلمين بإخراجه فيلماً يجزم كل من شاهده على رداءة صنعته، وضعف قيمته الفنية، وبلادة رسالته الفكرية، ما كان ليرد للمسلمين كرامتهم المهدرة حسب اعتقاد القاتل، وما كان ليحمي الإسلام من هجمات عنصرية أخرى قد يتعرض إليها الدين الحنيف في المستقبل.

إن ما كان سيحقق الرد الراقي فعلاً هو مواصلة أبناء الأقلية المسلمة تحقيق الإنجازات الثقافية والسياسية والاقتصادية التي من شأنها أن تجلب الفخر لهم، وتشعر أجيالهم الناشئة بالعزة والقوة والثقة في النفس والعقيدة.

لقد حقق مسلمو هولندا بفضل مناخ التسامح والتعايش المتوفر في البلاد - رغم وجود اليمين المتطرف - الكثير من الإنجازات المتميزة في الفضاء الأوربي والغربي، بالإمكان إيجاز أهمها فيما يلي:

- ثمانية نواب من أصل مئة وخمسين في البرلمان الهولندي، بنسبة مئوية تفوق بقليل نسبة المسلمين إلى عدد السكان الإجمالي (مليون من ستة عشر مليوناً).

- أكثر من خمسين نائباً في المجالس المحلية للمدن الهولندية الكبرى.

- أكثر من أربعين مدرسة ابتدائية إسلامية ممولة من خزينة الدولة الهولندية، يتعلم فيها أكثر من ثلاثين ألف طالب مسلم.

- مدرستان ثانويتان إسلاميتان ممولتان أيضاً من خزينة الدولة الهولندية، ومدرسة ثالثة في طريقها إلى التأسيس.

- جامعتان إسلاميتان تدرسان الفقه والشريعة وسائر العلوم الإسلامية.

- أكثر من ثلاثمائة مسجد ومصلى ومركز إسلامي، تنتشر في أكثر من مئة مدينة وبلدة هولندية، وهو ما لم يتحقق في زمن كانت فيه الحضارة الإسلامية في عز قوتها.

- أكثر من ألف منظمة ثقافية واجتماعية إسلامية تقدم خدمات متعددة بكل حرية.

- أكثر من عشر منظمات للعمل الخيري الإسلامي، تجمع المساعدات المالية والعينية للمحتاجين والفقراء من المسلمين في مختلف أنحاء العالم.

- أكثر من نصف مليار يورو تصرفه الحكومة الهولندية سنوياً على مشاريع للنهوض بأوضاع المسلمين التعليمية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية والثقافية.

- تمتع النساء المسلمات بحقهن في ارتداء الحجاب، واضطلاع بعضهن بمهام ومسئوليات عامة في غاية الأهمية، فمن بين المحجبات الهولنديات من وصلت إلى مستوى مستشارة لدى وزير الداخلية، وأخريات وصلن إلى درجة القضاء والمحاماة وغيرها من المهن التي لا يحق للمحجبات في بعض الدول العربية والإسلامية ممارستها.

بعبارة موجزة: فإن الذي قام باغتيال المخرج "فان خوخ" يوم الثاني من نوفمبر الماضي قد وضع بفعلته الشنيعة هذه كل هذه الإنجازات التي تحققت - بفعل نضالات وتضحيات وعطاءات الكثير من أبناء الأقلية المسلمة - في دائرة الخطر بدل تعزيزها، تماماً مثلما حشر الأقلية المسلمة في زاوية الدفاع عن النفس، تتلقى اللكمة وراء الأخرى، بدل مساعدتها على تحصيل المزيد من الحقوق وتحقيق المزيد من الإنجازات.

 

البداية حرق المساجد وتفجير المدارس:

إن الذين يموتون بشتى الأمراض والأوبئة في هولندا يعدون بالآلاف يومياً، وربما كان "فان خوخ" - لو لم يجر اغتياله - من بين هؤلاء، غير أن هؤلاء الذين يموتون ميتة طبيعية لا يلحقون ضرراً بأحد من بعدهم، خلافاً لميتة فان خوخ التي خلفت وراءها أجواء أشبه بأجواء الحروب والمواجهات الأهلية المدمرة.

لقد بادر العنصريون الهولنديون إلى استغلال ميتة فان خوخ مثلما تسول لهم أنفسهم، فبدءوا بحرق المساجد، وتفجير المدارس الإسلامية في شمال البلاد وجنوبها، وفي شرقها وغربها (15 مسجداً على الأقل في عدة مدن هولندية ومدرسة إسلامية في إيندهوفن)، وقد ظهر على أبناء الأقلية المسلمة المنتشرين في كافة أنحاء هولندا تقريباً الفزع على أبنائهم، وأنفسهم، وممتلكاتهم، وبشكل عام حاضرهم ومستقبلهم.

ويتساءل بعض أبناء الأقلية المسلمة اليوم عما إذا كان عقل قاتل فان خوخ قد صور له - ولو قليلاً - بعض تداعيات فعلته والأضرار الجسيمة التي ستلحقها حماقته بالمسلمين، أم أنه قد اطمأن إلى أن عقلانية الهولنديين لن تفلت أبداً من عقالها، واعتمد على صلابة الموقف الأخلاقي - لمن يصورهم بمكانة الكفار والمشركين - في لجم النزعات العنصرية المتطرفة، وحماية المصالح الإسلامية؟!.

ويتساءل مسلمون هولنديون آخرون عما إذا كان منفذ عملية الاغتيال ضد المخرج السينمائي - ومن فكر على شاكلته - يعتقد بأن التصفية الجسدية قادرة فعلاً على حماية الإسلام والمسلمين من استفزازات المستفزين، وحقد الحاقدين، أو يظن أن قتل كاتب أو مثقف أو سينمائي سيرهب آخرين ينوون السير في طريق الهجوم والاستفزاز، ليتراجعوا عن مخططاتهم وأفكارهم.

إن كل من يعرف "فان خوخ" ورفيقة دربه النائبة البرلمانية الهولندية من أصل صومالي "أيان هيرسي علي" يعلم أنه ربما كان يتمنى تحرش المتشددين من المسلمين به، فتحرش المتطرفين أصبح منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 - وربما منذ صدور فتوى الخميني ضد سلمان رشدي - أفضل وسيلة لتحقيق النجومية، ونيل الشهرة، وما يستتبعها من أرباح معنوية ومادية، ولعله من قلة العقل واضطراب النظر أن يقع بعض المسلمين في الفخ، فيجلبون إلى عقيدتهم الضرر من حيث يظنون أنفسهم غيورين على حرماتها.

 

سجن المسلمين جميعاً:

إن أخطر ما يمكن أن ينتج عن عملية اغتيال المخرج فان خوخ هو عدم الاكتفاء بالحكم بسجن القاتل عدة سنوات أو مدى الحياة مثلما يقضي بذلك القانون الجنائي الهولندي (الذي ألغى منذ عقود عقوبة الإعدام)، إنما الحكم بطريقة غير مباشرة وعملياً بسجن كافة المسلمين من خلال وضع قوانين وتشريعات جديدة تزرع الحواجز والمتاريس أمام مختلف جوانب حياتهم وأنشطتهم، وتحد من قدراتهم على النماء والتطور.

وإن ما يجعل المتابع يتوقع صدور مثل هذا الحكم المبطن ظهور مؤشرات عدة في أروقة الحكومة والبرلمان ووسائل الإعلام الهولنديةº توحي برغبة جامحة لدى أطراف حزبية وسياسية كثيرة في محاصرة تحركات أبناء الأقلية المسلمة، والتضييق أكثر ما يمكن على دوائر النشاط والحركة لديهم، ومن هذه المؤشرات ما يلي:

- منح الأجهزة الاستخباراتية والأمنية المزيد من الاعتمادات المالية لتكثيف الرقابة على نشطاء الأقلية المسلمة.

- الدعوة إلى سحب الجنسية الهولندية من أولئك الذين يحملون جنسية مزدوجة من المسلمين، والذين يشك في انتمائهم لجماعات إرهابية، أو تورطهم في أعمال تخل بالأمن العام.

- الدعوة إلى طرد أئمة ووعاظ وخطباء بحجة انتمائهم لجماعات متطرفة، وقيامهم بأنشطة مريبة، وهو ما حدث فعلاً يوم 17- 11- 2004 حين قررت وزارة الهجرة الهولندية طرد الجزائري عبد الحميد يوشيما من الأراضي الهولندية بدعوى تحريضه على أعمال عنف ضد الهولنديين خاصةº والغربيين عامة مما يشكل تهديداً على الأمن العام.

-  الدعوة إلى تشديد الرقابة على أنشطة المساجد والدروس التي تلقى فيها - بما في ذلك خطب الجمعة - بحجة تشجيع بعضها على العنف والإرهاب والكراهية.

-  الدعوة إلى تفقد المناهج الدراسية المعتمدة في المدارس الإسلامية، وخصوصاً ما يتعلق منها بمواد التربية الدينية.

-  الدعوة إلى فرض الرقابة على منظمات العمل الخيري الإسلامي، ومراقبة حركة المال والأعمال التي لها علاقة بالمسلمين.

-  المطالبة بتشديد شروط الحصول على تأشيرة الدخول إلى هولندا أمام الوعاظ والأئمة والخطباء بشكل خاص، والمواطنين القادمين من الدول الإسلامية بشكل عام.

- المطالبة بتسهيل إجراءات الاعتقال واقتحام المساكن التي يعتقد أن لها صلة بجماعات إسلامية متطرفة.

- المطالبة بفرض المزيد من القيود أمام طالبي اللجوء السياسي - وغالبيتهم من المسلمين -، والامتناع الكامل عن قبول طلبات اللجوء الخاصة بالمنتمين لجماعات وحركات إسلامية.

- مطالبة البلديات بالامتناع عن منح مزيد من التراخيص لبناء المساجد والمراكز الإسلامية.

ولعل الظاهر في كل هذه الدعوات والمطالب أن معظمها ما زالت لم تخرج بعد من الحيز النظري إلى الحيز التطبيقي، وأن بعضها لم يكن سوى رد فعل آني ومؤقت على مقتل المخرج السينمائي، غير أن دلائل كثيرة تحفل بها الحياة السياسية الهولندية الراهنة تثبت أن تشريعات جديدة - تستند في فحواها إلى مثل هذه المطالب والدعوات - هي في طريقها إلى المصادقة البرلمانية، وأن أحزاباً سياسية كبيرة بينها من يشارك في الحكومة الائتلافية تراهن كثيراً على استصدار - ولو جزئي - لمثل هذه القوانين والتشريعات الجديدة.

لقد وفر قاتل "فان خوخ" فرصاً ذهبية لأحزاب اليمين الهولندي - المتطرف منها والمعتدل على السواء - لإيقاف تقدم الأحزاب اليسارية المعروفة بتعاطفها مع قضايا الأجانب، التي كانت استطلاعات الرأي إلى وقت قريب تمنحها الفوز والريادة، وكذلك للمضي قدماً في إحياء مشاريع قوانين عنصرية لم تفلح محاولاتها طيلة السنوات الفائتة في الحصول على أغلبية لتمريرها.

وخلاصة القول: إن القاتل الذي زعم أن دوافع دينية مقدسة تقف وراء فعلته قد وفر لأشد أعداء الأقلية المسلمة التي ينتمي إليها - والأقليات الأجنبية عامة - مبررات للتطهر السياسي والاجتماعي على حساب الضحايا الحقيقيين، والتحول إلى قديسين وحماة حضارة من همجية وبربرية المسلمين - الذين هم في واقع الأمر أضعف وأفقر طبقة من طبقات المجتمع الهولندي -.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply