الصليبية 'البوشينية' الجديدة في أوروبا: ألمانيا نموذجاً


 

بسم الله الرحمن الرحيم

فولفجانج هوبر ليس شخصية عادية في ألمانيا الديمقراطية التي تنتمي إلى العالم الحر والمتحضر، وإنما قيادة دينية مسيحية كبيرة، فهو يرأس "مجلس الكنيسة البروستانتية" في ألمانيا، وهذا المجلس يتمتع بمكانة اعتبارية مؤثرة، إذ إنه يمثل 26 مليون مسيحي ألماني، أي أن ما يقوله لا يمثل رأيه الشخصي وإنما يمثل تياراً واتجاهاً عاماً داخل المجتمع الألماني.

وصف هوبر في حوار له نشر في عدد الأسبوع الماضي من مجلة "فوكوس" مسلمي ألمانيا بـ"الضيوف المخيفون"، وانتقى الصحفي المحاور له كل ما من شأنه إخراج ضغينة الزعيم المسيحي البروستانتي تجاه الإسلام والمسلمين مثل رأيه في الآية الرابعة والثلاثين من سورة النساء والتي تتضمن "ضرب الزوجة الناشز"، ولأن المحاور جاهل بالإسلام، ولا يبتغي من سؤاله غير الإثارة والتهييج، ولأن هوبر لا يقل جهلاً عن محاوره، بل ويزيد على جهله حقده وكراهيته للإسلامº فإنه تكلم باستعلاء وعنجهية وعنصرية بالغة الاستفزاز، بل إنه لم يراع الأدب واللياقة وهو يتحدث عن الإله الذي يعبده أكثر من مليار مسلم على وجه الأرض، ولا على قدسية كتابه العزيز، بل دعا إلى ضرورة تغييره، معتقداً أن القرآن شأنه شأن إنجيل زعيمه الروحي "مارتن لوثر" الذي ألف إنجيلاً خاصاً بالبروستانتية اعتبره المؤرخون القدامى والجدد إٍ,حياء لليهودية داخل العالم المسيحي.

فرداً على سؤال للمجلة عن الآية المشار إليها من سورة النساء قال هوبر: "إنها لضرورة ملحة أن تحدث عملية تغيير في الإسلام تتعلق بأصوله، ولكن عندي انطباع أن الرأي السائد لا يسمح بتوجيه انتقادات موضوعية لأقوال القرآن".

وأعرب الزعيم المسيحي البروتستانتي الذي يمثل 26 مليون مسيحي ألماني عن رفضه لأن تتحول الكنائس غير المستخدمة والمعروضة للبيع إلى مساجد، "لأن ذلك سيعطي انطباعاً بأن الفرق بين الإسلام والمسيحية ضئيل، وأن المسيحيين والمسلمين يصلون لنفس الإله، ولكننا نحن المسيحيون لا نجد مبرراً لنقول إننا نعبد نفس إله المسلمين".

وإذا كان هذا الكلام قد يعتبره البعض طبيعياً لرجل دين ينحاز بطبيعته إلى فكرة "التميز الديني"، فما بالنا بكلام مشابه لقيادة علمانية ألمانية شغلت من قبل أعلى منصب سياسي في برلين وهو المستشار الألماني السابق "هيلمون شميدت"، والذي ينتمي إلى الحزب الديمقراطي الاشتراكي الحاكم، إذ قال في تصريحات أدلى بها لصحيفة "هامبورجرآبند بلات" المسائية: إن بلاده ارتكبت خطأ عندما استقدمت في ستينات القرن الماضي أيد عاملة من دول إسلامية، "لأن الديمقراطية لا تنسجم مع المجتمع متعدد الثقافات"، وهي تصريحات لاقت من قبل بعض المنصفين الألمان - و"قليل ما هم" - ردود فعل عنيفة، حتى داخل أعضاء من داخل حزبه الاشتراكي الديمقراطي، لأنها تنكر فضل هؤلاء العمال على "المعجزة الاقتصادية الألمانية" كما صرح سياسيون واقتصاديون ألمان.

وهي تصريحات أهديها لدعاة الحداثة والتنوير العربية من الذين يقدمون التحيات، ويقيمون الصلوات "طرفي النهار وزلفاً من الليل" للنموذج الديمقراطي الغربي للتعايش بين الثقافات المتعددة، باعتباره النموذج الأكثر تسامحاً لهذا التنوع والتعدد.

أئمة المساجد التابعة للدولة التركية في ألمانيا استشعرت الخطورة، وقدمت مبادرة طيبة للبرلمان المحلي لولاية "شمال الراين واستفاليا" عندما كان يناقش الأخير قضايا حول الإسلامº تقترح فيها صيغة للتعايش مستوحاة من الوحي القرآني و"ثقافة البر والقسط" مع المخالفين دينياً سميت "إسلام ألماني"، وهو مصطلح يختزل الكثير من التفاصيل، ولعله يوحي بالرغبة في الانتظام السلمي والطوعي داخل النسيج الاجتماعي الألماني، وعدم الصدام معه، غير أن مفوض حكومة الولاية لشؤون الأجانب "كلاوس ليفرنجهاوزن" رفض المبادرة، واستخدم لغة ومفردات غبية واصفاً إياها بأنه "طلب نازي"!!

المستشار الألماني الحالي أصيب بالذعر من "العنصرية الدينية" الألمانية التي بلغت حد الهوس، وبات يشعر بخطورة تحريك المشاعر الصليبية التي أججها الرئيس الأمريكي جورج بوش، وتحدث الرجل وبصراحة شديدة أمام البرلمان "بوندستاج" عن مخاوفه مما سماه "إعلان حرب صليبية في الداخل والخارج"، في إشارة منه إلى محاولات المعارضة المسيحية الديمقراطية الربط بين رفضها لانضمام تركيا إلى الإتحاد الأوربي وانتماء الأولى للإسلام.

ويبدو أن بعض العقلاء كان شديد الوعي بخطورة هذا الحشد السياسي والإعلامي والنخبوي تحت راية "الصليبية البوشية" الجديدة في ألمانيا، إذ انضم إلى المستشار الألماني الحالي "جيرهارد شرويدر" رئيسة الكتلة البرلمانية لحزب الخضر الشريك الصغير في حكومة شرويدر "كريستا زاجر" عندما انتقدت بشدة لجوء بعض السياسيين لاستخدام "أسلوب غير مناسب" على الإطلاق في الحديث عن المسلمين في ألمانيا، رافضة "أن ينزلق أحد أرجلنا للمشاركة في هستيريا من حرب دينية عالمية".

وبالمناسبة فإن بوش الذي أيقظ هذا الهوس الديني العنصري في العالم الغربي كان جاداً في "صليبيته"، ولم يدافع الرجل عن نفسه ضد هذه "السبة"، فإذا كان قالها عقب تفجيرات سبتمبر، واعتبرت في حينها "زلة لسان" خرجت منه تحت تأثير الصدمة والغضب والانفعال، فإنه عاد وكررها في فبراير من العام التالي للأحداث، والمثير للغثيان أن الليبراليين العرب تصدوا بحماس للدفاع عن بوش "مجاناً" أو "استئجاراً" رغم أنه تحلى بالبلادة و"قلة الذوق" في هذا الأمر تحديداً.

وفي هذا الإطار نشرت الحياة اللندنية في 28/11/2004 ، لـ جورج طرابيشي عرضاً لكتاب صدر حديثاً في باريس لمؤلفه "ماكسيم ليفيبفر" بعنوان "السياسة الخارجية الأمريكية" نقل طرابيشي من الكتاب هذا النص: " .. وكما كان لاحظ هنري كسينجر، فإن قدر الولايات المتحدة هو الاضطلاع بعبء دورين: دور "المنارة" عندما ترجح كفة الانعزالية، ودور "الصليبية" عندما ترجح كفة المسيحانية، وبهذا المعنى تحدث الرئيس بوش - ولم تكن فلتة لسان - عن "حرب صليبية" ضد "محور الشر" والإرهاب، مؤسساً بذلك ما أسماه بعض الباحثين "دبلوماسية الحق الإلهي".

مؤلف الكتاب فرنسي نصراني، وعارضه بالحياة نصراني عربي، ما يعني أنه جاء من قبيل ".. وشهد شاهد من أهلها".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply